أولمبياد الطبطبة على الدمامل: الجامعة الأردنية نموذجاً

الأحد 30 آذار 2014

مقالٌ كهذا، يهزأ من صاحبه حتى قبل أن يكتبه. فهو يعرف أنه لن يزيد السامعين أي بيت من الشعر. ولكن يوماً كيوم الخميس الماضي الذي مرّ على الجامعة الأردنية، يردّ الإنسان ردةً قسريةً إلى أكثر غرائزه بدائية، إلى الحد الذي لا يهتم معه في أن يكرر نفسه (ونفس الآخرين)، ففي يوم كيوم انتخابات مجلس طلبة الأردنية يقوى لدى الإنسان حسّ القطيع الخائف، المحشور في ممرٍ أو بهوٍ بانتظار إشارة من قائد يقف على رأس تلة، يؤذن بفراغ الأفق من “الخطر” بحيث يتمكن القطيع من الانسحاب إلى مكان أكثر أمناً.

تقوى لدى الواحد منا غريزة البقاء، إلى الحد الذي يصبح عنده مستعداً لفتح أي باب يصادفه ليتوارى خلفه من “الخطر” الهائج الذي يلاحقه بالسكاكين وبالعصي وبقطع الأثاث المكسّرة وبقنابل الغاز ورشاشات الفلفل والأسلحة البيضاء. ويصبح الإنسان مستعداً للتنازل عن المروءة وإغاثة الملهوف (القيم البدوية الأردنية التي فتحنا فيها رؤوس المستشرقين والسياح) مقابل خشيته من أن يغادر موقعه الآمن (خلف باب أو سيارة أو داخل حمام) بهدف تأمين مرور إنسان محاصر في ممر الطوشة المهيبة.

قارئي العزيز الذي بدأت تتبرم، أنا أفهمك.

فإما أنك تقول أنني أبالغ، أو أنني أكرر أسطوانة مشروخة مللتها ومللت أيامها، أو أنك تتساءل ببراءة –لك مطلق الحق في أن ترفل في نعيمها- : “متى هاظ الحكي؟ والله ما عندي خبر”. من أين سيأتيك الخبر؟ وتصريحات إدارة الجامعة الوردية انهمكت وهي تزغرد في العرس الديمقراطي وكأنها أم العريس.

المشهد كان سوريالياً بكل ما للكلمة من معانٍ. تأتي في الصباح كأي صحافي محترم لتغطي الانتخابات في الجامعة التي خرجتك منذ سنتين –لا أدنى من ذلك ولا أكثر- فتجد أنك لست قادراً على أن تخرج من المبنى الذي تورطت فيه منذ ساعات الصباح، وهو –في حالتي- مبنى كلية الآداب.

فتفتتح نهارك بأن ترى شباب الجامعة – فرسان التغيير وأمل الوطن وكذا وهيكا- وهم يدافعون فتيات الكلية على أبواب لجان الاقتراع لمنعهن من الدخول للإدلاء بأصواتهن، تصيح بهم فتاة من إحدى لجان المؤازرة: عيب عليكو تمدوا إديكو على البنات، فيأتيها صوت شاب من عند باب اللجنة: اخرسي يا قحبة.

جرحت مشاعركم الكلمة؟ عمّت لحظة من القلق والصمت المشدود بعد أن فرقعت الكلمة النابية في أفق “المجتمع المحافظ”، وبدأت الفتيات “العاقلات” بالدعوة إلى التهدئة لحماية أنفسهن من الشطب الاجتماعي الذي يطال الفتاة التي توصف بهذا الوصف في ممر كلية مزدحم (انهزام على انهزام على انهزام).

فأقول لنفسي: “معلش يا بنت، كل سنة بصير هيك، مش اشي جديد”.

أقف في الممر لأنظر، وفجأة ومن دون أي سبب، يبدأ الشباب في التدافع والتلاسن ويبدأ الضرب والصراخ، وتعمّ الفوضى، ويتبع ذلك صوت انفجار. تنعكس لمعة الانفجار عن النوافذ، فأغلق عينيّ –كردة فعل غريزية- وعندما أفتح عيني أجد أن الغبار يتساقط من ديكور السقف، وعمّ بعد ذلك صوت تدافع الأقدام … تدافع تدافع وصراخ فتيات مذعورات.

تأتيك الأخبار بأن من أطلق الغاز هم الطلبة، وأن دموع الأمن الجامعي تسيل على عرض خدودهم وأن أحد المرشحين تعرّض للاختناق

ألتصق بالجدار – إمعاناً في ادعاء الشجاعة- فتنبعث رائحة نفاذة من الشيء الذي انفجر، ويأتي متطوع فيغلق أبواب الممرات حتى يحصر رائحة الغاز في البهو، وتظن ببراءة أن هذا الغاز هو “أحد آليات السيطرة على الشغب” و تعتقد أنه من صلاحيات الأمن الجامعي في يوم منيل بستين نيلة كهذا اليوم، حتى تأتيك الأخبار بأن من أطلق الغاز هم الطلبة، وأن دموع الأمن الجامعي تسيل على عرض خدودهم وأن أحد المرشحين تعرّض للاختناق، وأن مسؤولة لجنة الانتخاب التي حاولت أن تسعفه اختنقت هي الأخرى وأن الإسعاف جاء وأخذ الأخ المرشح إلى مستشفى الجامعة.

تهدأ الأمور لشيء من الوقت، ثم تبدأ الدبكات والزغاريد، أيضاً أقول لنفسي: ممتاز، هذا ما يحصل كل عام، والدبكات شيء لطيف يدل على “استيعاب الموقف”. معلش أن طريقة الغناء تليق بمضارب قبيلة، وليس لها أي علاقة بمؤسسة أكاديمية، ولكن الواحد منا يقرّع نفسه ويقول “مفكر حالك بسويسرا، لفلفها، مشّيها” حتى يتناهى إلى سمعك صوت الدبيكة وهم يقولون “العجرمي عليه السلام” فتثور ثائرة الإسلاميين “للتطاول” على أنبياء الله، فتحمى حميّة المتقاتلين من الجانبين، وتشتعل الطوشة من جديد، ويبدأ هنا صوت التكسير والتكفير – مع استمرار كورس الفتيات المذعورات في الصراخ- ويندفع الأمن الجامعي لإخلاء المبنى عن بكرة أبيه.

أقف على نافذة مكتب إحدى الصديقات وأراقب البهو. مشهد شبيه بما بعد هجوم الزومبي في أفلام هوليود: البشر ينزاحون بخط طولي نحو الأبواب، تدافعٌ عند الأدراج، تصايح عند البوابة الضيقة الوحيدة التي بقيت مفتوحة –للتمكن من السيطرة الاستراتيجية على ساحة المعركة- ، ومن ثم –وهنا مفاجأة الموسم- يحمل شباب من إحدى لجان المؤازرة مرشحاً آخر –يحملونه كالصرصور- واحدٌ يمسك به من كل قدم وذراع، ويهددون بإلقائه من النافذة!

تكاد تفقد عقلك وأنت ترى إنساناً يخرج رأسه أكثر من مرة من نافذة الطابق الثاني قبل أن يقرر حاملوه أن يلقوه على الأرض داخل النافذة بعد أن فرغوا من عملية ترويعه، وترويع من كان يفكر بانتخابه .. يتركونه ويتعالقون مع أفراد الأمن الجامعي ويرفضون إخلاء المبنى، ويتهجمون على أفراد الأمن، يشدشدون قمصانهم وبناطيلهم فيمزقونها عن بنيتهم المسالمة، غير المهيئة بأي شكل من الأشكال للتعامل مع حالة الحمقة الأسطورية التي تعتريهم.

بعد ثلاث ساعات من الاستنجاد بعميد الكلية المختفي، بدأن يطالبن “بالخروج الآمن” من خط المواجهة.

لجنة الانتخاب في الطابق الثاني –والتي سنسميها هنا: موقعة القاعة 205- تتكون من ثلاث دكتورات، نساء قويات وواثقات، وجدن أنفسهن وسط المعركة البدائية يطالبن بحضور دكتور “ذكر” وبتعزيز أمني ليحميهن في بداية الأمر، ثم وبعد ثلاث ساعات من الاستنجاد بعميد الكلية المختفي، بدأن يطالبن “بالخروج الآمن” من خط المواجهة.

ثلاث ساعات تعرضن فيها للرشّ بالغاز، وللقذف بكراسٍ مخلوعة وللتهديد اللفظي المباشر، حتى تمكّنّ بعد ذلك من الانسحاب من القاعة بمرافقة طالب متطوع.

ما يطيّر ضبان العقل في كل هذه المعمعة –التي حصلت سلفاً، وتحصل وستظل تحصل إن استمر الحال على ما هو عليه- هو إصرار إدارة الجامعة على تقديم الوجه السويسري لانتخابات الطلبة، ورقي العملية الانتخابية، التي تعكس “وعي الطلبة الديمقراطي” … مجنون يحكي وعاقل يسمع، الفيديوهات التي تملأ اليوتيوب منذ عدة سنوات لنقل المصابين، ولتضارب الجهات المتنافسة، ولتطاير الحجارة والأحزمة وخشب الطوبار والسكاكين، وبعد ذلك “تطالعنا” –لسوء طالعنا- التقارير اللطيفة عن “سلاسة العملية الانتخابية” وعن “العرس الديمقراطي” البائن فشله بينونة كبرى.

تسأل نفسك: أين اختفى حساب رئيس الجامعة وعميد شؤون طلبتها عن الفيس بوك؟ ولماذا قُطع اتصال إحدى الطالبات التي اتصلت بإذاعة الجامعة لتروي حقيقة ما رأته في كليتها؟ تسأل نفسك –وأنت خريج الجامعة، وابنها، والغارق في فضلها حتى قراقيط أذنيك- لماذا تصر الجامعة على التغطية على ما يجري فيها؟ هل هو خوف على اعتماد الجامعة وسمعتها؟ وتسأل نفسك: ما قيمة اعتماد الجامعة أمام دم أحد أبنائها، أو تشويه خلقته بسكينة أو بحديدة صدئة أو برصاصة؟!

لماذا تصر الجامعة على التغطية على ما يجري فيها؟ هل هو خوف على اعتماد الجامعة وسمعتها؟ 

الشروخ الطولية التي تعاني منها الأردن كاملة (بين أردني وفلسطيني) والشروخ العرضية (بين طبقة الهاي هاي، وطبقة آكلي الهواء) سيضاف (أو أضيف إليها وانتهى الأمر) شرخ العشائر والإسلاميين، كل هذا لمصلحة من؟ وما هو دور الجامعة –الأردنية وغيرها- في تربية طلبتها للترفّع عن هذه العقلية الهمجية البدائية التي تهدد كل شيء؟

هذا الإنسان الذي تصربع بحقيقة أنه أغلى ما نملك، موضوعٌ على المحكّ، وأن الجامعات الأردنية إن فشلت في تكوين بيئة أكاديمية علمية أدبية خلاقة، وإن فشلت في أن تكون مراكز حضارية جاذبة للطلبة والباحثين من كل حضارات العالم، فليس من حقها أن تطبطب على الدمامل وأن تعرّض طلبتها وكادرها وكل من فيها للخطر.

الممارسة الديمقراطية مهمة وتعدّ تدريباً حقيقياً للطالب، ناخباً كان أو مرشحاً، حتى يكون فاعلاً في حياة بلده السياسية في مراحل لاحقة، ولكنني أختم بالمثل الشعبي الانهزامي، والذي مع ذلك يلخص الحقيقة: “اللي بدو يعمل جمّال بده يعلّي باب داره”.

—————–

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية