بين الحضور المصفقين وقوفًا بحرارة، تعبر أوبرا وينفري نحو منصة الغولدن غلوب بثقةِ من تعي أنها أمام حشد من محبيها المخلصين. تستلم جائزة فخرية تكريمًا لـ«مساهماتها المذهلة في عالم الترفيه»، وتلقي خطابًا ترك العديد من الحاضرين -والمشاهدين- يغالبون دموعهم وينغلبون. «ما أعرفه يقينًا هو أن قول حقيقتك هو أقوى أداة نملكها»، تقول أوبرا، مشيدة بالنساء اللواتي أثرن قضية التحرش الجنسي في هوليوود التي امتدت آثارها إلى أنحاء عدة من العالم. هذا الخطاب البليغ بدا للكثيرين تحديًا لسلطات مكرسة في الولايات المتحدة، سواء في البيت الأبيض أم في عالم الترفيه؛ سلطات يقف على رأسها رجال بيض يرسمون لغيرهم حدود الممكن والمتاح، جاءت أوبرا لتقول لهم إن «وقتهم قد انتهى».
في الوقت الذي يتبارز فيه ترامب مع كيم جونغ أون في حجم الأزرار النووية، بدا خطاب أوبرا منعشًا لأمريكيين متعطشين لرموز «تليق بهم»، للحد الذي أثار نقاشات عديدة حول ما إذا كانت أوبرا ستترشح للرئاسة في انتخابات 2020، وهو ما لم تؤكده أوبرا أو تنفيه. الاحتفاء بالخطاب لم يقتصر على هؤلاء، فالكثيرون حول العالم، ومنهم من هم في منطقتنا العربية، امتدحوا الخطاب بوصفه كلمة حق ملهمة دافعت عن النساء -غير البيض تحديدًا- وأشادت بشجاعتهن في التمسك بحقوقهن.
لكن هذا الاحتفاء ينبع كذلك من جاذبية أوبرا نفسها -سواء أمريكيًا أم عالميًا- التي لا يمكن اختزالها في هذه الأسباب الآنية. فالدور الذي لعبته على مدى عقود حظي بشعبية هائلة لأسباب تكمن في السردية التي ترويها عن نفسها وعن الآخرين؛ سردية تنصّب الأفراد -النساء منهم خاصة- أسيادًا لأقدارهم، قادرين على بلوغ أي هدف بالإصرار والعمل الدؤوب واتباع «ندائهم الداخلي» الذي يجعلهم فريدين في هذا العالم. هذه السردية حاضرة حولنا منذ عقود في أشكال مختلفة وفي مجالات عدة. فمن الحياة الشخصية إلى الاقتصاد إلى الحرب، هناك دومًا من يحثنا على «الاعتماد على أنفسنا» والتخلي عن السلبية والمبادرة لإحداث التغيير في العالم أو في حياتنا الخاصة على الأقل، وفي سبيل ذلك تُصّدر قصص النجاح والخروج من جيوب الفقر إلى البحبوحة وتحقيق الذات.
تحيطنا هذه السردية إلى الدرجة التي باتت معها مقاومة تذويتها أمرًا صعبًا ومجهدًا في كثير من الأحيان. لكن لماذا نقاوم سردية تسلمنا مفاتيح مصائرنا وتشجعنا على الكد و«الإيمان بأنفسنا»؟ أليس في ذلك من التشاؤم ما يحولنا إلى اتكاليين كسالى يلومون غيرهم دومًا ويستمتعون بالتمرغ في شقائهم؟ هذا النموذج موجود بالتأكيد، وحتمًا، لا أحد يحب المتذمرين. لكن دراسة الطريقة التي تنتج بها سردية العصامية وتصان، والدور الذي تلعبه هذه السردية -كما في حالة أوبرا- قد يعكس صورة تقول بغير ذلك. فما يصوّر على أنه إعلاء لحب الذات والإيمان بها هو في كثير من الأحيان مدخل لتسليط قسوة بالغة على الأفراد والمجتمعات، وإضعاف القدرة على مقاومة البنى التي تنتج الاختلالات التي يعانون منها.
في هذا الإطار، قد تكون قراءة كتاب أستاذة علم الاجتماع الأمريكية نيكول آشوف «الأنبياء الجدد لرأس المال»* مفيدة لفهم نموذج أوبرا وينفري وأسباب جاذبيتها بوصفها واحدة من عدة شخصيات تقدم سرديات كبرى قادرة على إعادة إنتاج النظام الاجتماعي من خلال منحنا إحساسًا بالمعنى والأمان يدفعنا لـ«الاستمرار في المحاولة».
ثالوث مقدس جديد: الروحانية، وتحقيق الذات، والمشتريات
أوبرا ليست مجرد إعلامية. فعلى مدى ثلاثة عقود خلق برنامجها الحواري قاعدة من المعجبين المخلصين حول العالم الذين يسترشدون بها، كان الجزء الأكبر منهم من النساء. تعي أوبرا الظلم الممنهج الذي تنتجه علاقات قوى مكرسة ضمن نظام عالمي رأسمالي، لكن المشكلة بالنسبة لها وغيرها من هؤلاء «الأنبياء» لا تكمن في هذا النظام بعينه، والحل لا يستدعي تغييره بالضرورة. فأعلى الأصوات الناقدة لبعض إفرازات الرأسمالية والداعية للقضاء على الفقر والمرض واضطهاد النساء اليوم هي أصوات أمثال أوبرا وبيل غيتس ومارك زكربيرغ، بعض أغنى أغنياء العالم. هؤلاء يسعون لتسخير ما حصّلوه من مال وسلطة لتمهيد الطريق لغيرهم لينتشلوا أنفسهم من الفقر والضعف، ويحاولون «تنقيح» النظام الذي أنتج ثراءهم، لكنهم لا يذهبون أبعد من ذلك.
تتحدث أوبرا لجيل من الأمريكيين ممن يعيشون وضعًا أشد هشاشة من ذي قبل. لم يعد يكفيهم أن يحظوا بدرجة جامعية ومهارات أساسية من أجل تأمين عمل بظروف جيدة، بل باتوا مطالبين بتقديم أكثر فأكثر من الكفاءات والمهارات لنيل وظائف لم تعد كافية لتأمين معيشتهم واستقلالهم، في وقت يقدم فيه هذا الاستقلال على أنه أهم خطوة نحو «تحقيق الذات» الذي يمثل ذروة الأماني. في هذه الظروف، يأتي صوت أوبرا ليبث الأمل ويشجع الناس على الإيمان بأنفسهم والسعي وراء أحلامهم. بشكل خاص، استهدفت أوبرا النساء اللواتي مورس ضدهن تمييز بنيوي أدى بهن إلى الاستخفاف بأنفسهن ومنعهن من استخدام كامل طاقاتهن.
بحسب آشوف، تزامن اعتماد أوبرا لهذا النهج مع إعادة الهيكلة النيوليبرالية التي اشتملت، إلى جانب بعدها الاقتصادي السياسي، بعدًا اجتماعيًا تمثل في شخصنة المشاكل الاجتماعية. أصبح الفرد المستقل الفاعلَ الأساسي في السوق وفي حياته الخاصة. ترتكز أوبرا على تجربتها الشخصية كطفلة سوداء فقيرة في جنوب أمريكي عنصري تمكنت من تخطي العقبات وبلوغ ما كانت تعلم على الدوام أنه قدرها. وتقدم قصتها على أنها قابلة للاستنساخ، فتدعو النساء للكف عن لعب دور الضحية والتخلص من «عقلية العبيد».
تحيطنا هذه السردية التي تقدّمها أوبرا، وغيرها، إلى الدرجة التي باتت معها مقاومة تذويتها أمرًا صعبًا ومجهدًا في كثير من الأحيان
عوضًا عن ذلك، عليهن أن يؤمننّ بقاعدة كونية: كل ما ترسلينه للعالم يعود إليك. لذا عليك أن تجتهدي وتقدمي كل ما لديك في كل لحظة، دون تذمر ودون مقارنة نفسك بالآخرين، حتى يكافئك الكون بمثيل ما قدمته. هذا هو سبب ثراء أوبرا، وهذا ما يجعل قصتها ملهمة. إذا طُردتِ من عملك، تقول أوبرا، عليك أن تقولي «شكرًا» لأنه لم يكن مقدرًا لك أن تشغلي تلك الوظيفة. الكون يصحح مسارك، وبوسعك الآن أن تجدي «نداءك الحقيقي» وتستغلي الحرية التي تتيحها البطالة بالعودة للجامعة ودراسة ما تحبينه. «أصبحت الفرص والعلاقات وحتى الأموال تتدفق نحوي حين تعلمت أن أكون ممتنة، بغض النظر عمّا يحدث لي في الحياة»، تقول أوبرا. وفي إحدى رحلاتها العديدة إلى إفريقيا، تقول أوبرا لمجموعة من الأطفال الذين يتّمهم الإيدز إنها كانت مثلهم تمامًا، وأنه بالكد والإصرار والتعليم يمكنهم «التغلب على الفقر واليأس في حياتهم».
في هذا التصور للطريق نحو السعادة، لا يتوقف العمل عند أي حد، بل لا يمكن فصل العمل عن الهوية، ليس لأن الناس يجدون أنفسهم في وظائفهم، تقول آشوف، بل لأنهم يمضون جل حياتهم وهم يعملون، أو يكونون العلاقات ويبنون لأنفسهم اسمًا، من أجل أن يعملوا أكثر. في أحد أعداد مجلة أوبرا، تتلقى شابة في الخامسة والعشرين من عمرها تعمل بالقطعة مع محطة إذاعية، إلى جانب وظيفتين أخريين، هذه النصيحة: «عليك أن تفعلي أي شيء وكل شيء يطلب منك (..) لأنه ما من ضمانات». حين يصبح العمل سعيًا نحو السعادة، يتم تذويته ويصبح النظر إليه بوصفه عبئًا مجرد تذمر. هكذا، تقول آشوف، يصبح من الطبيعي جدًا والمسلم به في عصرنا أن يعمل المرء بلا انقطاع منذ دخوله سوق العمل وحتى وفاته.
ولقاء كل هذا الكد، تستحقين بعض التدليل. في عدد خاص لمجلة أوبرا ركز على مشكلة القلق، احتلت الإعلانات 70% من مساحة المجلة. «لا تناقض هنا، لأن الله، بحسب أوبرا، يكمن في الوفرة»، تقول آشوف. في هذا العدد، يحتل مقال بعنوان «كيف تقلقين بشكل منتج» تسع صفحات، تتبعه عشر صفحات عن الأحذية، ثم سبع صفحات عن المكياج. في عدد آخر، تنصح المجلة قارئاتها بمقاومة كآبة الشتاء بجزمة مطر بـ168 دولارًا «لأن الحذاء الخاطئ يجعل الطقس السيء أسوأ».
لكن كل هذا لا يعني أن أوبرا ببساطة تبيعنا أوهامًا لتقنعنا بشراء منتجات باهظة. فهي وغيرها ممن تسميهم آشوف أنبياء رأس المال لا يسعون للتغرير بنا في خطة مرسومة سلفًا. سردية أوبرا هي انعكاس لبنى القوى في مجتمعات رأسمالية قائمة بالفعل، والحقيقة التي تبشّر بها هذه السردية هي «حقيقة» ذات وظيفة محددة وضرورية لاستدامة بنى القوى في هذه المجتمعات. بكلمات أخرى، سردية أوبرا ليست مقحمة، بل هي نتاج طبيعي للمجتمع الأمريكي، تنطبق بدرجات متفاوتة على مجتمعات أخرى. ومشكلة هذه السردية ليست كونها «أجندة» بل كونها، ببساطة، غير دقيقة.
تشجعنا أوبرا على التغلب على افتقارنا لرأس المال الاقتصادي بمراكمة رأس المال الاجتماعي والثقافي (وإن لم تستخدم هذه اللغة). إن كنتِ فتاة فقيرة تتعرض للتمييز عرقيًا وجندريًا، فالتعليم هو سبيلك. إن أثبتِّ نفسكِ وعملت بجد وبنيتِ شبكة من العلاقات الوطيدة، فتراكمين رأس مال غير مادي، سيتحول إلى رأس مال مادي بحصولك على وظيفة جيدة أو بتفوقك في مجالك. وفي عالم اليوم الذي ازدادت فيه قدرة شرائح متنوعة على دخول الجامعات، وبات اكتساب المهارات فيه «ميسرًا» بوجود الإنترنت، لم يعد التعليم حكرًا على الأغنياء. لكن هذا التصور يغفل أن رأس المال الاجتماعي الذي يملكه الأغنياء ببساطة أكثر فاعلية من ذلك الذي يملكه الفقراء، وأن الدراسة في جامعة حكومية والمواظبة على أخذ دورات مجانية على الإنترنت وتوزيع «السي في» في كل اتجاه لا تعادل «الدراسة في هارفرد وشغل عمّك لمنصب مدير تنفيذي»، بحسب آشوف.
يشبّه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو هذا التصور غير الدقيق للعالم بلعبة الروليت، حيث يصبح العالم «ذا منافسة مطلقة، ومساواة مطلقة في الفرص، بلا قصور، ولا مراكمة، ولا توارث، ولا ممتلكات مكتسبة، حيث تصبح كل لحظة مستقلة تمامًا عن التي تليها (..) وكل جائزة يمكن أن يفوز بها أي كان في أي لحظة». هذا العالم محض خيال، تقول آشوف. فلو كانت القدرة على مراكمة رأس المال الاجتماعي والثقافي كافية من أجل الانتقال الطبقي لكانت الفجوة الطبقية في بلد كالولايات المتحدة ببساطة قد أغلقت، بدلًا من تعاظمها. وبينما باتت سرديات كبرى أخرى تطرح حلولًا مختلفة تُصور على أنها هيستيريا طوباوية، لا تطالب سرديات اليوم بإثبات جدوى الحلول التي تقدمها.
نساء من أجل النساء؟
تمثل أوبرا كذلك رمزًا نسويًا للكثيرين، فقد حققت ما يُصور على أنه الغايات النهائية للتحرر: الاستقلال، وتحقيق الذات، والسعادة، وبالطبع، الثراء. والأهم من أنها مدت يدها لمساعدة غيرها من النساء على اتباع الطريق ذاته. في خطاب جوائز الغولدن غلوب، تذكر أوبرا كيف شاهدت وهي طفلة أول رجل أسود يفوز بجائزة سيسيل بي دو ميل. «ولا يفوتني في هذه اللحظة أن هنالك فتيات صغيرات يشاهدنني الآن أصبح أول امرأة سوداء تفوز بالجائزة ذاتها». بنجاحها، تفتح أوبرا المجال لغيرها من النساء، وتعزز طموحهن.
هذا التصور عن النجاح النسوي التتابعي يتجسد كذلك في قصة شيريل ساندبرغ، مديرة العمليات في فيسبوك، التي أصبحت «رمزًا نسويًا» في عالم شركات التكنولوجيا المعلومات الذي يسوده الرجال. تنقل آشوف قصة ترويها ساندبرغ، بوصفها نقطة محورية في خطابها النسوي: قبل عدة سنوات كانت ساندبرغ «الحامل جدًا» تحاول صف سيارتها في مرآب غوغل، التي كانت تشغل منصبًا متقدمًا فيها آنذاك. بعد أن أرهقتها محاولات العثور على مصفّ فارغ، صعدت ساندبرغ غاضبة إلى مكتب مديرها وطالبت بتخصيص مصف للحوامل، وهو ما كان. «وجود امرأة واحدة في الأعلى -حتى وإن كانت تبدو كالحوت- شكّل فرقًا»، تقول ساندبرغ.
لكن آشوف تنقد هذه الخلاصة بقصة أخرى من عالم تكنولوجيا المعلومات نفسه. حين أصبحت ماريسا ماير، زميلة ساندبرغ السابقة في غوغل، مديرةً تنفيذية لشركة ياهو كانت حاملًا أيضًا. لكن عوضًا عن استخدام سلطاتها لمساعدة المزيد من النساء، فقد استخدمتها لطرد 30% من موظفي ياهو، وإلغاء نظام العمل المرن الذي كان يسمح لمئات من موظفي ياهو بالعمل من المنزل يومين في الأسبوع؛ نظامٌ كان مفيدًا بالتحديد لمن ألقيت على عاتقهم مسؤولية العناية بأطفال أو أقارب مسنين، وجلّ هؤلاء كنّ من النساء.
التصور بأن وجود نساء في القمة سيساعد بالضرورة المزيد من النساء، يغفل كم العراقيل البنيوية التي لا تتذلل بمجرد توفر الإلهام، ويفترض أن النساء خيّرات بالفطرة
هذا التصور بأن وجود نساء في القمة سيساعد بالضرورة المزيد من النساء على تحقيق إنجازات مشابهة يغفل كم العراقيل البنيوية التي لا تتذلل بمجرد توفر الإلهام، ويفترض بلا تبرير أن النساء خيّرات بالفطرة وأكثر قدرة على التضامن مع بعضهن، بغض النظر عن أي عوامل أخرى. الأهم من ذلك ربما، هو أنه حتى حين تقر بعض النساء بالعراقيل البنيوية التي يواجهنها، فهذا لا يعني بالضرورة أن جميع استراتيجياتهن النسوية متوافقة مع بعضها، بل قد تكون هذه الاستراتيجيات متضادة بشكل يطحن المزيد من النساء والرجال.
لعل أحد أبرز الأمثلة على حدود هذا التضامن النسوي الفارغ ما باتت تمثله كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، بالنسبة للبعض. خلال العقود الثلاثة الماضية، زجّ هذا الصندوق ببرامج «الإصلاح الهيكلي» في دول عدة في جنوب العالم، ضاغطًا عليها لـ«ترشيد» نفقاتها العامة بإلغاء أشكال من الدعم اعتمدت عليها الفئات الأفقر. هذه المرأة التي جسدت بأنقى صورة ممكنة كيف يفهم الرأسماليون الديمقراطية -بوصفها كمالية- حين طالبت بحوار بين «بالغين» يفضي لقرارات غير شعبية لكن «ضرورية» خلال أزمة الديون مع اليونان؛ هذه السيدة تقدَم لنا اليوم بوصفها مثالًا لما يمكن للمرأة أن تحققه «في عالم الرجال» إذا آمنت بنفسها واتخذت قرارات شجاعة وصعبة.
قبل بضعة أشهر، استضاف برنامج «كلام نواعم» على قناة (MBC) لاغارد. في مقابلة مدتها أكثر من 21 دقيقة، لم تُسأل لاغارد سؤالًا واحدًا عن مسؤولية سياسات الهيئة التي تترأسها في الإمعان في إفقار الشرائح الأفقر، في سبيل تحقيق «نمو اقتصادي» لن تستفيد هذه الشرائح منه، بل لم تسأل أي سؤال يتعلق بسياسات الصندوق أصلًا، فيما عدا ما يتعلق بإشراك المزيد من النساء فيه، أو دعم دخول المزيد النساء حول العالم إلى أسواق العمل. جل ما دار حوله الحوار كان الصعوبات الشخصية التي واجهتها لاغارد، والتحديات التي تخطتها من أجل «الوصول للقمة». بالطبع، لا يقتصر هذا الاحتفاء بشخص لاغارد من حيث كونها امرأة على منطقتنا. حتى وسيلة إعلام اقتصادية متخصصة مثل بلومبرغ وجدت أنّه من الهام لمشاهديها أن يستمعوا لنصائح لاغارد لذاتها الشابة، التي تمثلت في «الانتباه أكثر لتوازن العمل والحياة».
تذويت النجاح، والفشل أيضًا
لا شك أن الحلول التي تقدمها سرديات النجاح النيوليبرالية تلاقي صدى واسعًا لأنها تقدم كحلول «ممكنة» لمشاكل ملحة بالفعل. قد يقول قائل إن هذه الحلول قد لا تحقق بالضرورة نتائج باهرة دومًا، هي ليست وصفة مضمونة للنجاح، لكنها لا تضر. فحتى وإن كانت النتائج لا ترقى لمستوى توقعاتنا، فالعمل الجاد بالتأكيد أفضل من الكسل، والتحلي بالإيجابية أفضل من وضع اليد على الخد وانتظار الفرج. لكن الوظيفة التي تؤديها هذه السرديات لا تقتصر على بث الآمال، لأن اعتماد حل فاشل هو في الوقت نفسه عرقلة لأي حلول أخرى، وضمان لاستمرار الأزمة. فالسردية التي تخبرنا أننا نمتلك أسباب نجاحنا لها نصف آخر، هو أننا نحن من نمتلك أسباب فشلنا أيضًا.
إذا كنا في كل لحظة قادرين على تحقيق أنفسنا وإسعادها وتطويرها، فسيصبح الفقر والحاجة والضعف -وحتى الحزن والخوف- ذنبنا نحن، ولن نعجز نحن أو غيرنا على إيجاد ما نلام عليه. حتى ظروف طاحنة كتلك التي خلقتها الحرب السعودية على اليمن يصبح من الممكن ردها إلى أسباب ذاتية. «اليمن على حافة المجاعة»، تقول مجلة الإيكونوميست البريطانية. «الهيئات الإغاثية كثيرًا ما تلوم الحرب الأهلية والحصار السعودي للمرافئ الشمالية وقصفها للبنى التحتية الحيوية. الحكومة ترفض دفع رواتب موظفيها في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون [..] لكن أحد أهم أسباب الجوع يمر مرور الكرام: نبتة مورقة اسمها القات». هذه نتيجة طبيعية تمامًا لهذه السردية.
بالطبع، يفتح نقد آشوف للسردية النيوليبرالية أسئلة حول الأهلية وقدرة الجماعات والأفراد على الفعل، لا تلقي إفرازات البنى الاجتماعية والاقتصادية فحسب. فإذا كانت هذه البنى قادرة على تحجيم خيارات الأفراد إلى حد بعيد، فما الذي يتبقى للفرد غير التذمر بشأن أقدارهم المرسومة سلفًا، والانغماس في دور الضحية؟ ألا يجرّد هذا الفهم فئات بأكملها من إراداتهم ويصورهم كمفعول بهم؟ هذه أسئلة مشروعة بالتأكيد. لكن هذه الأسئلة لا تطعن في النقد بحد ذاته بقدر ما تضيء على الحاجة للبناء عليه. فالعلاقة بين قدرة البنية على تشكيل الأفراد، وبين قدرة الأفراد على استدامة البنية أو تغييرها هي علاقة دائمة الحضور. أو كما يقول عالم الاجتماع سي رايت ميل -الذي تقتبسه آشوف- «بمجرد عيشنا، فإننا نساهم -وإن بصورة تفصيلية- في تشكيل المجتمع وفي مسار التاريخ، حتى وإن كنا في الوقت نفسه نتاج هذا المجتمع والشد والجذب التاريخيين».
ختامًا، على مستوى فردي، يمكن تخيل الوقع النفسي القاسي للفشل المتكرر في تحقيق النبوءة التي تبشر بها هذه السردية؛ فشل يشكل القاعدة لا الاستثناء (وهو ما تقر به هذه السردية ضمنًا حين تحتفي بقصص النجاح التي تحقق «المستحيل»). تلتقط أغنية أمريكية شهيرة من حقبة الكساد الاقتصادي في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، ببلاغة، قسوة هذه النتيجة:
قالوا لي إنني أبني حلمًا
لذا، تبعت عامة الناس
حين كان هنالك أرضٌ لتحرث، أو أسلحةٌ لترفع
كنت دومًا مستعدًا للمهمة
قالوا لي إنني أبني حلمًا
وإن السلام والمجد قادمان
لماذا، إذن، أقف في الطابور
منتظرًا الخبز فحسب؟
مرة أنشأت سكة حديد، شغلتها
جعلتها تسابق الزمن
مرة أنشأت سكة حديد، انتهى ذلك الآن
أخي، أَمعك عشرة سنتات؟
_____________________________________________________________________________
* Aschoff, Nicole. (2015). The New Prophets of Capital. Jacobin Series. London: Verso.
ظهرت خلاصات من هذا الكتاب في مقالين على الغارديان (1، 2) في أيار 2015.
شكرا لك.