كل شيء كان ممكناً

الثلاثاء 20 آب 2013

Omar Robert Hamilton headshotبقلم عمر روبرت هاملتون (عن موقع مدى مصر)

ترجمة: نادية أحمد

مرت ١٢ ساعة الآن وأنا أجلس وحيدًا، أُجاهد لمعرفة الخطوة التالية. لأول مرة منذ ركبت الطائرة التي حملتني لمصر في ٢٩ يناير ٢٠١١، أشعر بالضياع.

أمامنا أيام أسوأ من يومنا هذا.

تخيّلنا أن بإمكاننا تغيير العالم، ولكننا نعلم الآن أن المشاعر التي انتابتنا لم تكن مميزة أو مقتصرة علينا، وأن كل لحظة ثورية تتوافق مع نبضات مصير محتوم. كم تبدو الأمور مختلفة اليوم. لن أدفن قناعاتنا، ولكن ذلك الشعور – حماسة الشباب؟ السذاجة؟ المثالية؟ الحَمَق؟ – رحل الآن بلا رجعة.

أندب القتلى وأكره من قتلوهم. أندب القتلى وأكره من أرسلوهم ليلقوا حتفهم. أندب القتلى وأكره من يبررون قتلهم. كيف وصلت الأمور لهذا؟ كيف انتهى بنا المطاف هنا؟ ما هذا المكان الذي نحن فيه؟

اليوم الثاني عشر من فبراير ٢٠١١. سقط حسني مبارك. صباحاً إلى الولايات المتحدة لإنهاء بعض الأعمال العالقة قبل أن أنتقل إلى القاهرة بشكل دائم للمساعدة في بناء الدولة الجديدة. أجلس مع أمي في الشرفة، ندخن السجائر ونحتسي الشاي اتقاءً البرد. نتحدث عن كل ما رأيناه وفعلناه، وكل ما ننوي فعله، كل شيء في تلك الليلة كان ممكنًا. تراوح حديثنا وقتها ما بين عظمة الثورة العالمية، إلى إعادة التفكير العملي في من يمكن تعيينهم في الوزارات، إلى التفاصيل الدقيقة لما ستحتاجه مدرسة السينما الواجب إنشاؤها. استمر حديثنا طوال الليل واحتفظت بملاحظات منه.

ربما تكون هذه الذكرى أكثر ما يؤلمني الآن.

الدولة التى لم تسقط بعد، الدولة العميقة، الدولة العميلة، تهاجم، مرة في الشهر وكل شهر

مع عودتي من أمريكا، كان الجيش قد نجح في فض اعتصامين، وبدأ في محاكمة المدنيين عسكريًا بالجملة، كما اعتدى على المتظاهرات من النساء بإخضاعهن لكشوف العذرية. الثورة الآن أصغر، ولكنها جادة ومُركَزة وخاضعة لهجوم دائم. الدولة التى لم تسقط بعد، الدولة العميقة، الدولة العميلة، تهاجم، مرة في الشهر وكل شهر. تخلي ميدان التحرير في مارس، إبريل، أغسطس، وديسمبر. تهاجم المتظاهرين أمام السفارة الإسرائيلية، وتغلف شوارع وسط البلد في القاهرة بضباب الغاز المسيل للدموع المستورد من بنسلفانيا. تمطر حجارة وقنابل مولتوف من أعلى سطح مبنى مجلس الوزراء، بل وتلحم أبواب فخ الموت، استاد بورسعيد. وفي كل شهر، يموت العديد وهم يحاربونها.

كان هنالك أوقات كان بإمكاننا فيها كسر قبضة الجيش المحكمة حول الدولة. كان بمقدورنا البقاء في التحرير بعد إسقاط مبارك. وقتها كان التحرير في موقع القيادة ولم يكن خاضعًا لسطوة من باعوه من السياسيين بعد. ولكننا رحلنا. كلنا قال إنه سيعود في اليوم التالي، ولكن لسببٍ ما لم يعودوا، الجميع أرادوا الاستحمام ثم النوم في فراشهم. انتشرت في المدينة حملات التنظيف التي قام بها وطنيون جادون، وعند منتصف اليوم كانت القاهرة نظيفة ومرتبة، وفُقِد كل شيء.

صدحت الشوارع بهتافات تطالب بإسقاط حكم العسكر في نوفمبر ٢٠١١ ويناير ٢٠١٢، ولكن حينها اختار السياسيون لأنفسهم دور مترجمي لغة الشارع ليحوِّلوا الأحداث على الأرض إلى مكاسب سياسية. وهنا وجد الجيش أشخاصاً يحاورهم. لو أن كل القوى التي كان من المفترض أنها معادية للعسكر -من الثوريين، والليبراليين، والإخوان المسلمين والسلفيين- توحدت وقتها، أين كنّا سنكون اليوم؟ قتلى ربما. لكن ربما لا، ربما كنا لنكون أقرب لدولة مدنية.

لطالما كان التحالف الإيديولوجي الحقيقي مستحيلًا، ولكن ربما كان من الممكن لتوافق تكتيكي وعملي أن ينجح. لكن بدلًا من العمل سوياً، سعت كل مجموعة بمفردها لمقابلة قيادات الجيش وعقد الصفقات معهم، واضعين تلك القيادات العسكرية في الموقف الأقوى تكتيكيًا على الدوام. يقع اللوم على الجميع، فعجزة الليبراليين من ذوي المال الذين رسموا أنفسهم كحلفاء للثورة كانوا يعيشون في نعيم نسبي، ويتمتعون بعلاقات تاريخية بالجيش، ويشيطنون جماعة الإخوان بشكل دوري. الثوريون بازدرائهم للسياسة العليا نجحوا بإقصاء أنفسهم من المعادلة السياسية. السلفيون انحصر اهتمامهم بتأمين الصفقة التي تمنحهم قوة أكبر، وتضع بين أيديهم الوزارات الثمينة بالنسبة إليهم – الصحة والتعليم. أما الإخوان المفتونون دوماً بقدرتهم على حشد الناس في الشوارع، تميّزوا بغرورهم وازدواجيتهم من البداية، فقدموا وعودًا انتخابية جادة لليبراليين، واستمالوا الحكومة الأمريكية، ومنحوا قيادات الجيش الحصانة والإشراف الذاتي.

أثناء حكمه، رفض محمد مرسي إصلاح وزارة الداخلية، وبدلًا من ذلك، عيّن أحمد جمال الدين وزيرًا للداخلية، وهو من كان مدير أمن محافظة أسيوط الذي أوشك على إجهاض الثورة هناك في يناير ٢٠١١، ثم أصبح مدير الأمن العام في عهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أثناء أحداث شارع محمد محمود ومجزرة الألتراس ببورسعيد.

لطالما كانت العدو الأساسي للشعب هو الدولة الأمنية

لطالما كانت العدو الأساسي للشعب هو الدولة الأمنية من جيش وشرطة. ولن نتقدم إطلاقًا إن لم يتم تفكيك هذه الدولة الأمنية. كان هنالك لحظة كان فيها هذا ممكنًا، كان بالإمكان بناء دولة مدنية. ولكن حتى يتحقق ذلك كان يتعيّن على الإخوان ومرسي اختيار تحدي العمل مع قوى اليسار والليبراليين بخلافاتهم ومشاحناتهم على التعامل مع الجيش ذي التنظيم والحتمية.

* * * *

أكتب الآن من سراييفو، بعد أن زرت بالأمس متحف سربرنيتشا التذكاري. وبينما كان الرجال يقفزون من فوق “كوبري ٦ أكتوبر” بالقاهرة هربًا من طلقات الرصاص التي حاصرتهم من كل جانب، كان الجنرال “راتكو ملاديك” يحدق باتجاه الكاميرا، مخاطبًا التاريخ:

“ها نحن هنا في ١١ يوليو ١٩٩٥، في سربرنيتشا الصربية، وقبيل يومٍ صربي مقدس. نمنح هذه المدينة للأمة الصربية، في ذكري الانتفاضة ضد الترك. لقد حان وقت الثأر من المسلمين”.

أجوب الشوارع وحيدًا. كل مبنى مازال مُسطّراً بندوب الحرب. أتناول الشراب وحيدًا في حفل افتتاح مهرجان الأفلام الذي أحضره وأنا أفكر في كلمات امرأة في فيديو المتحف.

“لو كنت صرخت، لو كنت صحت فيهم ليتركوه. لو كنت أمسكت به. لو كنت فعلت أي شيء. لا أعلم. ربما كنت سأستطيع العيش مع نفسي.”

* * * *

التاريخ ٢٧ يونيو ٢٠١٣. نجلس في “إستوريل” على طاولة في الزاوية أسفل التلفزيون. عددنا ستة. وثلاثة بيننا يتوقعون بقناعة أن مسيرات ٣٠ يونيو ستُهاجَم بشدة، وأنها ستكون اللحظة المثالية لشبكات الحزب الوطني القديمة للإلقاء بمصر إلى الفوضى، حتى تجبر الجيش على تولى السلطة مرة أخرى. هنالك حديث عن قائمة اغتيالات. أنفق مئات الجنيهات على نظارات واقية أتمنى أن تحمي أعيننا من طلقات الخرطوش. لا أرغب في الانضمام لمسيرات ذلك اليوم، أتمنى أن يرحل مرسي ولكن كل الأصوات التي نسمعها تدعو للتظاهر من الفلول، والتعليمات المتداولة على الإنترنت تصر على ألا يهتف أحد ضد الجيش أو الشرطة. ولكن كل أصدقائي ذاهبون، فما هي خياراتي؟ أن أشاهدهم يتساقطون على شاشات التلفزيون؟

كانت قراءتنا للموقف خاطئة، فالدم الذي رغب به الجيش والنظام لم يكن دمنا، ليس هذه المرة. أذلك لأنه لم يعد لنا أهمية في هذا الوضع؟ أم لأن رد الفعل قد يكون أقوى من المطلوب؟

في الثالث من يوليو، تماماً كما حدث في ١١ فبراير ٢٠١١، نفّذ الجيش انقلاباً. في فبراير أسقط مبارك لامتصاص الضغط العام وإعادة الشعب لمواقعه، ونجح في ذلك. فماالذي حدث هذه المرة؟ هل أجبر الضغط الشعبي الجيش على التحرك، أم أن الجيش خلق الضغط الشعبي عبر حركة “تمرد” للوصول إلى مبتغاه؟

* * * *

هل يمكن للطرف الأعزل أن يفوز أبداً؟

أكد لي صديقٌ إيراني ذات مرة أن الإصلاح، وليس الثورة، هو ما نرغب به. أخبرني أن الثورات ينتصر فيها الأكثر عنفًا فقط.

كان أول ما قرأته اليوم عند استيقاظي ما كتبه “آدم شاتز”:

“لقد اعتقد ثوار مصر، خطأً، أن إيمانهم بالثورة يعني حقيقة وجودها.”

ولكن ماذا نملك إن لم نملك إيماننا؟ فهو أساس أفعالنا، وهوياتنا. وفي لحظة ما، أحدث إيماننا المشترك ببعضنا البعض تحولًا حقيقياً. أتت تلك اللحظة في وسط بحرٍ لا نهائي من الإحباط والجشع والخبث، لحظة أصبح فيها لإنسانيتنا قيمة، حيث وجودك ضمن مجموعة أفضل من بقائك وحدك مع كتاب. تلك اللحظة كان لها قيمة لن تُفقد أبدًا. لا يمكن أن التقليل من أهمية السنتين ونصف السنة التي مرّت بالنسبة للناس، كم شعرنا بالقوة وعدم الخوف! ولا يجب أن يخلط وجود الثورة بوجود قيادة وعملية سياسية. تموت الثورة عندما نقول أنها ماتت. تموت الثورة عندما نتوقف عن الموت في سبيلها.

تموت الثورة عندما نقول أنها ماتت. تموت الثورة عندما نتوقف عن الموت في سبيلها.

تقع شقّتي في باب اللوق بالقاهرة، وفي كل مرة أذهب للسوبر ماركت، أرى المدخل الذي احتميت به في ٢٢ نوفمبر ٢٠١١، أثناء المعركة الأولى بشارع محمد محمود. أشم رائحة غيمة الغاز المسيل للدموع التي تغطي الشارع، وأرى الأبواب الزجاجية المغلقة وانعكاسات ومضات إطلاق النار من البندقية تقترب أكثر فأكثر على الزجاج. أسمع صوت إعادة تعمير البندقية أعلى فأعلى. وأسمع بصفاءٍ تام صوت أفكاري.

“التفت. تلقى الضربة من الخلف. ربما ستنجو. قف باستقامة. قف. سيتذكرونك. لقد حان دورك الآن. غيرك منحوا ما هو أكثر. منحوا أعينهم. علاء في السجن. كلهم جابهوا الأمر بشجاعة. بشجاعة. استقم. سوف يتذكرونك”.

ليس بمقدروري الوقوف في وجه الموت اليوم. اليوم أنا جبان ليس بيده سوى الكتابة. أرى الثورة تُسحل بعيدًا لتُردى قتيلة فوق قبرٍ ضحل ولا أعلم ماذا أفعل. ولكني أعلم أنه قبل فوات الأوان، سنتمسك بها ونحارب من أجلها. ليس بإمكاننا غير ذلك، لنتمكن من العيش مع أنفسنا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية