فيلم «19 ب»: المكان كملعب للأسئلة الوجوديّة والسياسيّة

الأحد 13 آب 2023
مشهد من فيلم «19 ب».

لا يسعك وأنت تكتبُ عن فيلم كهذا الذي نكتبُ عنه إلّا وأن تشيدَ بشيءٍ مهمّ، سواء مسّك هذا العمل أم لم يمسّك، ألا وهو أنّه لا تزال هناك أصوات قادرة على صناعة أفلام تستحقّ المشاهدة عربيًّا، في وسط هذا الزخم الهائل من الأعمال المبتذلة، والتي لا تجعلُ مشاهدها حتى يستمتع. يأتي فيلم المخرج والكاتب أحمد عبد الله السيّد «19 ب» وكأنّه سفينة صغيرة وسط أباطرة يقودون بواخر عملاقة، لا يفعلون شيئًا سوى تَسفيه المشاهد وابتذال الواقع واختزال الحياة إلى كلاشيهات مملّة، دون أيّة قدرة حتى على تقديم المتعة؛ السّمة الأولى للسينما.

فيلم «19 ب» لا بدّ وأن يصيبك بمسّ من الحنين بعد أن تفرغ من مشاهدته؛ وكأنّه شهادة على قدرة السينما على ربطك بالسياق الاجتماعيّ والطبقيّ والسياسيّ، وأيضًا لقدرته على أن يدفعك للتفكير في المكان الذي تحيا فيه، والحيّز الشخصيّ الذي تملكه. سيتركك بلا شكّ في غابةٍ من الأسئلة حول معنى أن تكون معزولًا لكن قادر على خلْق معنى لهذه العزلة، وإمكانيّة هذه العزلة أصلًا، عن الصّراع الاجتماعيّ بينك وبين أندادك الطبقيين، ومَن هم أعلى منك. وستغدو أسئلة السّلطة والعزلة، وملّاك الشارع، والألفة مع الغير من البشر والكائنات والحيوانات والجمادات هي المسيطرة على تفكيرك.

لذا؛ فالفيلم رغم أنّه يدور في مكان واحد تقريبًا، وزمنه رتيبٌ، إلّا أنّه بوابة مشرعة على كلّ المعاني الذاتيّة لوجودك وعلاقاتك بالسّلطة والمكان والذاكرة، وكيف ننالُ معنى وجودنا من الحيّز الذي نسكنه بأجسادنا وأرواحنا، حتى ولو كنّا بمعزلٍ تقريبًا عن أيّة علاقات اجتماعيّة، واخترنا أن نُساكن الكلاب والقطط متّشحين بأكبر قدر من الصّمت ما وسعنا ذلك.

نظيفًا من صفات الاسم

يستوقفُ المرء أول ما يستوقفه في فيلم «19 ب» اسمه نفسه، وهو رقم «الفيلا» التي يحرسها ويسكنها البطل، دون أيّ اسم شعاريّ أو كبير، فهو ببساطة «19 ب»؛ اسمٌ يبدو خاليًا من كلّ شيء سوى المكان الذي تدورُ فيه الأحداث، كأنّه أيّ مكان آخر. وبصورة أعلى من اللاتسمية هذه، يأتي اسم البطل الأساسيّ (سيد رجب) بلا اسمٍ طوال الفيلم. تشير «19 ب» إلى رقم تلك الفيلا التي يحرسها البطل منذ ستينيات القرن الماضي، بلا أيّة إشارة إلى تحديد مكانيّ للفيلا، ولا لأيّ إشارة ذاتيّة لحارسها البطل، سوى أنّ هذا مكان ككلّ ما نراه، وهذه ذات كأيّ أحد نعرفه حارسًا لعقارٍ ما. 

يتخلّى فيلم «19 ب» عن لعبة التسمية هذه، ليدخل إلى مجريات الحياة مباشرةً، فنحن لا نتوقف عند الاسم ولن يضيف شيئًا إلى تعاطينا مع الحياة، يمكنك أن تكون أنت، أو هو، أو هي، بلا أيّ فارق. ما هو على المحكّ هنا هي الأسئلة الذاتيّة والسياسيّة والاجتماعيّة المطروحة بلا تحديد، أو تسمية تضبّب هذه الأسئلة. 

يمكننا أن نقول إنّ في الفيلم تطابقًا عجيبًا بينه وبين أغنية محمد عبد المطلب «في قلبي غرام» التي تملأ الحصّة الكبرى من مشاهد الفيلم كخلفيّة، والتي يفتتحُ بها الفيلم مشهده الأوّل والبطل يستيقظ من نومه متوجّهًا إلى الجلوس في شرفة الفيّلا العتيقة البالية. إنّ البطل حارس لعقار لا يعرف أين ذهب الأوصياء عليه بعدما هاجروا إلى الخارج، ولا يعرف كيف يمكنه أن يعيش خارج هذا الإطار المكانيّ والزمانيّ. في قلب البطل غرام، كما يقول عبد المطلب، «لأيام الهوى الحلوة»، دون تحديد، تتسع عينه بلا أفق سوى هذه الفيلّا بقططها وكلابها التي يرعاها بكلّ ما في جوارحه.

فيلم «19 ب» وإنْ كان يبدو دائرًا حول صراع في مساحة واحدة محدّدة وبين شخصيّتين اثنتين، إلّا أنّه يمكن فهمه كمساحة عامّة للأسئلة الوجوديّة المتعلّقة بنا كذوات، وبالدرجة نفسها كملعب لأسئلتنا السياسيّة الغائبة وأسئلتنا الطبقيّة والاجتماعيّة.

يسندُ البطل الفيلا بكتفيه، وكأنّها ذاكرته التي ستؤول إلى السّقوط لا العقار، يرمّم قدر الإمكان، يُصلح أسلاك الكهرباء التي تنقطع طوال الفيلم بلا سبب. إنّ البطل في انتظار جودو آخر: أن يأتي عمّال الحيّ ليصلحوا قواعد الفيلا حتى لا تسقط. لكن ما لا يعرفه (أو يعرفه بلا وعيٍ) هو أنّ الذاكرة لا يمكن إصلاحها؛ وأنّ الإصلاح الوحيد الممكن للسلطة هو أن تهدم. لذا؛ يبقى معذّبًا، لا يضحك ولا يبكي، نظيفًا من صفات الاسم، هو كلّ أحدٍ، ولا أحد على الإطلاق.

هل يمكن أن نقول إنّ البطل اللامسمّى هذا هو امتدادٌ عميقٌ لذواتنا المجرّحة منذ الجائحة التي أصابتنا جميعًا؟ أم هي تأويلٌ عميق للذّات المصريّة الحالية التي تحيا تحت سلطةٍ عنيفة من إلغاء الحيّز الخاصّ والمساحة الفرديّة وترك الفضاء العموميّ فريسة للفراغ؟ بالتأكيد، يمكن حمْل التأويل على إمكانات هائلةٍ، وهذه ميزة الفيلم الأولى برأيي، وهي سمة عامّة حقيقةً في أفلام أحمد عبد الله: أنّك تشعرُ وكأنّك المخاطب في الفيلم، تمسّك الأحداث وكأنّها حياتك مصوّرةً، دون أيّ ابتذال لهذا التطابق. إنّ البطل اللامسمّى، حارس العقار، هو أنت؛ فماذا يمكنك أن تفعل في صراعات على الذاكرة والمكان والسلطة وأنت لا تملك إلّا مطالبات هادئة بمساحة من الصمت وأغاني محمد عبد المطلب؟ وكيف ستكون فكرة النجاة فرديّة وأنت لا تملك حدًا أدنى من توفّر فكرة عموميّة عن العامّ والخاصّ؟ 

وهنا تبزغُ بذكاءٍ الشخصيّة الأخرى التي يدورُ حولها الصراع في الفيلم، ألا وهي شخصيّة «نصر» (الممثل أحمد خالد صالح) الذي يقوم بدور مسيّر الشارع (السائس)؛ أي هؤلاء الذين بلا مأوى وينالون كسبهم من تسيير حركة الشارع من مصفّ لسيارات المنطقة التي يستوطنها رفقةَ أشخاص آخرين مماثلين له. ويبدأ الصراع تحديدًا حين يقرّر «نصر» أن يستوطن مع البطل في هذه الفيلا الكبيرة التي يعيش فيها وحده، ومن هذا الصراع تحديدًا يتّضح لنا عالمُ البطل (سيد رجب) وعالم مسيّر الشارع (نصر) في صراع اجتماعيّ وطبقيّ وذوقيّ لا يمكن بحال أن يكون بين خير وشرّ، وإنّما بين عالمين شكّلهما فقرٌ واحدٌ، وما يميّزهما هو الشكل الاجتماعيّ والطبقيّ للفقر بين زمن رجل مسنّ (من الستينيات غالبًا) وشاب آتٍ من الأطراف، مهمّشًا، لم ير حياة إلّا القسوة السلطويّة والاجتماعيّة التي جعلته يبدو ظاهرًا قويًّا على هذا النّحو حتى يستطيع أن يأكل ويشرب فقط، بلا أيّة ملذّات معنويّة.

إنّ السؤال ليس صراعًا بين عالمين بقدر ما أنّه تساؤلٌ مفتوح يضعك الفيلم أمامه: هل يمكن أن «يتعايش» العالَمان معًا؟ هل يمكن أن نسمع «في قلبي غرام» لعبد المطلب و«الأوّلة في الغرام» لأمّ كلثوم مع «اصحالي يا برنس» لموسى سام و«لوجان» لفليكس دون أيّة غضاضة؟

ليسوا أخيارًا ولا أشرارًا

ينجو فيلم «19 ب» من فخّ لطالما وقعَت فيه أعمالٌ سينمائيّة، وغير سينمائيّة حتى، وهو فخّ الصراع الثنائيّ الدائر بين خير وشرّ. الخير ممثل هنا في صورة حارس العقار الذي يُهدَّد بسطوة القوّة والعمر والجسد من قبل نصر الذي يريد أن يشاركه السّكن في هذا العقار. وليس نصر هنا رمزًا لشرّ دخيل على حياة العجوز الحارس للفيلا، الخيّر المُحبّ للحيوانات. إنّه عاديٌّ جدًا مثله مثل البطل اللامسمّى، والفارق بينهما أنّ الحارس تحرّكه شجونُ الذاكرة والمكان، فيما نصر قادمٌ من قسوة حياة معذّبة في الشوارع. ربّما لا يختلفان طبقيًّا، لكنّهما يفترقان في زمنهما. ففي النهاية؛ سنجد حارس العقار -كما قال له نصر ذات مشهدٍ- يسكن بهوًا واسعًا حتى وهو يعيشُ على الكفاف، فيما هو -أي نصر- ابنُ الشارع، صنيعته، بكلّ ما يحويه. ليس نصر دخيلًا، ولا شرًا. إنّهم أبطالٌ عاديّون جدًا. والشرّ الذي يقعُ هو، بتعبير حنّة أرندت، شرٌ تافه. 

سادت فكرةٌ ليبراليّة عند معظم كتّاب السيناريو والمقالات والمخرجين في مصر عن «مصر النظيفة»، الباريسيّة، التي تلمعُ شوارعها، في مقابل أبناء المحافظات الأخرى وأبناء أطراف المدن بثقافاتهم الخشنة التي خدشت «نعومة» القاهرة الكوزموباليتانيّة. هناك بالفعل حنينٌ ارتكاسيّ ليبراليّ عند أغلبيّة الفئة الكاتبة في مصر عن الصورة المخياليّة لمصر الخالية من الإزعاج وأكوام الزبالة والعشوائيات. وهي أفكارٌ ساذجة ليس بسبب عدم واقعيّتها، وإنّما لأنّها تحاولُ أن تبرزَ في شكل ثقافيّ فوقيّ، متناسيةً تمامًا انحيازها الطبقيّ للمُهيمنين والمتعلّمين تعليمًا عاليًا في وجه أغلبيّة ساحقة من الفقراء وغير المتعلّمين كفايةً والمهمّشين في المركز-القاهرة، فضلًا عن خارجها في الأرياف والمحافظات. 

يضطلع الفيلم بدور مهمّ في تعرية الصراع اليوميّ في الحياة القاهريّة  بدرجة تمسّ الجميع، لأنّ صراع الحارس ونصر، وأسئلة المكان والذاكرة والسلطة، هي الأسئلة الحاكمة لما هو عموميّ ومتعلّق بنا في صراعتنا داخل حيّز المجال العام.

في الحقيقة، نأى فيلم «19 ب» بنفسه -وخيرًا فعلَ- عن براثن هذه الرؤية الثنائيّة التي هي في عمقها طبقيّة بالأساس. إنّ عالَم نصر مضرّج بفقر مغاير لفقر الحارس، فقر قاسٍ بلا رحمة، فقر نيوليبراليّ تمامًا قادر على أن يجعلك لا تجد مأوى إلّا في الشارع، بينما الحارس الفقير هو الآخر يجدُ بيتًا يأويه، فقط بفعل قدريّ بحت متعلّق بأنّه كان حارسًا لهذه العمارة، ولا يزالُ يتقاضى مرتبًا حيال حراسته لعقار لا نعرفُ أصحابه؛ لأنّهم بكلّ بساطة قد هاجروا إلى الخارج، ولم تعد تربطهم صلة بهذا العقار. 

إنّ قلب حارس العقار فيه غرام كما يقول عبد المطلب، لكنّ قلبَ نصر فيه رصاصٌ من التجهيل والقسوة الحياتيّة والشارع الذي لا يرحم. وبينما نجدُ البطل/حارس العقار يسمع «في قلبي غرام»، سنجدُ أن نصر بعدما اتّخذ من الفيلا غرفةً يُشغّل بأعلى مسجلات الصوت أغنية لمغني الراب موسى سام باسم «اصحالي يا برنس» يقول فيها: «الفقر ده رصاصة في قلب الغلبان». بين رصاصة الفقر، وغرامه، هناك فارقٌ بين عالمين، يطرحه الفيلمُ علينا بذكاءٍ شديد، دون أن يشعرنا بأيّ نشازٍ بين عالميْ الهدوء والصخب. ففي النهاية، لن يجد نصر إلّا في عالم المهرجانات والراب المعنى والصخب المماثل لعالمه/الشارع، مثلما البطل تمامًا الذي يريد أن يسمع في الليل السيّدة أم كلثوم وهي تغنّي: «سافر في يوم ما واعدني..». 

واللافت كذلك أنّ الرّحمة التي يجسّدها الفيلم في قلب حارس العقار تجاه الحيوانات وألفته مع هذه الكائنات حتى تشعرُ لوهلةٍ أنّه يجدُ لغته ومعناه وعالمه معهم أكثر مما يجدها مع بني البشر من حوله، أقول اللافت أنّ هذه الرحمة أظهرها الفيلم مباينة فعلًا لرحمة الأغنياء طبقيًا المحيطين بالفيلا، الذين يأتون كلّ يوم لحارس العقار بأكياس كنتاكي كمساهمة روحيّة (!) منهم لإطعام الكلاب. تبدو أفعال حارس العقار البسيطة من شراء لعُلب الحليب وإطعام القطط أكثر إنسانيّةً من البرود الليبراليّ للأغنياء حيال الكائنات. إنّ عَلاقة حارس الفيلا وجوديّة مع الكائنات الأخرى، فيما تبدو علاقة الأغنياء أيديولوجيّة، واستعراضيّة: حيث تتصوّر السيّدة التي تأتي بأكياس كنتاكي يوميًا مع القطط لتنشر الصورة على صفحتها على إنستغرام، وحارس العقار هنا في عزلته المطلقة، في قلبه غرامٌ من الوجدِ حامز، إذا عدّلنا بيت الشاعر الجاهليّ.*

يُجلي لنا الفيلم الصراع الدائر بين شخصين لا يسعنا إلّا أن نتضامن معهما، فالانحياز هنا ليس لعبة بسيطة، لأنّ هذه العوالم نفسها هي عوالم مركّبة للغاية، وذات أبعاد معقّدة في امتدادها الاجتماعيّ والسياسيّ والطبقيّ. وفي النهاية، فإنّ صراعات البطل ونصر هي صراعات أفراد على معنى الحياة والحيّز الخاص والفقر والمعيشة، وتغيبُ السلطة هنا ولا تحضر إلّا كشبحٍ لكليهما: نصر خائف من العودة إلى السجن، وحارس العقار خائف على ذاكرته/ الفيلا. 

ففي حين أنّ نصر (السائس) يناضل من أجل اليوميّ، ومن أجل أن يجد مكانًا بقوّة العضلات والسّلطة البدنيّة وأيضًا من حاشيته من أجل المبيت مشاركًا حارس الفيلا مساحته، فإنّ حارس الفيلا يناضل من أجل ذاكرته في هذه المساحة «19 ب» التي يخشى أن تنهدّ عليه. وفي انتظار البطل لأن تتدخّل السلطة، سلطة الحيّ هنا، لترميم قواعد الفيلا، فإنّ ما يحصل هو العكس تمامًا: بلاغات كيديّة ووعودٌ بالإصلاح دون أيّ شيءٍ يُذكر. يلعبُ المكان «19 ب» دورًا بحدّ ذاته وكأنّه في نضالٍ لئلّا يقع؛ إنّه آخر شاهدٍ على شيءٍ كان موجودًا هنا، ويمثّله الحارس بحسّه الرتيب والشاعريّ، ويظهرُ نصر وكأنّه تهديدٌ لهذه الرتابة، ولهذه الذاكرة، ولا يجدُ البطلُ في السلطة/ القانون شيئًا ليفعله رغم محاولاته هو وابنته لتواصل مع المحامي الوصيّ على العقار، والذي لا يفعل شيئًا سوى تقديم كلمات مواسية؛ في عراء تامّ من أيّة سلطة أو قانون، حيث يُترك الأفراد في خضمّ صراع مع ذوات أخرى لا يملكون أيّ شيء حيالها؛ وهي مأساة الحارس مع نصر طوال الفيلم.

أسئلة مفتوحة كجراحات الزمن

رغم الطابع الصراعيّ بين هذين العالميْن اللذين حاول الفيلم أن ينقلهما لنا، إلّا أنّ ما يجب أن نتوقّف عنده هو دلالة هذا الصراع نفسه، وما يعنيه سياسيًا واجتماعيًا وطبقيًّا. إنّ الفيلم ولرّغم طابعه الذاتيّ، بيد أنّه سياسيّ، وما أعنيه ليس أنه تعبير عن موقف، بقدر ما أنّه صنعة سياسيّة؛ أي النقاش على الحيّز العام والخاصّ وما يعنيه هذا وفقًا للشّرط الطبقيّ الذي نحياه كأفراد في هذا المجتمع. لا أريدُ اختزال تأويل الفيلم في تصور ليبراليّ مبسط عن إمكانيّة التعايش بين ضربين من الذاتيّة الموجودة بالفعل في مجتمعٍ معقّد كالمجتمع المصريّ، ولكن في الوقت نفسه هذه نقطة من المهمّ أن نلفت النّظر إليها؛ باعتبار أنّ السياسة في جوهرها هي هذا الصراع أساسًا.

يتصارع «نصر» على مساحة تؤويه، فيما الحارس يتصارع على هذا الاختراق لمساحته، النفسيّة والمكانيّة في المقام الأوّل. ينعكسُ هذا الصراع بصورة لافتة على الموسيقى المُختارة بعناية في المشاهد، والتي برأيي كان من مواطن قوّة هذا العمل بالأساس. وهذا ما نلمسه في أعمال أحمد عبد الله السيّد، فأعماله دائمًا على اطّلاع دائمٍ بما يستجدّ في الشارع -بعيدًا عن المعنى المبتذل لهذه الكلمة. الموسيقى في فيلم «19 ب» صراعٌ سياسيّ واجتماعيّ وذوقيّ أيضًا. الموسيقى طبقيّة جدًا في الفيلم: في حين أنّ «رقّ الحبيب» توفّر المعنى لحارس العقار، فإنّ كلمات عنيفة من راب الدريل «وأنا ذاك الشبل من ذاك الأسد…وأنت ذاك الفجل من ذاك الشبت» هي ما سيجدُ فيها نصر حياته القائمة على الصراع بالأساس.

هل يمكن أن يتلاقى العالَمان؟ لا يطرحُ علينا الفيلم إجابة، ولا حتّى يصوغ التساؤل على هذا النّحو المباشر الذي أطرحه. ما أحاول أن أحاجج به هو أنّني أسعى لاستشفاف الأسئلة الكامنة وراء هذا الصراع بين عالمين نحن نعيشهما بالفعل. ورغم أنّ نصر مَن يموت في النهاية على يد الحارس بفعل الصّدفة بسبب وقوع حجرٍ من الفيلا فوقه، إلّا أنّ سؤال إمكانيّة هذا النقاش وحتميّة القبول بالآخر المطلق عنّا في لعبة العيش لا بدّ وأن يكون مفتوحًا على الدّوام. لأنّه ببساطة هو السؤال السياسيّ الأساسيّ. إنّ البطل ونصر ضحايا فعليّون، وأمارة على غياب عموميّ لأسئلة الطبقة والسياسة الأساسيّة. 

إنّ «19 ب» هو وإنْ كان يبدو دائرًا حول صراع في مساحة واحدة محدّدة (الفيلا) وبين شخصيّتين اثنتين، إلّا أنّه يمكن فهمه كمساحة عامّة للأسئلة الوجوديّة المتعلّقة بنا كذوات، وبالدرجة نفسها كملعب لأسئلتنا السياسيّة الغائبة وأسئلتنا الطبقيّة والاجتماعيّة. يضطلع الفيلم، حقيقةً، بدور مهمّ في تعرية الصراع اليوميّ في الحياة القاهريّة، درجة تمسّك وتمسّ كلّ أحدٍ، وهذا إن كان لشيء، فهو لأنّ صراع الحارس ونصر، وأسئلة المكان والذاكرة والسلطة، هي الأسئلة الحاكمة لما هو عموميّ ومتعلّق بنا في صراعتنا داخل حيّز المجال العام بوصفنا كائنات اجتماعيّة.


* البيت المقصود هو للشاعر الشماخ بن ضرار الذبيانيّ الذي يقول فيه: فَلَمّا شَراها فاضَتِ العَينُ عَبرَةً / وَفي الصَدرِ حُزّازٌ مِنَ الوَجدِ حامِزُ. [الكاتب]

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية