رياضة العقل: كيف تحسن التمارين صحة دماغك

الإثنين 24 تموز 2023
صحة الدماغ
المصدر: 6IX+.

نشر هذا المقال في مجلة New Scientist في 31 أيار 2023.

في كانون الثاني عزمت أمري بأن أبرع في أداء تمرين العقلة البسيط. لم أمتلك قط قدرًا كبيرًا من القوة العضلية في الجزء العلوي من جسدي، لذلك كنت مدركة بأنه سيكون شاقًا عليّ، لكن لا بأس، إذ اعتقدت بأنني لا أقوم به حتى أن أكون أقوى أو أكثر لياقة، بل أقوم به من أجل دماغي. 

كما هو شأن الكثير من الناس، اعتدت ممارسة التمارين الرياضية لأحافظ على لياقتي البدنية. لكن بعد بضع سنوات، وبينما كنت أمضي في تأليف كتابي «قوة الدماغ: كل ما تحتاج معرفته للوصول إلى دماغ صحي وسعيد»، تعمقت في البحث ضمن الأدبيات المتعلقة بممارسة التمارين الرياضية والدماغ. فكان ما وجدته سببًا لتتغير علاقتي مع التمارين للأبد.

لا يخفى على أحد أن ممارسة التمارين الرياضية مفيدة للدماغ والجسد على حدٍ سواء. غير أن العقد الماضي شهد ثورةً بحثية كشفت إلى أي مدى يمكن أن تخلق الرياضة تحولًا جذريًا، سواء كان ذلك في مجال تحسين الأداء الأكاديمي لدى الأطفال أو تحسين الحالة المزاجية والذاكرة لدى البالغين أو حتى الحماية من التراجع الإدراكي. يقول ديفيد لوبانز من جامعة نيوكاسل في أستراليا: «يبدو أن [ممارسة التمارين] أحد أهم الأمور التي يمكنك القيام بها لصحة الدماغ. لا ألقي بالًا كبيرًا بمنافعها الجسدية. فالأمر كله متعلق بالشعور بالارتياح وتحسين الأداء العقلي».

يصرف العلماء أمثال لوبان اهتمامهم حاليًا صوب سؤال كيف ولماذا تحظى ممارسة التمارين بهذا التأثير القوي على الدماغ. وما توصلوا إليه يكشف عمّا هو مُجدٍ حقًا، وكيف يمكننا تحقيق استفادة أفضل من المجهود البدني المعزز لقدرات الدماغ.  

ظهرت أوائل الأدلة التي ربطت ممارسة التمارين بالدماغ في تسعينيات القرن الماضي، حين توصل عالم الجينات فريد كيج إلى أن ممارسة التمارين قد تقود إلى نمو خلايا دماغية جديدة لدى الفئران. ومنذ ذلك الحين، أظهرت الدراسات أن ممارسة التمارين تنتج مواد كيميائيةً تيسّر التواصل بين خلايا الدماغ الجديدة، وأنها أحد الوسائل القليلة التي من شأنها تحفيز نمو الخلايا الدماغية الجديدة لدى البشر كذلك، لا سيما في مناطق من القشرة المخية المرتبطة بالتعلم والذاكرة والحالة المزاجية. 

تعتبر الحالة المزاجية نقطةً بداية جيدة في حال كنت تريد معرفة أثر ممارسة التمارين الرياضية على الدماغ. إن تحريك الجسم يقدم تحفيزًا فوريًا للدماغ، وهو ما تدلل عليه أي ممارسة منتظمة للتمارين. حيث إن جلسة تدريبية واحدة تجعل المرء يشعر بمزيد من الإيجابية والطاقة لعدة ساعات. 

حين نأتي إلى الصحة العقلية، يغدو الأمر أكثر التباسًا. هناك براهين قوية تدلل على أن ممارسة التمارين هي علاجٍ فعال لحالات الاكتئاب الخفيفة والمتوسطة، خاصة لدى المراهقين. غير أن النتائج عند البالغين كانت متفاوتة، كما أن هناك تساؤلات حول القدر اللازم من التمارين كي تؤتي أُكلها. هل تعد ممارسة التمارين علاجًا شاملًا، أم هي بمثابة صيدلية دوائية، تختلف احتياجات الناس لأنواعها وجرعاتها؟ 

لمعرفة المزيد، حلل سامي شكرود وزملاؤه في جامعة أكسفورد، بيانات 1.2 مليون أمريكي، جُمعت على مدار عدة سنوات من قبل مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة، وجاءت النتائج صاعقة؛ حيث وجدوا أن مَن يمارسون التمارين الرياضية اختبروا تدهورًا أقل في صحتهم النفسية بنسبة 43% ممن لم يمارسوها خلال الشهر المنصرم، كما أن تأثير ذلك كان أكبر لدى مَن سبق تشخيصهم بالاكتئاب. وهذا انطبق على الجميع بصرف النظر عن أعمارهم، أو جنسهم، أو عرقهم، أو حالتهم الاقتصادية. 

التمارين بوصفها علاجًا للاكتئاب

يتوافق هذا مع تقرير نشرته الكلية الأمريكية للطب الرياضي في ولاية إنديانا، خلصت فيه إلى أنه كلما زادت ممارسة الأشخاص للتمارين، تضاءلت احتمالية إصابتهم بالاكتئاب لاحقًا في حياتهم. وبالنسبة للذين مارسوا التمارين لمدة ثلاثين دقيقةٍ يوميًا، فإن احتمالية إصابتهم بالاكتئاب قلت بمقدار النصف تقريبًا. وعلى الجانب الآخر فإن الخمول من شأنه زيادة مخاطر الإصابة بالاكتئاب.

إن تحريك الجسم يقدم تحفيزًا فوريًا للدماغ، وهو ما تدلل عليه أي ممارسة منتظمة للتمارين. حيث إن جلسة تدريبية واحدة تجعل المرء يشعر بمزيد من الإيجابية والطاقة لعدة ساعات.

هناك أخبار جيدة لمرضى الاكتئاب حاليًا. في مطلع هذا العام، خلصت دراسة تحليلية لنتائج مما يزيد عن 41 دراسة شملت أكثر من ألفي بالغ، إلى أن تمارين المقاومة (مثل رفع الأثقال) أو تمارين الأيروبيكس (التمارين الهوائية) ذات الشدة المتوسطة، سواء كانت هذه التمارين تُمارس تحت إشراف مُدرب أو في مجموعة، مثلت علاجًا ناجعًا للمرضى المُشخصين باضطراب الاكتئاب الشديد أو أولئك الذين يعانون من أعراض الاكتئاب. 

خلصت دراسة شكرود إلى أن جميع أنواع الأنشطة ذات صلة بانخفاض عدد الأيام التي يواجه فيها المرء تدهورًا في صحته النفسية. الصلة الأقوى تمثلت في الرياضات الجماعية، يليها ركوب الدراجة الهوائية، وتمارين الأيروبيكس، وممارسة التمارين في الأندية الرياضية. بينما تخفّض الأنشطة الرياضية الأخف، مثل المشي أو القيام بالأعمال المنزلية، من عدد أيام تدهور الصحة النفسية بنسبة 17.7% و10% على التوالي. فوائد ممارسة التمارين كانت متشابهة وأحيانًا أكبر من فوائد عوامل التنبؤ بصحة نفسية جيدة، مثل ارتفاع المستوى التعليمي أو ارتفاع دخل الأسرة.

التمارين والحالة المزاجية

ثبت أن تمارين القوة، مثل رفع الأثقال أو تمارين الضغط، لها قدرة كذلك على تقليل القلق عند البالغين، والمساعدة في الحدّ من أعراض الاكتئاب وتعزيز الثقة في النفس، وهذا كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلتني أختار تحدي تمرين العقلة ليكون هدفي للسنة الجديدة.

لم تكن دراسة شكرود مثالية: حيث درست السكان في نقطة زمنية محددة، عوضًا عن اللجوء للتجارب السريرية والتدخلات الطبية. مما يعني أنه ليس بمقدورنا الجزم بأن التمارين قد سببت هذه التأثيرات. ومع ذلك، فإن الأدلة التي تشير إلى أن ممارسة التمارين قد تكون طريقة ناجعة لتحسين أمزجتنا تتراكم، وهذا ما يجعلني أدرج التمارين كبنود لا تقبل المهادنة ضمن جدولي الأسبوعي. 

لا يستلزم الأمر جلسةً طويلة. فقد وجد فريق شكرود أن ممارسة المزيد من التمارين لا تعني بالضرورة دائمًا تحسنًا أكبر في المزاج. بالنسبة لمعظم أنواع التمارين الرياضية، فإن 30 إلى 60 دقيقة يوميًا يعد قسطًا مثاليًا، وهو القدر الذي ارتبط بأقل عبء نفسي. تبلغ فوائد الهرولة وركوب الدراجة الهوائية ذروتها في الدقيقة الـ45. 

في حال كنت بحاجة للمزيد من الإقناع لإدراج ممارسة التمارين خلال وقت مبكرٍ من النهار، فاعلم بأنها تحسن من مهاراتك المعرفية. يقول لوبان «أحض الناس على ممارسة التمارين في وقتٍ مبكرٍ من اليوم، لأن فترة ما بعد الظهيرة ستكون أكثر إنتاجيةً حينها. إنني متفاجئ من أن ذلك شيء لا يفعله الكثيرون».

تحسين سلوك الأطفال

عند الحديث عن فهم الصلات بين ممارسة التمارين والإدراك، نجد أن معظم الأبحاث قد انصب تركيزها على الطفولة والشيخوخة بوصفهما الفترتين العمريتين اللتين تشهدان التغييرات الكبرى في الدماغ، كما يكون فيهما تأثير العوامل المحيطة تحديدًا أعظم أثرًا.

تطرأ على أدمغتنا تطورات سريعة خلال مرحلة الطفولة، حيث نطور روابط تمكننا من إتقان مهاراتٍ جديدة. خلال هذه الفترة، يكون الدماغ شديد الحساسية لتأثير الحركة تحديدًا. يرتبط الخمول بأداء أكاديمي أسوأ لدى الأطفال وكذلك يؤدي لتحصيل درجات متدنية في الاختبارات المعرفية المعيارية. 

أظهرت دراساتٌ أنه حين يمارس الأطفال بين ثمانية و10 أعوام المشي أو الجري 15 – 20 دقيقة قبل ذهابهم إلى المدرسة، فإن أداءهم مهام مثل الاستماع أو اتباع القواعد يكون أفضل.

إن ممارسة قدرٍ ضئيل من التمارين الرياضية كفيلٌ بإحداث فارقٍ كبير. كانت الدراسة التي قام بها تشارلز هيلمان وزملاؤه في جامعة بوستن عام 2009، أول دراسة تظهر أنه في حال قام طلاب المدارس الذين تبلغ أعمارهم تسعة أعوامٍ بممارسة جولةٍ واحدة من التمارين المعتدلة -كالمشي لمدة 20 دقيقة على جهاز المشي- فإنهم سيلحظون تحسنًا فوريًا في وظائف الدماغ والإدراك والتحصيل الأكاديمي، خاصة تحصيل نتائج أعلى في اختبارات الرياضيات والقراءة بالمقارنة مع ما يحصّلونه في حال كونهم خاملين. وأظهرت دراساتٌ أخرى بأنه حين يمارس الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ثمانية و10 أعوام المشي أو الجري لمدة تتراوح بين 15 إلى 20 دقيقة قبل ذهابهم إلى المدرسة، فإن أداءهم مهام مثل الاستماع أو اتباع القواعد يكون أفضل، بالمقارنة مع أدائهم في الأيام التي لا يمارسون فيها المشي أو الركض. يبحث هيلمان الآن في الآلية الكامنة خلف هذه التأثيرات، آملًا أن يحدث تأثيرًا في السياسة المتعلقة بطريقة دمج ممارسة التمارين في المدارس. 

يبدو أن فترة المراهقة تمثل مرحلةً حاسمةً في تأثير ممارسة التمارين على الدماغ. حيث خلصت الدراسات التي تتناول الذكور من المراهقين السويديين المنضمين إلى الجيش بعمر 18 عامًا، والذين جرت متابعتهم لعقود لاحقة، بأن انخفاض مستوى اللياقة البدنية في عمر الـ18 كان مرتبطًا بزيادة مخاطر الإصابة بالاكتئاب الحاد في مرحلة البلوغ، وكذلك الإصابة بالخرف المبكر.

وبالمثل، وجد فريق لوبان بأن ممارسة التمارين لمدة تتراوح بين ثماني إلى 20 دقيقة، ثلاث مرات أسبوعيًا، لمدة ستة أشهر، لا يقتصر تأثيرها على تحسين لياقة المراهقين، لكنها تحسن كذلك تركيزهم في الغرف الصفية. وبالنسبة للمراهقين الذي يعانون من صحة نفسية متردية، فإن ممارسة الرياضة تقلل التوتر المحسوس، كما تقلل مشاعر الحزن. 

لا تقتصر التأثيرات الإدراكية لممارسة التمارين على الأطفال والمراهقين. حيث كشفت الأبحاث بأن المحافظة على النشاط بمقدورها تحسين جميع مهارات التفكير لدى البالغين أيضًا، بما في ذلك الذاكرة والتركيز والإبداع، وهو ما من شأنه دعم فكرة أن أخذ استراحة من العمل لممارسة التمارين من شأنه جعلنا أكثر إنتاجية. 

الوقاية من الخرف

قد يكون هذا أفضل استثمارٍ لمستقبلنا. تقول إيف هوجرفورست، التي تدرس ممارسة التمارين والإدراك في جامعة لوبورو في المملكة المتحدة، «لقد وجدنا أن ممارسة التمارين قد تكون أحد العوامل الكبرى المحتملة للوقاية من مرض ألزهايمر وأنواع أخرى من الخرف». وتضيف أنه على النقيض من تأثير اتباع حمية غذائية صحية والإقلاع عن التدخين، اللذين لهما الأثر الأكبر على الدماغ في حال ممارستهما قبل ظهور أعراض الخرف، فإن فائدة ممارسة التمارين تستمر بعد الإصابة بالخرف وحتى الممات. 

يأتي الدليل القاطع الذي يثبت قدرة التمارين على إبقاء الأدمغة شابة من التحليل الإحصائي الذي ضم 15 دراسة بلغ مجموع المشاركين فيها أكثر من 30 ألفًا، جرت متابعتهم على مدى 12 عامًا. وخلص التحليل إلى أن الأشخاص الذين يمارسون التمارين الرياضية -حتى الخفيفة منها- ينخفض لديهم خطر التعرض للتدهور المعرفي بنسبة 40%. ويظهر تحليل آخر شمل 45 دراسة تتبعت 100 ألف شخص لمدة 28 عامًا، بأن الأشخاص الذين يمارسون تمارين معتدلة أو شديدة الحدة، قلت لديهم مخاطر الإصابة بمشاكل إدراكية بنسبة 18%.  

تُشير هوجرفورست إلى أن ممارسة التمارين هي إحدى الأمور القليلة التي بمقدورك القيام بها لا لتمنع الخرف فحسب، بل لإبطاء الانتكاس في حال كنت تعاني من أعراض الخرف بالفعل. تتحسن الذاكرة خلال 24 ساعةٍ فقط من ممارسة جلسة واحدة فقط من تمارين المقاومة، سواء كان ذلك لمَن يعانون من الخرف أو لغيرهم، وبعد بضعة أسابيع من الاستمرار في ممارستها ستكون النتائج أفضل بكثير. 

بمقدور التمرينات الجماعية أن تقلل شعورنا بالوحدة والعزلة وأن تحمينا من عدة مخاطر تؤثر على صحتنا النفسية.

ورغم هذا، ليس هناك إجماعٌ على الأدلة الداعمة لما سبق، حيث أثارت مراجعات شاملة للدراسات تمت خلال الأشهر الأخيرة تساؤلًا عن المبالغة في هذه النتائج. يقول عالم الأحياء التطورية في جامعة أريزونا ديفيد رايشلين، إن هناك عدة أسبابٍ لوجود نتائج متفاوتة؛ إذ يدخل تأثير عوامل أخرى مثل عمر المشتركين وأنواع التمارين التي مارسوها وأجزاء الدماغ المستهدفة، مضيفًا أن «ما يخبرنا به هذا التفاوت هو أن هناك المزيد مما يتوجب علينا العمل عليه». 

إن التضارب الحاصل في النتائج يجعل فهم الآليات الكامنة خلف أي تأثير أكثر أهمية، وهذا مثل نقطة البداية في الآونة الأخيرة. تتمثل أحد أهم التفسيرات المعهودة بالقول إن «ما هو جيد للجسد جيد للدماغ كذلك». فالدماغ نَهِم، ويتطلب عمله حرق كمية كبيرة من الطاقة ومعدل إمدادٍ ثابت من الأكسجين والمواد المغذية المنقولة له عبر الدورة الدموية. تساعد التمارين الرياضية على المحافظة على صحة هذه الشبكة من الأوعية الدموية وإبقاء ضغط الدم منخفضًا. وهذا أمر مهم، لأن الدراسات أظهرت أن ضغط الدم المرتفع مرتبط بانخفاض الأداء الإدراكي، وهو أيضًا عامل خطر للإصابة بالخرف. كما تخفض ممارسة التمارين من مخاطر الإصابة بالسكري والسمنة، اللذين يمثلان عوامل خطر كبيرة للإصابة بالتحلل العصبي لاحقًا.  

ومع ذلك، فإن ممارسة التمارين لا تقتصر فقط على ضخ المزيد من الدم إلى الدماغ. من السهل النظر إلى عضلاتك وكأنها تتحرك ردًا على إشاراتٍ تأتيها من الدماغ حين الحاجة للمشي أو الركض أو محاولة ممارسة تمرين العقلة. غير أن العضلات الهيكلية -المتصلة بعظامنا التي تنشط حين نمارس التمارين الرياضية- بعيدة كل البعد عن كونها سالبة، بل هي عضلات فاعلة على اتصالٍ دائم بسائر الجسد، بما في ذلك الدماغ. حين نمارس التمارين، تفرز عضلاتنا مزيجًا فعّالًا من الهرمونات والبروتينات (وتسمى الميوكينات) التي يمكن للكثير منها الوصول إلى الدماغ، ويعتقد أنها ذات تأثير على أمزجتنا وسلوكنا، ما جعلها تلقب بـ«كيماويات الأمل».

نمو خلايا دماغية جديدة

تلعب الميوكينات أيضًا دورًا في نمو خلايا دماغية جديدة. تاريخيًا، كنا نعتقد بأننا نولد بعددٍ محدود من الخلايا الدماغية التي لن يكون لنا غيرها، غير أننا اكتشفنا لاحقًا أن ممارسة التمارين هي أحد الأمور القليلة التي بمقدورها تحفيز نمو خلايا دماغية جديدة. 

رُبط عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ (BDNF)، الذي يعد أكثر أنواع «كيماويات الأمل» بحثًا ودراسة، بنمو خلايا دماغية جديدة في الحُصَين في أدمغة البشر، وبتحسين التعلم والذاكرة. قد تكون طفرة نمو خلايا جديدة في الحصين أحد التفسيرات الممكنة للتحسن المعرفي الحاصل بعد ممارسة التمارين. إن النقص في نمو خلايا دماغية جديدة ضالعٌ في حدوث إصاباتٍ بالخرف وغيره من الحالات المرتبطة بالصحة النفسية، بالتالي، فإن تحفيز هذا النمو قد يساعدنا على تفسير أعراض التحسن التي نلحظها عند الأشخاص المتأثرين بهذا كذلك. 

كلما تعمقنا أكثر في فهمنا لهذه الكيمياء، اهتدينا إلى معرفة أي الأنواع من التمارين تنتج هذه الكيمياء، وبالتالي أيها أعظم نفعًا، والقدر الذي ينبغي علينا ممارسته منها. تناولت إحدى الدراسات ثلاثة أنواعٍ من التمارين: التمارين الهوائية (الأيروبيكس)، والتمارين اللاهوائية ذات الكثافة العالية مثل التدريب المتواتر عالي الكثافة (HIIT training)، وتمارين القوة (أهلًا بتمرين العقلة!). وبداية، خلصت الدراسة إلى أنه من الواضح أن التدريب المتواتر يوفر تحسنًا إدراكيًا أكبر مما توفره التمارين الهوائية ذات الكثافة المنخفضة. والمدهش هنا هي تمارين القوة التي يبدو أنها تجعل العضلات تنتج مجموعة أكثر تنوعًا من الميوكينات. أحدها، عامل النمو الشبيه بالأنسولين 1، الذي يعزز نمو واستدامة الخلايا العصبية، والمرتبط بالأداء الإدراكي. والآخر هو الإيريسن الذي يقل لدى المصابين بمرض الزهايمر. 

من شأن كل هذا أن يقدم لنا تفسيرًا لمَ تحرز النساء المتقدمات في السن، اللواتي يعانين من تدهور إدراكي بسيط، والمعرضات لخطر الإصابة بالزهايمر، اللواتي يقمن بتمارين مقاومة مرتين أسبوعيًا لمدة ستة أشهر، نتائج أفضل في اختبارات التركيز والذاكرة مقارنة بأولئك اللواتي مارسن تمارين الأيروبيكس والاستطالة.

ترتبط قوة القبضة العالية، التي تعد دليلًا على القوة الكلية للعضلات، بذاكرة وأوقات رد فعلٍ أفضل إضافةٍ إلى مهارات معرفية مكانية ولفظية أفضل لدى الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة، كما أنها مرتبطة بزيادة التركيز واستخدام المنطق. وفي حقيقة الأمر، فإن تأثير العضلات على الدماغ عظيمٌ جدًا حيث يمكن استخدامها كعامل تنبؤ بالتدهور الإدراكي: في حال قلت قوة قبضتك، فمن المحتمل أن تحذو قواك الإدراكية حذوها. وعلى الرغم من أن تمارين الأيروبيكس التي تضخ الدم -وكل هذه المواد الكيميائية الحيوية- لكافة أجزاء الجسد تعد رهانًا جيدًا، إلا أنه يبدو أن تمارين المقاومة أكثر فاعلية.

نشوة العدائين

تساعد ممارسة التمارين خلايا الدماغ على التواصل بكفاءة أكبر من خلال تعزيز النواقل العصبية، مثل جابا والجلوتامات. وبينما يبدو أن من شأن هذا تحسين الذاكرة، فربما يكون بمقدوره لعب دورٍ في الحالة المزاجية، حيث إن المستويات المنخفضة من هذه المواد الكيميائية مرتبطة بالإصابة بالاكتئاب. كما ثبت أن ممارسة التمارين تعزز النواقل العصبية الأخرى، كالدوبامين المسؤول عن الشعور بما يسمى «نشوة العدائين». 

هذه كلها ليست سوى تحولات قصيرة الأمد في نشاط الدماغ. لكن هيلمان ولوبانز وجدا دليلًا على أن ممارسة التمارين قد تؤدي أيضًا إلى تغييرات بنيوية ووظيفية طويلة الأمد في الدماغ. شرح لوبان الكيفية التي تحسن بها التمارين الأيض في الحصين، مما يساعده على إفراز المواد اللازمة لإحداث هذا التغيير البنيوي، كما بيّن هيلمان أن ممارسة التمارين الرياضية تساعد على تحسين سلامة المادة البيضاء، التي تساعد أجزاء مختلفة من الدماغ على التواصل مع بعضها البعض، وهو ما من شأنه أن يمكن الناس من معالجة المعلومات بصورةٍ أسرع والقيام بعمليات دماغية معقدة مثل التخطيط والقيام بمهام متعددة.

هناك مدرسة فكرية تقول إن أفضل تمرين هو الذي يؤدي إلى التحفيز المعرفي أو الذي يجعلك تتحرك وتفكر في الوقت ذاته، مثل تسلق الصخور أو الرياضات الجماعية أو فنون الدفاع عن النفس.

حين يتعلق الأمر باختيار التمرين الأنسب لك، قد تأخذ بعين الاعتبار مع مَن ستمارسه. وجد شيكرود وزملاؤه أن التمارين الجماعية أكثر نجاعة للصحة النفسية، وهذا مفهوم إذا أخذنا بالاعتبار أن للأنشطة الاجتماعية القدرة على مواجهة التوتر وتقليل مخاطر الإصابة بالاكتئاب. قد يساعد الجانب الاجتماعي للرياضة الجماعية على تقليل الانسحاب الاجتماعي ومشاعر العزلة الملازمة للاكتئاب وغيره من الأضرار التي تصيب الصحة النفسية في أغلب الأحيان.

هناك أيضًا مدرسة فكرية تقول إن أفضل تمرين هو ذاك الذي يؤدي إلى التحفيز المعرفي أو الذي يجعلك تتحرك وتفكر في الوقت ذاته، مثل تسلق الصخور أو الرياضات الجماعية أو فنون الدفاع عن النفس. قد يكون لهذا جذور في الطريقة التي تطور بها أسلافنا ليكونوا نشيطين، حين بدؤوا بالمشي على اثنتين والصيد للحصول على طعام ضمن نطاق مسافاتٍ كبيرة. مثلت الحاجة المتزامنة لاستكشاف المنطقة والتواصل فيما بينهم واستطلاع البيئة المحيطة بهم أثناء حركتهم عبئًا معرفيًا كبيرًا وجديدًا على جنسنا البشري. يعتقد بعض الباحثين أن هذا هو ما طوّر أدمغتنا الفائقة والذكية.

يقول رايشلين إن هذا يشير إلى أننا قد نكون بحاجة إلى تحدي أدمغتنا للوصول إلى أعظم قدرٍ من الانتفاع بها، وقد يكون هذا تفسيرًا للسبب الكامن خلف وجود نتائج متفاوتة بين الأشخاص في الدراسات المختلفة. فقد وجدت تراسي ألوي في جامعة شمال فلوريدا وزملاؤها بأن أداء البالغين الذين يمارسون تمارين مُتطلِبة معرفيًا يكون أفضل في اختبارات الذاكرة مقارنة بأولئك الذين يمارسون اليوغا. 

أخيرًا، مهما كان ما ستختاره، فاحرص على أن يكون شيئًا تستمع به. من غير المفاجئ أن الدراسات أظهرت أن الأشخاص الذين أجبروا على ممارسة مستويات قاسية من التمارين في التجارب عانوا من تراجع حالتهم المزاجية. أصبحت الآن أحب تحدي التمرين الخاص بي؛ ما زال تمرين العقلة عصيًا علي، لكني أقترب من اتقانه شيئًا فشيئًا. وغضون ذلك، بات عضلتي الذهنية أفضل حالًا من أي وقتٍ مضى. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية