«إذا عندك جرح بصير عشرة»: المرض في السجون الإسرائيلية

الأسير المحرر جلال الشراونة الذي بترت ساقه بسبب الإهمال في السجون الإسرائيلية. تصوير فاتن أبو عيشة.

«إذا عندك جرح بصير عشرة»: المرض في السجون الإسرائيلية

الأحد 20 كانون الثاني 2019

«إنسان يعاني من [مرض] بياكل بجسمه شوي شوي، وما حد حاسس فيه ولا بوجعه». بصوت حازم وصارم، تصف الأسيرة الفلسطينية المحررة لينا الجربوني (44 عامًا) ما يعنيه أن تكون مريضًا داخل السجون الإسرائيلية.

«كنت أحس حالي أوصل الموت وأرجع»، تقول الجربوني، ابنة بلدة عرابة البطوف في الأراضي المحتلة عام 1948، مستذكرة تجربتها حين احتاجت لعملية استئصال المرارة خلال أسرها الذي دام 15 عامًا. في ظل عدم تلقيها أي علاج، ما كان من رفيقاتها الأسيرات سوى «رفض الخروج إلى الفورة (الاستراحة) والتهديد بإرجاع الوجبات»، كسلاح للضغط على إدارة السجن لأخذها للمستشفى. «كنت في غرفة وحواليّ أربعة سجانين وسجّانة وحدة، طول الوقت نايمة على ظهري ومربوطة إيد عكس إجر»، إلا أن الجربوني رفضت البقاء أكثر من خمسة أيام في المستشفى، موضحة بنبرة غاضبة، «فش مجال تتحركي ولا تقيمي ولا تحطي ولا تصلي ولا إشي، وفي رجال معك بقلب الغرفة، حتى لما بدك تنامي ما بتنامي بأمان».

بعد انتظار سنة وشهرين، أجريت عملية المرارة للجربوني، بضغط من المحامية والشيخ إبراهيم صرصور، القيادي في الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، حسبما تروي الجربوني. «الفترة التي يقضيها الأسير في انتظار العلاج يموت بشكل بطيء، وحين يأتي دوره تكون حالته قد تفاقمت بعشرة أو عشرين مرة».

كانت الجربوني واحدة من أسرى مرضى كثر في سجون الاحتلال، يبلغ عددهم اليوم نحو 750 أسيرًا، يعانون من أمراض مختلفة، بحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، في تقرير لها عن عام 2018. ومن بين هؤلاء الأسرى 200 أسير بحاجة إلى تدخل عاجل وتقديم الرعاية اللازمة لهم، و34 أسيرًا يعانون من مرض السرطان، وآخرون مصابون بأمراض خطيرة ومزمنة.

في هذا التقرير، يروي عدد من الأسرى والأسيرات المحررين تجاربهم مع المرض داخل السجون الإسرائيلية.

حين يكون السجن أفضل من المشفى

«يوم من الأحلام .. يوم لا ينسى»، بضحكة ساخرة تصف الجربوني يوم عمليتها. «طلعوني مع صبية بنفس البوسطة (باص خاص بالأسرى) كان بدها تروّح من الخليل، وصلناها على الحاجز بعدين رجعنا  للمستشفى». في هذا اليوم تعرّفت الجربوني على اختلاف البوسطة عن يوم محاكمتها قائلة: «كانت البوسطة تطلع من السجن مباشرة للمحكمة، أما اليوم بتلف البوسطة على كل السجون عشان تاخد كل اللي إلهم محاكم بهاد المحل بعدين بتروح»، وذلك بعد انتقال إدارة هذه الباصات لشركة خاصة.

«حتى لو كنت كبيرة كفاية، بدي إمي تكون معي بهاي اللحظة». في اليوم الخامس بعد العملية، أصرت الجربوني على رجوعها للسجن، «برضو عشان التربيط»، كما تقول، أي تقييدها بالسرير. «طبعًا طبعًا»، تجيب الجربوني دون تردد عما إذا كانت تفضل السجن على التواجد مقيّدة على سرير المستشفى. «في المستشفى إذا عندك جرح بصير عشرة. هذا نوع من سياسة تطفيشية، بحط أمامك المستحيل عشان إنتِ ما تقبلي».

ونوّهت الجربوني إلى توفر طبيب عام وطبيب أسنان وطبيب نفسي وعاملة اجتماعية وممرض، وحديثًا دكتورة نسائية، في سجن الشارون (قرابة 24 كم شمال مدينة يافا). «المشكلة مش لما تحتاجي الطبيب بتروحي، لما يقرر هو إنو يشوفك. (..) طبيب السجن بفهم بكل شي بالحياة إلا الطب».

وتشير الجربوني، التي كانت ممثلة الأسيرات أمام الإدارة في سجن الشارون، إلى الكثير من الأسيرات المصابات تغلبن على إصاباتهن، رغم عدم خضوعهن للعلاج اللازم وتثبيط طبيب السجن لهنّ بأنهن لن يتمكننّ من المشي مجددًا وبقوله «راح تجرّي قدمك جرًّا أو ما راح تقدري تحركي إيدك». فقد اعتمدت هؤلاء الأسيرات على أنفسهنّ بأداء تمارين معينة رغم الألم، أمثال الأسيرتين مرح باكير ونورهان عوّاد. «البنات نفسهن ما استسلموا. كان عندهن إرادة قوية استمدوها من دعم الصبايا إلهن»، تقول الجربوني، مؤكدة أن العلاج اليومي الذي تلقينه كان «المسكنات فقط».

أما الأسيرة المقدسية إسراء الجعابيص، التي أصيبت بحروق في 50% من جسمها وفقدت معظم أصابع يديها إثر انفجار في سيارتها عام 2015، واعتقلت بعد أن اتهمها الاحتلال على إثر الانفجار بنية تنفيذ عملية، فاعتبرت الجربوني أن حالتها «استثنائية، وهي جبّارة جدًا جدًا على الوجع»، فلم تسمعها تشكي ألمها أو تبكي رغم حروقها الغائرة في جسدها. «بصمتها كل مناشدات الدنيا»، تقول الجربوني.

ترفض الجعابيص أحيانًا الذهاب لمراجعة حروقها. «هي تريد العلاج وبحاجة له اليوم قبل غدًا»، توضح الجربوني، لكن الظروف التي فيها يتم نقلها لتلقي العلاج «غير آدمية لا يتحملها إنسان سليم، أصعب من الوجع نفسه»، حيث تكون يداها وقدماها مكبّلتين لأكثر من 10 ساعات ذهابًا وإيابًا، ولا يمكنها الذهاب إلى الحمام لوحدها، حسبما تروي الجربوني.

بوسطة الموت

حين تحرر الأسير المقدسي ياسين أبو خضير (53 عامًا) عام 2013، بعد 26 عامًا قضاها في السجون، كان قد «تحرر من أسريْن: أسر السجن وأسر المرض»، كما يقول. فقد أجرى أبو خضير ثلاث عمليات جراحية في السجن، فيما طالب لسنوات إجراء عملية الدوالي في إحدى رجليه وقوبل بالرفض بحجة أنها «عملية تجميلية». ويقول أبو خضير مستذكرًا وضعه في المستشفى: «إيد فيها الإبر والثانية مقيّدة بالسرير ورجلي مقيّدتان، وجنبي عدد من السجّانين».

الأسير المحرر ياسين أبو خضير مع عائلته. تصوير فاتن أبو عيشة.

«تطلع بوسطة.. البوسطة موت»، يقول أبو خضير بلا تردد وبضحكة تهكمية واصفًا ما يعتبره أصعب ما واجهه في  مرضه أسيرًا، حيث يتم نقل الأسير المريض عبر البوسطة مع أسرى آخرين، مقيّد الرجلين واليدين، خاصة وأن البوسطة بالكامل حديدية بما في ذلك مقاعدها. «لما كنت أركب البوسطة قبل بيوم لا آكل ولا أشرب، خوفًا من اضطراري للحمام اللي غير متاح وقت ما بدك. وفي الصيف فرن وفي الشتاء ثلاجة، وإيدين ورجلين بترجعي مجرحات من الهزّ لحد ما توصلي»، في رحلة تمتد ساعات طوال، لنقل أسرى من سجون مختلفة على طول الطريق إلى مستشفيات أو محاكم في اليوم ذاته.

هذه الرحلة تكررت كثيرًا لأبو خضير الذي تنقّل بين العديد من المستشفيات الإسرائيلية لإجراء فحوصات، لكنها كانت دائمًا بعيدة عن تقديم العلاج الفعلي. «خلال 26 عامًا ما مرّ عليّ إلا ممرضيْن [اثنين]، التانيين تلقوا دورة إسعاف أولي بالجيش بس». هذا الجهل ببديهيات العلاج الطبي للأسير يهدف، وفق أبو خضير، إلى «الحفاظ على حياة الأسير ليكمل فترة حكمه للآخر».   

أما الأسير المقدسي المحرر علاء العلي (40 عامًا)، فيختصر رحلته مع المرض خلال 12 عامًا من الأسر بالقول «بصير الأسير هو طبيب نفسه. بتعرف كيف بتمرض، وشو اللي بمرّضك، وبتعرف إنك مش راح تتعالج»، مشيرًا إلى أحد أسنانه ضاحكًا: «هاي [الطاحونة] أنا خلعتها بالمعلقة، انكسرت كسر، لإني بتوجع وبديش استنى دكتور الأسنان لأسبوع».

في فترة من فترات السجن، لم يعد العلي قادرًا على السير وبات الأسرى الشباب يحملوه حملًا إلى الحمام. «كان في شب بدرس طب بالسجن، اكتشف إنه نوع الدوا اللي باخده دوا معدة مش للمشكلة اللي عندي»، حيث كان العلي يعاني من شبه شلل في رجله. «كانوا مرات ياخدونا على مستشفيات مرتبة، بفحصك الطبيب وبعرف شو الحالة بس ما بعالجك»، فيعود الأسير إلى السجن ليتناول المسكنات لتخفيف الألم فقط، بحسبه.

الأسير المحرر علاء العلي. تصوير فاتن أبو عيشة.

ولا يزال راسخًا في ذهن العلي ما حصل حين أصابه ألم شديد في رأسه، ضغطَ على عينيه وأذنيه، وأخرجوه للنقل في البوسطة. «شلحوني، تفتيش عاري بقولوله، وتركوني، وصار يماطل الضابط، وإذا بده يغمى عليّ بده يجرني جرّ. مسكت حالي، تقريبًا نص ساعة وأنا بالبرد عريان، بعدها قيّد ايدي وأعطاني أواعيّ ألبسهم. بدك تلبس دبر حالك وبسرعة فش وقت، [أو] بتطلع على سيارة البوسطة عريان، وصلت المستشفى، غير إني مريض، إسهال وتقيؤ من البرد».

عيون وأطراف مسلوبة

«حسي هون فاضي. هاد من ضربهم» تقول الأسيرة المحررة عبلة العدم (48 عامًا)، عن الفراغ البادي في الجهة اليمنى من جمجمتها. فعند اعتقالها بتهمة تنفيذ عملية طعن عام 2015، أصيبت العدم، وهي من قرية بيت أولا في قضاء الخليل، بإطلاق نار في عينها وجبينها. وتعرضت للضرب بأعقاب البنادق على رأسها وبالأرجل على ظهرها، بعد إصابتها من قبل جنود الاحتلال، ما أدى إلى تهشم في جمجمتها وفقدان عينها اليمنى وكسر في فكها.

في فترة مكوثها في المستشفى، قيل لها إنه سيُجرى لها عملية ترميم لعظم الرأس، وتركيب عين زجاجية تجميلية فقط، خضراء بلون عينيها. إلا أنه بعد ثلاث سنوات، حان موعد الإفراج عنها قبل موعد عمليتها، مفسّرة: «كل مرة كانوا يقولولي في موعد، ولمّا أسأل عنه يقولوا تأجلت». وقبل شهرين من تحررها، سألت العدم مدير السجن عن الموعد فكان رده بأنها ستخرج قريبًا من السجن، وتجري العملية «عندكم»، أي في المستشفيات الفلسطينية.

وحول ما قُدم للعدم بخصوص إصابتها قالت: «بس وقفوا النزيف وحطّوا زجاجة بعيني خوف لا تذبل وتدخل لجوّا».* وفي مراجعات شهرية لعينها أثناء طريقها من السجن للمستشفى تعرضت العدم للضرب والشتم أكثر من مرة من قبل جنود الاحتلال والمستوطنين.

«كانوا يعطوني مهدئ أعصاب وثلاث حبّات منوّم»، تقول العدم عن العلاج اليومي الذي قدم لها. وتروي عن ليلة كانت تصرخ فيها من ألم رهيب في رأسها ودوران حتى بعد تناولها المسكن والمهدىء. «طلب مني الممرض تناول ثلاث حبات منوّم أخرى عشان أنام، رفضت لأني تناولت ثلاثًا قبل فأخذت المسكن».

وفي يوم تحررها أصرت العائلة على ذهاب العدم لمستشفى قريب للاطمئنان على صحتها، تبين وجود بلاتين في رأسها لرفع الجهة اليمنى من وجهها، فيما يدل على الأغلب على عملية أجريت لها عند اعتقالها حين كانت فاقدة للوعي، إضافة إلى وجود شظايا من أثر الإصابة. واليوم تسعى العدم لإجراء عملية ترميم عظم رأسها في أحد مستشفيات القدس، موضحة: «أخدت تحويلة للمستشفى ثلاث مرات، بس مش راضيين يطلعولي اليهود تصريح دخول للقدس».

الأسيرة المحررة عبلة الهدم. تصوير فاتن أبو عيشة.

أما الأسير المحرر جلال الشراونة (20 عامًا)، فيجلس في بيته في قرية دير سامت قضاء الخليل، وعصاه الحديدية بجانبه يتكئ عليها عند سيره، بعد بتر قدمه اليمنى في السجن، بعد إطلاق النار عليه أثناء اعتقاله بتهمة تنفيذ عملية في إحدى المستوطنات الإسرائيلية.

مكث الشراونة، ابن الـ17 عامًا حينها، سنتين في مستشفى سجن الرملة الذي قال عنه بنبرة حاسمة: «رسمي مسلخ. هو السبب الرئيسي في بتر رجلي. [بقيت] فيه شهر ورجلي فيها قرابة 10 رصاصات من الحوض للمشط، ويروا الدكاترة المنظر ويعطوك حبة مسكن أو إبرة كيلو!».

خضع الشراونة للتحقيق حينها فيما كانت قدمه لا تزال ملفوفة، والأخرى مجبرة لكسر فيها ومكبّلة أيضًا.  وبعد شهر، أصيب بنزيف في رجله، ليتم نقله للمستشفى حيث قيل له: «رجلك بتهدد حياتك بالخطر لإنه الشرايين متهتكة، لازم نبترها. (..) ما صحيت إلا هي رايحة. بهالبساطة هاي!».

خلال أسره، تم التواصل مع العائلة لتسلّم رجل ابنها فيما غابت عنهم أخباره إلا في المحاكم. فقد أصرت العائلة على دراسة ملفه الطبي قبل الحكم عليه، فاشترطت المحكمة أن يعد بروفيسور عسكري إسرائيلي تقريرًا في الحالة يقدمها لها. يوضح والد الشراونة أن التقرير «أدانهم بإهمال طبي بنسبة 20% فقط. لو تلقى علاجًا أول إصابته لما بترت قدمه، بناء على ذلك خففوا شوي الحكم»، ليُحكم الشراونة بثلاث سنوات ونصف السنة.  

الأسير المحرر جلال الشراونة مع والديه. تصوير فاتن أبو عيشة.

في مستشفى سجن الرملة الذي ظل فيه الشراونة سنتين، يرقد الأسرى المرضى ذوو الحالات الصعبة، وعددهم قرابة 16 أسيرًا، يعاني معظمهم من بتر أطراف أو سرطان أو أمراض كلى. «هو سجن مش مستشفى، وأصعب من السجن عزل. حتى الزيارات، في السنتين شفت أهلي مرة أو مرتين فقط»، يؤكد الشراونة.

يلخص الشراونة حال مستشفى سجن الرملة كل ليلة بأسير يتألم، أو يغمى عليه، ليحملوه إلى العيادة ليعطى إبرة أو مخدّر، ضاربًا المثل بالأسيرين بسام السايح، الذي يعاني من سرطان في الدم والعظم وقصور حاد في عضلة القلب، وسامي أبو دياك، الذي أصيب بسرطان في الأمعاء، ثم أصيب بتسمم أدى إلى فشل كلوي بعد أن أجريت له عملية جراحية في الأمعاء. «غير الصبر والدعاء ما كان يملكوا شيء. أقل شيء يعالجوهم علاج حقيقي، مش يطلعوا أموات!».

يتطوع عدد من الأسرى لخدمة الأسرى المرضى، فالكثير من الأسرى أنفسهم يرفضون أن يعالجهم الممرض بسبب المعاملة التي يتلقونها. «بستفرد فيّ الممرض أو السجان، إذا بده يسحب الغرز بطلّع روحي معها بطريقة انتقامية، تقول سياسة ممنهجة متعمدة»، يقول الشراونة. «اللي بخدم الأسير أسير مثله».

* تنويه: تمت إضافة هذا الاقتباس بعد النشر زيادة في التوضيح. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية