«صحوة المحكومين»: تاريخ آخر لمصر الحديثة

الأحد 20 آب 2023
القاهرة من العام 1934، ملونة رقميًا.

في مكان ما يقول مالك بن نبيّ «إذا غابت الفكرةُ بزغ الصّنم»، وربما كان الكاتب الجزائري الراحل يقصد بالفكرة «الوعي». عندما فرغت قبل عامٍ من قراءة كتاب محمود حسين (Les révoltés du Nil)،[1] والذي صدر مترجمًا للعربية قبل أيام في القاهرة بعنوان: «صحوة المحكومين في مصر الحديثة: من الرعايا إلى المواطنين»،[2] طافت بذهني مقولة بن نبيّ، وأدركت لها معنًا أكثر عمقًا. وربما ترك في داخلي هذا الكتاب أثرًا لا يقل عن كتاب محود حسين الأول «الصراع الطبقي في مصر»، الذي قرأته يافعًا قبل سنوات، مدفوعًا بتجربة سياسية إيديولوجية. وهو الكتاب نفسه الذي ترك أثرًا عميقًا في جيل السبعينيات، وأصبح من خلاله محمود حسين[3] الاسم القلمي للكاتبين المصريين بهجت النادي وعادل رفعت– يمثل نوعًا من الأسطورة التي تستمد سحرها من الغياب. لكن عندما يدرك المرء الصفحة الأخيرة من كتابهما الجديد، يدرك بالقدر نفسه خيطًا ناظمًا دقيقًا يمتد على خمسة عقود، جامعًا بين الكتاب الأول والأخير، وهو الإيمان القوي بقدرة الناس أو الشعب أو الجماهير، كما يصرون على تسميتهم، على صنع تاريخهم بأنفسهم.

رغم ما يبدو عليه مفهوم إرادة الناس في صنع تاريخهم بأيديهم من بداهة، إلا أن ذلك بقي في المتداول الماركسي رهينًا للشرط الاقتصادي، كما يشير إليه ماركس في «الثامن عشر من برومير – لويس بونابرت»، من أن الناس وإن كانوا حقًا يصنعون تاريخهم بيدهم؛ إلا إنهم لا يصنعونه على هواهم. ولا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم بل في ظروف يواجهون بها وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي، في إشارة واضحة للموقع الطبقي لهؤلاء الناس.

تقوم نظرية محمود حسين في تحليل تاريخ الوعي الشعبي على تجاوز يبدو لي مهمًا- للمادية التاريخية، من خلال البحث خارج صندوق الشرط الاقتصادي، والنفاذ إلى ذهن هؤلاء الناس، المحكومين، ليس بظروف طبقية فقط تكبلهم، بل لديهم قابلية نفسية لهذه السيطرة، تجد قوتها الأساسية في وعيهم المُشكل من تراكمات وجدانية تجد جذورها في طبيعة التنظيم الاجتماعي ما قبل الحداثي، وفي تمثل الدين. فهذا الكتاب كما يشير محمود حسين، حفريات حول الدروب التاريخية المتشعبة التي «قطعها المحكومون طوال القرنين التاسع عشر والعشرين في مصر، أي مسار صحوتهم الذاتية، باعتبارها انسلاخًا تدريجيًا من الهيمنة التي مارسها الحكّام، ليس على أبدانهم وقوة عملهم فحسب، بل -وذلك هو الأهم– على ضمائرهم وعقولهم» فهو إذن محاولة لفهم هذا التاريخ من وجهة النظر الخاصة للمحكومين، من خلال إلقاء الضوء على بزوغ ملامحهم الذاتية، الفردية والجماعية ودراسة نمو استقلاليتهم الذهنية والوجدانية، الذي يتماهى مع تأكّد دورهم كفاعلين اجتماعيين جدد على الساحة السياسية، وصولًا إلى «لحظة ميدان التحرير» الفارقة.

أصول الخضوع وفصوله

في خطابه الأخير، يوم 10 شباط 2011، ظهر الرئيس المصري حسني مبارك شاحب الوجه، محاولًا للمرة الأخيرة مناشدة الجماهير بالعودة إلى بيوتها. كان ذلك الخطاب هو التجلي الأخير للحاكم المصري، الذي يجمع بين القيادة والأبوة. وكانت اللازمة التي يكررها مبارك بين فقرة وأخرى هي «الأبناء شباب مصر وشاباتها»، ثم يزيد في قدر الحميمية قائلًا: «أتوجه إليكم جميعًا بحديث من القلب، حديث الأب لأبنائه وبناته». تأثر قطاع واسع من ميدان التحرير بهذا الخطاب. حتى بين الثوار، فقد ظل مفهوم الشرعية الوطنية المقدس، رغم وهنه، موجودًا بدرجة ما. لكن هذه الشرعية المقرونة دائمًا بالقداسة تعود جذورها إلى زمن أكثر عقمًا من تاريخ مصر المعاصر. يجادل محمود حسين في كتابه، بأن هذه القداسة التي تجد لها تمثل الخضوع في وجدان المصريين، عاشت تحولات، ضمن سجال تاريخي بينها وبين نزوع المصريين أنفسهم للتحرر منها، الذي انطلق منذ عام 1798، بسبب الصدمة الاستعمارية، تاريخ الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت.

في نهاية القرن الثامن عشر، كانت مصر إقليمًا تابعًا للإمبراطورية العثمانية، وكان المجتمع المصري متجمدًا لقرون طويلة في دولة حيث السكان منقسمون داخل كيانات صغيرة، يعيشون بشكلٍ نسبي على مواردهم الذاتية، عاجزين عن التفكير في العالم، وخاضعين لشكلٍ من أشكال العبودية الجماعية تجاه الدولة التي يمثلها السلطان. لكن هذه الدولة كانت تتمتع بالشرعية الرضائية من قبل أولئك الذين كانوا ضحاياها كشيء بديهي. كان التشكيل التقليدي للمجتمع خاضعًا بالأساس إلى نظرة شمولية ولاهوتية للعالم، تهيمن فيها الارادة الإلهية بشكل مباشر على كافة الشؤون الدنيوية، فلا يقدر البشر على إحداث أي تغيير في «نظام الأشياء». في هذا الفضاء التقليدي، كان المصريون يثورون، لا لإحداث تغيير في «نظام الأشياء»، بل لإعادته الى نصابه كلّما هدّد بالاهتزاز. فالخروج على الحاكم لم يكن هدفه إسقاط نظام الخضوع القائم، بل إعادته إلى الجادة، والتي هي الأحكام الشرعية.

في هذه اللحظة التاريخية «لم يكن المحكومين المصريون يتمتعون بأي ذاتية أو فردية مستقلة.  ففي الحيّز الروحي، يعتقدون أنهم مسيّرون تمامًا، فيدينون بطاعة مطلقة للإرادة الإلهية، من خلال تسليمهم بسلطة السلطان، الذي يحكم بأمر الله، والاسترشاد بعلماء الأزهر، الذين ينطقون بكلام الله. أما في الحيّز الدنيوي، فلا يشعرون بوجودهم إلا من خلال انتمائهم العضوي لجماعتهم التقليدية، فيدينون بالولاء الكامل للشيخ الذي يتكلم باسمها، داخل القبيلة أو الطائفة أو الحرفة».

عندما أطل الغريب برأسه من وراء البحر، أفاقت الرعية من سبات القرون. جاء نابليون محاربًا، لكنه لعب دورًا جذريًا في إقامة شرخ على مستوى العلاقة بين المحكومين والحكام. فقد وضع الاحتلال الأجنبي نظام الطاعة الراسخ أمام تناقضاته التي يفسرها محمود حسين بالقول: «لم تعد قوة السلاح ملكًا لرجال الله، بل انتقلت لرجال لا إله لهم. وعليه فكيف تكون الطاعة لمن يتجاهل كلام الله، وفي ذات المقام، كيف يمكن عصيان من يمتلك قوة السلاح؟» تسببت تلك المعضلة، التي دامت على مدى سنوات الاحتلال الثلاث، في شرخ بين الأهالي وكبار العلماء. تمسّك الأهالي بأحد أطراف المعضلة: لا طاعة لمن يتجاهل ألله. بينما ذهب كبار العلماء إلى التمسك بالطرف الآخر: لا عصيان لمن يمتلك قوة السلاح. (ممّا يفسّر تعاونهم الملتبس مع الإدارة الفرنسية). وقد بدا هذا الانفصام خلال ثورة القاهرة الأولى. فطالب كبار العلماء المتمردين بإيقاف القتال، محتجّين بالتفوق العسكري الكاسح للفرنسيين. بدليل ما فعلوه بالمماليك! فكان رد المتمرّدين أن الاحتلال الفرنسي تحدّ للنظام الإلهي، وإن كان الله قد سمح به، فهو، حتمًا، ينتظر من المؤمنين أن يجاهدوا ليستعيدوا نظامه. بذلك يصبح كل اجتهاد في هذا السبيل مستحب من قِبَلِه، مستجاب حتمًا عنده». شكّل ظهور «الآخر» تدميرًا لـ«نظام الأشياء». حيث لم يعد هناك استمرارية بين إرادة الله وحقيقة الحياة. ستبدأ هذه الوضعية غير المسبوقة في تغيير خطوط التمايز بين المحكومين، الذين يميلون إلى الثورة، والحكام، الذين يبحثون عن الحلول التوافقية. فيما شرع العلماء الذين يشكلون النخبة الفكرية في تلك الفترة في طرح أسئلة من خارج المألوف.

لاحقًا استفاد محمد علي باشا، الذي كان ضابطًا في الجيش العثماني المرسل ضد بونابارت، من هذا التحول في الظفر بالسلطة، حيث كان واعيًا بأن الطبقة القديمة الحاكمة قد أصبحت لا تملك أي علاقات ولاء راسخة مع الأهالي، وأن الشروط التاريخية للحكم قد تبدلت على نحو لا يمكن أن تتواصل معه التنظيمات التقليدية للسلطة، لذلك توجه نحو مشروع التحديث، الذي استهدف الجهاز البيروقراطي للدولة، وتاليًا انعكس على طبيعة التشكيلات الاجتماعية المحكومة. حيث بدأت تظهر فئة اجتماعية مصرية تنفصل عن التشكيلات الجماعية لتشكل نواة للنخبة الحداثية. وهي «فئة تكونت من أفراد حصلوا على تعليم مزدوج، ديني وحديث معًا، أنيطت بهم مسئوليات مدنية (موظفو دولة، عسكريون ومدنيون)، أو وظائف حرّة (معلّمون، أساتذة، مهندسون، أطباء، محامون، محاسبون). لقد شكّل الانتماء إلى المؤسسة الحكومية، فيما قبل، عتبة استحال اجتيازها على الرعايا المصريين. تخطّى محمد عليّ هذه العتبة خلال إعادة تشكيله للقطاع العام، فأدمج فيه تدريجيًا عناصر مصرية، وأعطاها وظائف رسمية، مما غيّر من وضع أفرادها الاجتماعي والأدبي تغييرًا جذريًا». هنا بدأت ملامح الكيان المصري تظهر بوصفه حيزًا لهوية جماعية واعية، بعد أن شرع المحكومون في اكتساب استقلاليتهم الذاتية والفردية.

يفرد الكاتب فصلًا كاملًا لما يسميه «الوجدان المصري»، الذي تشكل لدى هذه الفئة الصاعدة، والتي كانت ممزقة بين ولائها لصناعها الحاكم المطلق، وبين استقلالها الفردي وشعورها بانتمائها لكيان واحد تهدده القوى الأجنبية. حيث كانت مصر الخديوية تتأرجح بين نزوات الحاكم والتبعية للقوى الأوروبية. ظهر الإحساس بالمصرية كحقيقة وجدانية، وكحضور اجتماعي في طور التكوين، كواقع يحاول أن يعبّر عن نفسه في الأدب والفكر والصحافة. ولكنه أخذ يحتوي على صور من السخط والأمل، من شأنها أن تتطور لتشكل إرادة سياسية، ستتطور لاحقًا لتشكل الحركة الوطنية المصرية. يقدم هذا الوضع الجديد شروطًا تاريخية لم يسبق لها مثيل في العلاقة بين المحكومين والحكام. تحت ضغط الأحداث، سيبدأ الشعور التقليدي لهؤلاء الأفراد بالتبعية للحكام بالتحول تدريجيًا إلى تصادم مع التطلع الجديد إلى الاستقلال، حتى إنه سيؤدي إلى التحدي السياسي.

تواصل عملية اهتراء علاقات الخضوع بين حكام مصر المطلقين والمحكومين حتى عام 1952. جاء جمال عبد الناصر ورفاقه العسكريين لإيقاف هذا العملية التحررية. لعب القدر لعبته الماكرة. وفرت شروط تاريخية استثنائية لعبد الناصر كي يصعد إلى قمة المشهد العالمي. الرجل الذي كان يقف جنبًا إلى جنب مع رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو والرئيس اليوغوسلافي تيتو، أخرج مصر من حيز التبعية، ونجح في تأميم قناة السويس، بكل ما تعنيه من رمزية لهؤلاء المحكومين. شكل ذلك هالةً عظيمة رفعته إلى نوع من القداسة، فقد كان بين شخصيتين مقدستين، واحدة حميمية تضعه في مقام الأب والأخرى في مقام القائد. نجح ناصر في إحلال القدسية الوطنية والقومية محل القدسية الدينية، وقد حافظ على تلك المكانة حتى حرب 1969، عندما خدشت الصورة، واضطر الشعب لإعادة تشكيل نفسه كي يعيد عبد الناصر إلى السلطة. كانت مفارقةً رهيبةً، شعرت فيها الجماهير بأن لها دورًا في صنع تاريخها، حتى وإن كان هذا التاريخ هو إعادة «إحياء الأب» الذي نزع عنها هذا الدور.

لم يتغير النظام، لكن الناس تغيروا

عندما رحل عبد الناصر عن دنيا الناس مطلع السبعينيات، كان المحكومون المصريون قد ذهبوا بعيدًا في طريق العصيان والتخلص من روح الخضوع. لكنهم كانوا في الوقت نفسه يحبون عبد الناصر، لا كرئيس، بل كأب. في مقطع تحت عنوان وداع الأب يقول الكاتب:

«جعل الشعب المصري من جنازته حدثًا فريدًا. نزل الملايين من الرجال والنساء، على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم، هؤلاء الذين نزلوا قبل ذلك في التاسع من حزيران 1966، مستدعين تلقائيًا الرباط الحسّي الضام لأواصر مصر كلها. هرعوا للمرة الاخيرة، مبعثرين الجنازة، وقد خطفوا النعش من الرسميين، ممررينه من يد لأخرى، فوق الرؤوس في مسار مجنون، عبّر عن إرادة جماعية استحوذت على النعش جسديًا، لتتماهى مع جثمان الأب الفقيد، بعد أن أخذوه لأبعد ما يمكن، ليتشاركوا وداعه لأطول فترة ممكنة، كما لو كانوا يريدون تسليمه بأنفسهم إلى الآخرة».

لاحقًا حاول أنور السادات جاهدًا أن يواصل لعب دور الأب، ورئيس العائلة، لكنه كان عاجزًا من حيث القدرات الشخصية والشروط التاريخية على بناء علاقات ولاء مع الشعب على هذا الأساس، لذلك كانت حركة التمرد والرفض ضد حكمه أكثر اتساعًا وعمقًا، و«مع اكتساب المجتمع لدينامية ذاتية، واتّساع الفجوة بين أقلية المنتفعين من سياسة الانفتاح وغالبية المحبطين، بدأ المصريون يشعرون بانحسار الحماية التي منحتها الدولة لهم في عهد عبد الناصر. وبعد أن أعلن الحكم صراحة موالاته للولايات المتحدة الأمريكية، وتحالفه مع إسرائيل، أشاح المحكومون وجوههم عن خطاب السادات، وأخذت شرعيته تنخفض وتهبط، كزعيم وكأب».

مثّل حكم حسني مبارك بدايةً من 1981 أزمة الشرعية المقدسة للحكام المصريين. أصبح الحاكم يواجه الاستقلالية المتنامية للكيان الاجتماعي، فقد شكل صعود رأسمالية المحاسيب وضمور شعبية المؤسسة العسكرية وتراجع قوة مصر القومية والإقليمية، عوامل لفقدان موقع الرئيس قداسته الدنيوية، حيث لم يعد يمثل الرجل الذي يضع الأمة في قلب المشهد العالمي، ولا الأب الذي يوفر ما تحتاجه هذه الأمة، في ظل تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي. في المقابل بدأ الكيان الاجتماعي المحكوم يكسر عرى الطاعة عروةً عروة، من خلال صعود قوى المعارضة السياسية والمدنية وتبلور حراك سياسي وحقوقي استفاد خلال العشرية الأولى من القرن من مناخ حرية نسبي فرضته التناقضات داخل النظام الحاكم نفسه. وكذلك بروز جيل جديد من الفاعلين السياسيين من خارج التشكيل القديم الخاضع للنظرة الأبوية للسلطة، وهو الجيل الذي سيكون في طليع ثورة يناير.

في ميدان التحرير استعادت الجماهير المبادرة للمرة الأولى، لا لتعيد الحاكم إلى موقعه كما فعلت في 1967، بل لتعزله عنه نهائيًا، وتجرده أخيرًا من سموه، ومن تلك الهالة المقدسة التي ورثها عبر عقود من الخضوع. ما لبث النظام أن أعاد تشكيل نفسه سريعًا، على نحو أكثر مركزيةً وشراسةً. فشلت جموع الناس في تغيير طبيعة هذا النظام، ولكنهم نجحوا قطعًا في تغيير أنفسهم.

من «الصراع الطبقي» إلى «صحوة المحكومين»

يبدو لي أن الدرب الطويلة التي قطعها المحكومون المصريون للتخلص من قدسية الحاكم وبناء ذواتهم الفردية المستقلة، لا تقل مغامرةً عن الدرب التي سلكها محمود حسين من «الصراع الطبقي» وصولًا إلى «صحوة المحكومين». لكن بذرة المراهنة على الناس بدلًا من انتظار التغيير الفوقي كانت حاضرةً دائمًا في هذا المسار الفكري والنضالي. في الصراع الطبقي أكد الكاتب قبل خمسة عقود على أن التاريخ تصنعه الجماهير. وهي قناعة كانت مدفوعة الى حد ما بالماركسية، وإلى حد أكبر بالماوية. لأن هذه الأيديولوجيات وفرت لعادل رفعت وبهجت النادي في تلك المرحلة الأدوات اللازمة لإظهار كيف تصنع الجماهير التاريخ، ولماذا تنجح الجماهير أحيانًا وتفشل أحيانًا أخرى في تقدمها. فقد مكنهما ذلك من التفرقة بين استخدام القيادة للمدّ الجماهيري للوصول إلى السلطة والسيطرة على الجماهير، أو أن تظل في حالة وفاء إلى تلك الجماهير، لقيادتها وفي نفس الوقت لا تنفصل عنها، وهذا هو في الحقيقة المسار النظري للثورة الثقافية الماوية.

يفتح هذا الكتاب كوةً في جدار الإدراك النفسي والروحي لثورة يناير 2011، التي وإن فشلت سياسيًا، إلا أنها نجحت في أن تكون ذروة الهبات الشعبية للمحكومين المصريين، في كونها التجلي الأخير لصورة «القائد الأب».

لكن ظل هناك أمران لم يكونا واضحين في كتاب الصراع الطبقي. الأول هو البعد الديني، أو بالأحرى اللاهوتي، وهو بشكل مختلف يصبغ العلاقة بين المحكومين والحكام. والثاني، هو البعد الوطني الذي كان موجودا بشكل سطحي، لأن الاهتمام في الصراع الطبقي كان محصورًا في تحليل غياب الوحدة بين الطبقات، أما الجانب الوطني، بكل تعقيداته، فقد كان شكلًا من أشكال الشرعية المقدسة، والذي تحول من الدين تدريجيًا الى الوطنية. هذا الأمر لم يكن بذلك العمق في الكتاب الأول، حيث كان هناك إحساس ضمني بوجود مصالح متميزة، وأن هذه المصالح سوف يصبح لها ترجمة مباشرة في الوعي الذاتي للطبقات الدنيا، وهذا لم يكن صائبًا على الإطلاق نتيجة لوجود تلك الظروف الدينية والوطنية.

كما لم يكن هناك وعي بأن وجود الجماعات التقليدية في المجتمع، المتماسكة إلى حد كبير والمنعزلة عن بعضها، وقبل ظهور دور الفرد المستقل، القادر على التفكير الذاتي، كان حائلًا أمام حدوث طفرة الوعي لدى المحكومين، وأن ضمور هذه الجماعات وبروز الفرد سيغير على نحو جذري من جدلية التاريخ نفسها، لأن حركة الجماهير كانت في بدايتها مجردة تمامًا، بل ومجازية، حيث لم تكن تحمل الأساس الروحاني أو النفسي، وكل تلك الأبعاد التي اعتبرتها الماركسية جزءًا من البناء الفوقي، لأن كل ذلك يأتي بعد العلاقات الاقتصادية.

أخيرًا، يفتح هذا الكتاب كوةً في جدار الإدراك النفسي والروحي لثورة يناير 2011، التي وإن فشلت سياسيًا، إلا أنها نجحت في أن تكون ذروة الهبات الشعبية للمحكومين المصريين، في كونها التجلي الأخير لصورة «القائد الأب».

  • الهوامش

    [1] Les révoltés du Nil: Une autre histoire de l’Egypte moderne. Grasset -Paris 2018.

    [2] صحوة المحكومين في مصر الحديثة : من الرعايا إلى المواطنين. دار الشروق، القاهرة 2023.

    [3] بدايةً من عام 1955 ربطت بين بهجت النادي وعادل رفعت صداقة من خلال التزامهما السياسي في تنظيم وحدة الشيوعيين، ثم خمس سنوات في المعتقل من عام 1960 إلى 1965. لاحقًا غادرا نحو باريس وانخرطا في الكفاح الفلسطيني من خلال إصدار مجلات ودوريات بالعربية والفرنسية مناصرة للثورة الفلسطينية والتواصل مع الفدائيين في الأردن ولبنان. منذ نهاية السبعينات أصبحا مستشارين لدى مدير عام منظمة اليونسكو، أحمد مختار امبو، بوصفه أول مدير للمنظمة من العالم الثالث. في عام 1969 صدر لهما كتاب الصراع الطبقي في مصر عن دار ماسبيرو الباريسية، ثم كتاب «السفح الجنوبي للحرية: مقالة حول ظهور الفرد في العالم الثالث». ونشرا كتبًا عن الإسلام بالفرنسية منها «السيرة: نبي الإسلام في رواية أصحابه». ثم كتاب «التفكير في القرآن» عام 2009 وكتاب «ما لا يقوله القرآن» عام 2013، و«البعد الزمني في القرآن» في 2023.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية