«إسرائيل» تعطّش غزة: قصة حرب معلنة

الخميس 14 كانون الأول 2023
خلال العدوان، وصلت حصة الفرد في غزة من المياه إلى 3 لترات يوميًا في أحسن الأحوال. تصوير محمد الزعنون.

قبل أن تستأنف بلدية جباليا إعادة تأهيل مضخة الهوابر التي تستخدم لاستخراج المياه الجوفية في منطقة بئر النعجة شمال غزة بعد تضررها في عدوان 2021، خرجت هذه المضخة عن الخدمة بشكل كامل خلال الحرب الحالية. وخرجت معها كذلك محطة تحلية للمياه فيها خزان بسعة 250 ألف لتر جرّاء القصف واشتعال النيران الناجم عنه، وبئر وخزان مياه تل الزعتر الذي انفجرت مياهه لتغرق الشوارع في مدينة يجازف الناس بحياتهم فيها من أجل الحصول على كوب مياه للشرب. 

«نتحدث عن كارثة بيئية يمكن أن تقضي على مربعات ومجمعات سكنية بأكملها»، يقول مازن النجار، رئيس بلدية جباليا النزلة، والتي تعجز اليوم عن تقديم خدمات أساسية، مثل تزويد السكان بمياه صالحة للاستخدام. 

خلال سنوات الحصار، أحكمَ الاحتلال الإسرائيلي قبضته على المصادر المائية في غزة، وفي الحرب الحالية استهدفها بصواريخه، ليدمر عشرات الآبار ومحطات التحلية والمعدات و30 كم طوليًا من الطرق بما تحتويه من شبكات مياه وصرف صحي وخطوط ناقلة. 

من أين تحصل غزة على مياهها؟ 

قبل الحرب، كانت غزة تعتمد بنسبة 84% على الآبار الجوفية كمزوّد رئيسي للمياه، بينما تحصل على 12% من خطوط أنابيب المياه الإسرائيلية المشتراة و3% من محطات تحلية المياه. ولا تساهم المياه السطحية في الاستخدامات المختلفة، إذ يعاني كلٌ من وادي بيت حانون ووادي السلقا ووادي غزة من الجفاف. وقد جفت هذه الأودية جرّاء إعاقة الاحتلال الإسرائيلي التدفق الطبيعي لمياه الوادي إلى القطاع من خلال بناء السدود الاستنادية ومخططات التحويل. كما عمل على إغراق مناطق قطاع غزّة الحدودية وأراضيها الزراعية بالمياه العادمة القادمة من المستوطنات وعلى بناء عشرات الآبار على حدود غزة ليخفّض مستويات المياه في الخزان الجوفي للقطاع.

يمتد حوض المياه الجوفية الساحلي على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط من حيفا حتى رفح، ويتغذى من أمطار الشتاء والتي يصل معدلها في شمال غزة إلى حوالي 450 ملم/السنة ويقل تدريجيًا في الجنوب لحوالي 225 ملم/السنة. يتغذى خزان المياه الجوفية في غزة بحوالي 55 مليون متر مكعب سنويًا، فيما يُستخرج منه 160 مليونًا، ما يعني أن معدل السحب يتجاوز ثلاثة أضعاف معدل التغذية. 

مع الاعتماد الرئيسي على الخزان الجوفي في غزة كمزوّد رئيسي للمياه، انخفضت مستويات المياه العذبة وتلوثت بسبب تسرّب المياه العادمة أو المياه المالحة (مياه البحر الأبيض المتوسط) إليه، يقول الباحث في إدارة بيانات المياه، عمرو الواوي، لحبر. أعلنت سلطة المياه وجَودة البيئة في غزة آذار العام الماضي إن 98% من مياه الآبار لا تطابق معايير جودة المياه الصالحة للشرب التي أقرّتها منظمة الصحة العالمية، إذ تصل نسبة الكلوريد فيها إلى حوالي 600 ملغم/لتر، ما يتجاوز النسبة القصوى المسموح بها عالميًا وهي 250 ملغم/لتر. وتعادل نسب النترات في مياه غزة الجوفية أيضًا سبعة أضعاف النسب العالمية القصوى، والتي يرتبط ارتفاع معدلاتها بزيادة خطر الإصابة بسرطانات القولون وأمراض الغدة الدرقية. 

فرضَ هذا الوضع المائي للقطاع ضرورة تحلية المياه الجوفية أو مياه البحر بواسطة محطات التحلية التي يتجاوز عددها 150 محطة، 25 منها تابعة للبلديات، والباقي خاصة، «كثير محطات ملكيتها فردية، واحد معاه شوية فلوس، بعمل محطة وببيع مي للجيران»، يذكر الواوي. تختلف جودة المياه المحلاة والجوفية بين المحطات والآبار، إذ يمنع الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة دخول المعدات والمواد الخام وقطع الغيار اللازمة لتشغيل مرافق تحلية وضخ المياه وصيانتها، كما تتواجد المياه الجوفية على أعماق منخفضة نسبيًا بسبب طبيعة غزة الساحلية ما يجعلها عرضة لتسريب مياه البحر أو المياه العادمة. لموازنة نسب الأملاح، تخلط البلديات المياهَ المالحةَ، قبل توزيعها، مع المياه المحلاة المشتراة من شركة مكروت الإسرائيلية (حوالي 8 مليون متر مكعب سنويًا) وفق اتفاقية مع السلطة الفلسطينية.

حتى قبل الحرب الأخيرة، كان الاحتلال «ماسكنا من خناقنا»، يقول الواوي، مشيرًا إلى سيطرة الاحتلال على كامل موارد المياه في غزة، من خلال التحكم بالإمدادات وعبر الحصار وتعطيل الموافقات على إنشاء محطات تحلية جديدة. يُضاف لكل هذه الممارسات، الاستهداف المباشر للبنية التحتية على مدار خمسة حروب. في حرب 2021، انخفض تزويد السكان بالمياه بحوالي 40%، بعد أن ألحقت الهجمات الإسرائيلية الضرر بـ18 ألف مترًا أرضيًا من شبكات الصرف الصحي وإمدادات المياه، بما فيها خط المياه الرئيسي المغذي لغزة من خزان المنطار، ودمرت 18 مضخة لمياه الصرف الصحي، ستة منها تم تدميرها بشكل كامل، بحسب تقرير لمركز الميزان لحقوق الإنسان. 

كيف تستخدم إسرائيل المياه سلاحًا في الحرب الحالية؟ 

بعد يومين من بدء الحرب على غزة، أعلنت الحكومة الإسرائيلية في التاسع من تشرين الأول الماضي الحصار الشامل على غزة عبر قطع إمدادات المياه والطاقة والغذاء. بكبسة زر، خسرت غزة أحد مصادر مياهها التي تشتريها من شركة مكروت والتي تستخدم بشكل مباشر لإنتاج مياه صالحة للشرب بعد خلطها بالمياه المالحة، وكذلك خطوط الكهرباء التي تساهم إلى جانب محطة توليد الكهرباء في إنتاج 41% كحد أقصى من الاحتياج اليومي المتراوح ما بين 450-600 ميغاوات. 

أثّر العجز في موارد الطاقة وانقطاع التيار الكهربائي على عمل مضخات الآبار الجوفية، وتوقفت عن العمل بشكل كامل جميع محطات تحلية المياه، بما فيها المحطات الثلاثة الرئيسة، وهي محطة شمال غزة وخان يونس ودير البلح. تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن نصف سكان غزة لم يتمكنوا من الوصول إلى مياه الصنبور خلال الأسبوع الأول من الحرب والذي شهد استهداف الغارات الجوية الإسرائيلية لستة آبار مياه وثلاث مضخات وخزان مياه واحد ومحطة لتحلية المياه، بحسب اتحاد لجان العمل الزراعي الفلسطيني. يقول المتحدث باسم بلدية غزة حسني مهنا لحبر إن الاحتلال الإسرائيلي دمّر خزانات ضخمة للمياه تغذي عشرات الأحياء مثل خزانيْ تيكا وتل الزهور في جباليا وخزان حي التنور بمدينة رفح جنوب غزة. تقام هذه الخزانات على مقربة من محطات التحلية والآبار، والتي لم تسلم من القصف أيضًا. واليوم لا تعمل في غزة أي محطة تحلية. 

«إذا كان الاحتلال رصد إصابات ببكتيريا الشيغيلا التي تسبب الزحار بين جنوده في غزة، فما بالك بأهل غزة أنفسهم»

كما تعرّضت للقصف الإسرائيلي على الأقل 48 من أصل 80 بئر مياه مثل بئر أبو حصيرة شمال القطاع وآبار مستشفى الشفاء التي كان يعتمد عليها آلاف النازحين، بحسب مهنّا. يؤثر قصف آبار المياه على الخزانات المحيطة بها والمضخات التي تُستخدم لتشغيلها والخطوط الناقلة التي قد تنفجر في الشوارع أو تختلط بالمياه العادمة أو المواد الكيميائية التي تحملها الصواريخ، وبذلك يصبح المورد الرئيسي الذي تعتمد غزة عليه مهددًا. يقول مهنا إن حجم الدمار اللاحق بالبنية التحتية وعدم القدرة على إصلاحها يعني أن البلدية لن تستطيع تزويد المواطنين بالمياه حتى لو دخل الوقود. 

من أصل سبع محطات للصرف الصحي في غزة توقفت جميعها عن العمل، تعرّضت خمس منها لأضرار كلية أو جزئية بفعل القصف الإسرائيلي، ما يعني تصريف المياه العادمة في البحر أو طفحها في الشوارع أو تسربها للآبار الجوفية وبرك المياه التي تتجمع بفعل مياه الأمطار. فمثلًا في الأيام الفائتة، تجاوز منسوب المياه في بركة الشيخ رضوان شمال غزة النصف بعد تسرب نحو 50 ألف كوب من مياه الصرف الصحي لها نتيجة القصف الإسرائيلي للخط الناقل في منطقة النفق بالقرب منها. مياه الخزان الجوفي في هذه البركة كان يمكن لها أن تكون مصدر مياه للشرب للمنطقة في هذه الأيّام، لكن تلوّثها بفعل هذا التسرّب حرم الأهالي منها. 

مع نفاد كميات الوقود وقصف الألواح الشمسية التي تعمل عليها بعض المضخات، أوقفت بلدية غزة في الرابع من كانون الأول خدمات جمع النفايات وتشغيل محطات الصرف الصحي بشكل كلي، لاستثمار ما تبقى من الوقود لتشغيل ثلاثة آبار مياه مهددة بالتوقف عن العمل في أي لحظة. توزع البلدية هذه المياه عبر خزّانات صغيرة تنقلها بواسطة عربات تجرها الحيوانات إلى نقاط تعبئة. يقول مهنا إن عجز المياه في غزة اليوم يتجاوز 95% مع حرمان مناطق كاملة في الشمال من الوصول للمياه، ووصول حصة الفرد في أحسن أحوالها إلى ثلاثة لترات من المياه في اليوم. بلغ معدل استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في غزة قبل الحرب 82.7 لترًا من المياه (21.3 لتراً منها هي مياه عذبة)، فيما يستهلك المستوطن الإسرائيلي سبعة أضعافها.

بين 16 تشرين الأول والسادس عشر من تشرين الثاني، عادت الخطوط الإسرائيلية لضخ الحدود الدنيا من المياه بما لا يتجاوز مليونًا و200 ألف متر مكعب بحسب بلدية غزة، وتركزت هذه الكميات المحدودة على مناطق الجنوب «لإجبار السكان على النزوح» من شمال القطاع، بحسب ما نشره وزير الطاقة الإسرائيلي، يسرائيل كاتس. أما كميات المياه التي دخلت القطاع ضمن شاحنات المساعدات، فقد بلغت حوالي 40 ألف لتر من مياه الشرب بعد أسبوعين من الحرب ووزعت بشكل رئيسي لتغطية احتياجات الشرب، بحسب الأمم المتحدة، رغم أن تغطية الاحتياجات الأساسية تتطلب 33 مليون لتر يوميًا على الأقل لـ 2.3 مليون شخص يعيشون في القطاع. 

كيف يؤثر شح المياه وتلوثها على حياة الفلسطينيين في غزة؟ 

يعيش الفلسطينيون اليوم في غزة على كميات محدودة من المياه قد تنعدم بشكل كامل في شمال القطاع، لتغطية التزامات يومية ملحّة مثل الشرب والنظافة الشخصية والطهي والأغراض المنزلية. تقول الناطقة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني نيبال فرسخ لحبر إن النازحين يتحملون مسؤولية تأمين احتياجاتهم من المياه، إذ لا تتمتع أماكن الإيواء بأبسط مقومات الحياة ولا تغطي توزيعات المساعدات الطلب المستمر والمتزايد. «في مستشفى الأمل بخان يونس 14 ألف نازح، بتوصل المياه لدقائق في اليوم بحسب كمية الوقود المتاحة (..) كل واحد بكون حامل قنينته وبدور في الشوارع على مياه غالبًا لا تكون صالحة للاستخدام البشري»، وقد دفع شح المياه البعض لاستخدام مياه البحر للاستحمام وغسل الملابس وحتى الشرب.

«كل شخص مهدد بالموت، إذا مش بالقنابل والصواريخ، بالأوبئة والأمراض المعدية»، تقول فرسخ. يتسبب شرب مياه البحر بفقدان الجسم للمياه بوتيرة متسارعة كي يطرد الأملاح، مما يؤدي إلى الجفاف الشديد الذي يرافقه الغثيان والقيء والإسهال. على المدى البعيد، تسبب هذه المياه تلف الكلى وتكوين الحصى في المرارة. عام 2017، حذّر رئيس قسم الكلى في مستشفى الشفاء، الطبيب عبد الله القيشاوي، من زيادة سنوية في عدد مرضى الفشل الكلوي بنسبة 14% نتيجة تلوث المياه، والذي قد يكون سببًا أيضًا من أسباب السرطان في قطاع غزة، مع ارتفاع معدل الإصابة به من 89 حالة لكل 100 ألف نسمة، إلى 91.3 حالة لكل 100 ألف نسمة خلال السنوات الستة السابقة لـ2021.

في الشهر الأول للحرب، رصدت منظمة الصحة العالمية أكثر من 33 ألف حالة إسهال، معظمها بين الأطفال الأصغر من خمس سنوات، مقارنة بمتوسط لم يكن يتجاوز ألفي حالة إصابة شهرية للأطفال الأصغر من خمس سنوات خلال عامي 2021 و2022.

وثّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان خلال الأسبوع الأول من كانون الأول الجاري أكثر من 20 ألف حالة مرتبطة بعدوى في الجهاز التنفسي العلوي، مقارنة بألفيْ حالة مرتبطة بأمراض الجهاز التنفسي بأنواعه يسجلها القطاع شهريًا في الأوضاع الاعتيادية، وتفشٍ غير مسبوق لأمراض الالتهابات الجلدية، منها أكثر من 5 آلاف حالة إصابة بجدري الماء، و18800 إصابة طفح جلدي، و10 آلاف إصابة بالجرب، وعشرات آلاف حالة الإصابة بالإنفلونزا الشديدة والنزلات المعوية. لا تحظى هذه الإصابات بالرعاية الصحية اللازمة في ظل انهيار المنظومة الصحية في المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية. 

وتتزايد معدلات العدوى والإصابة بين الجرحى الذين تجاوز عددهم 48 ألفًا والفئات الأكثر هشاشة مثل ذوي الإعاقة والنساء الحوامل والأشخاص الذين خضعوا لعمليات جراحية والعاملين في القطاع الصحي ومرضى السرطان وآلاف الأطفال من سكان القطاع. في الشهر الأول للحرب، رصدت منظمة الصحة العالمية أكثر من 33 ألف حالة إسهال، معظمها بين الأطفال الأصغر من خمس سنوات، مقارنة بمتوسط لم يكن يتجاوز ألفي حالة إصابة شهرية للأطفال الأصغر من خمس سنوات خلال عامي 2021 و2022. كما أعلنت الأونروا إصابة 20% من أطفال قطاع غزة بالتهابات رئوية، وأكدت إصابات بين النازحين بحالات الكبد الوبائي (أ) ما زالت معدلات انتشارها غير معروفة. 

«إذا كان الاحتلال رصد إصابات ببكتيريا الشيغيلا التي تسبب الزحار بين جنوده في غزة، فما بالك بأهل غزة أنفسهم»، يقول الواوي. يتخوف الهلال الأحمر من أن يفاقم سوء الطقس ودخول المنخفضات الجوية من معاناة النازحين وانتشار الأوبئة مع غياب وسائل التدفئة وفيضان المياه، محذرًا من تفشي الأمراض المنقولة بالمياه والعدوى البكتيرية، مثل أمراض الدوسنتاريا والتيفوئيد وشلل الأطفال والكوليرا والحصبة. 

يأتي انعدام مياه الشرب النظيفة واستخدام المياه الملوثة وتعطل خدمات الصرف الصحي ضمن مشهد أوسع لبيئة موبوءة، إذ تعاني مراكز الإيواء من اكتظاظ النازحين وما زالت مئات جثامين الشهداء تحت الركام ويتكدس 400 طن من القمامة يوميًا في الأحياء السكنية ومراكز الإيواء لتتسبب بانتشار الروائح الكريهة والقوارض والحشرات، بعد أن قصف الاحتلال معدات البلديات وحظر وصول طواقمها للمكب الرئيسي في جحر الديك شرق المدينة.

ما بين الحاجة لشرب المياه وتلوثها، يمتنع بعض النازحين عن شرب المياه قدر الإمكان حتى لا يضطرهم ذلك لقضاء الحاجة والتي تصبح مَهمة شاقة عندما يتشارك مئات النازحين حمامًا واحدًا، أو يضطرون لقضاء حاجتهم في الشارع، أو يبحثون عن منزلٍ يستضيفهم لاستخدام المرحاض فيه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية