«باسم الشعب، عاش الشعب، وعاش اللي درويش»
لازمةُ أغنية دفعت الأمنَ المغربي لاعتقال أصحابها، بعد أيام من نشرها على الإنترنت أواخر عام 2019.
يقدم مؤدو أغنية «عاش الشعب» الثلاثة، وهم لزعر والكناوي وولد لكريّة، من خلال العنوان واللازمة، شعارًا ثوريًا بسيطًا يحل مكان شعار وطني آخر هو «عاش الملك».
وفي المقطع الأول من الأغنية، يبرر «لزعر» تغيير الشعار بنهب السياسيين لثروات البلاد، وبسوء الأوضاع الاقتصادية التي قتلت الشباب المغربي الذي يموت خلال محاولته الهجرة بشكل غير شرعي إلى أوروبا عن طريق البحر. «أنا الأم اللي ماتوا أولادها، في البحور ياما بكيت».
وينتقل «الكناوي» في المقطع الثاني إلى التشكيك باستحقاق الوطن لحب المواطن المغربي، «كيفاش نحب هاد الوطن، اللي هاز علي الكتاف؟». أما في المقطع الثالث، فيطرح ولد لكرية على النظام المغربي خيارين لا ثالث لهما: «أعطونا حقنا في هاد البلاد، وإلا جمعونا واعدمونا»، ويُطالب الملك المغربي بالرحيل عن كرسي الحكم، مُستخدمًا تعديلًا بسيطًا على خاتمة النشيد الوطني المغربي، ليقول: «الله، الوطن، الثالث يمشي».
تحاكي الأغنية إلى حد كبير أحد أساليب غناء الراب التي ظهرت خلال ثمانينات القرن الماضي في الساحل الشرقي لمدينة نيويورك، الذي يوصف عادةً بالهاردكور راب (Hardchore Rap)؛ لما فيه من حدة في التعبير عن الغضب والعدائية تجاه الخصم. ورغم اعتقاد الكثيرين أن الهاردكور راب يشبه إلى حد كبير راب العصابات (Gangsta Rap)، وأنه موضة قديمة لم تعد تحظى باهتمام لدى مستهلكي الراب، إلا أن كثيرين من مغني الراب حول العالم ما زالوا يخصّصون من فترة لأخرى أغنية هاردكور لأحد خصومهم، تظهر وكأنها استراحة عمل.
وعادة ما تكون هذه الأغاني أغاني سريعة وسهلة التحضير، لا تؤخذ على محمل الجد ضمن السيرة الإبداعية لمغني الراب، ولا توضع غالبًا ضمن أي ألبوم، ما يجعل أغلب المستمعين يتعاملون معها على أنها «رسالة» أو بداية حرب (Klash) بين مغنييْ راب أو أكثر، كما أنها ليست عملًا فنيًا متكاملًا تجاريًا، ولذا يسمى هذا الشكل من الراب أحيانًا بالـ(UnderGround).
وقد حمل هاردكور نيويورك منذ بدايته راية التجديد، ولذا خرج عن المحتوى التقليدي للراب، وتخلّص من المواضيع التي ارتبطت بالراب مثل العصابات والمخدرات والأسلحة، وتناول مواضيع اجتماعية أكثر شمولًا. أمّا الهاردكور العربي، فكانت علاقته بالراب مختلفة، فصحيح أنه تناول مواضيع سياسية محلية، ولذا تصح تسميته بالراب السياسي والثوري، إلّا أنه يجب أن نتذكر أن السياسة كانت حاضرة في الراب العربي دومًا، ومنذ البدايات. كانت أحداث 5 تشرين الأول\أكتوبر سنة 1988 في الجزائر دافعًا أساسيًا وراء ظهور أول فرقة هيب هوب عربية باسم (Intik)، وكانت أغاني هذه الفرقة موجهة في الغالب ضد النظام والجيش الجزائريين. ولنفس السبب ظهرت فرقٌ جزائريةٌ أخرى، كانت أشهرها فرقة (MBS) وهي اختصار للعبارة الفرنسية (le micro brise le silence) والتي تعني المايكرفون يكسر الصمت، حيثُ احتوت ألبومات هاتين الفرقتين في أواخر التسعينات على أول أغاني الهاردكور العربي.
كما كانت الظروف اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي موضوعًا رئيسيا لأغاني فرقة (MWR) التي أسسها ثلاثة شبان من مدينة عكا عام 1998. وكان الاعتداء الذي قام به مستوطنون صهاينة على مسجد في مدينة يافا سنة 2001، السبب الرئيسي لإصدار فرقة (DAM) أغنية الهاردكور الشهيرة «مين إرهابي؟».
الهاردكور العربي والاصطدام بالسلطة
وفي الوقت الذي كان فيه الراب الجزائري يستورد أنواع الهيب هوب الناطقة باللغة الفرنسية، كانت فرقة (Double Kanon) التي أسسها شابان جزائريان «لطفي ووهاب» سنة 1994، تصدّر الراب العربي السياسي، بما فيه الهاردكور، إلى جيرانها، طارحةً مواضيع سياسية تتعلق بالديكتاتورية العربية وبالقضية الفلسطينية، الأمر الذي جعل النظام التونسي يحظر بيع ألبوماتها وإقامة حفلاتها في تونس، بل ويتحفظ على فن «الراب» عامةً، إلى أن جاءت الثورة التونسية ليصيح عددٌ من المتظاهرين: «رئيس البلاد» تضامنًا مع «الجنرال»، وهو مغني راب تونسي كانت السلطات قد اعتقلته على إثر أغنيته «رئيس البلاد» التي أصدرها أواخر عام 2010.
أما أولى لحظات الاصطدام الحقيقية بين الراب التونسي والنظام السياسي، فربما كانت سنة 2008، عندما أقدم الرابر التونسي «فريد» على خطوة غير مسبوقة وأصدر أغنيته «ورقة وستيلو». وقد شكّلت ملامح أغنية سياسية تحريضية مباشرة ستُعتبر فيما بعد مرجعًا هامًا للراب السياسي والهاردكور العربي.
في مقدمة أغنيته، يعترف «فريد» بخطورة فكرة الهجوم على النظام، لكنه يؤكد على ضرورة هذه الخطوة. فيبدأ مشواره التحريضي ضد جميع أركان الدولة، ابتداءً بالسجون والإعلام ورجال الشرطة ووصولًا إلى «المعلم» في إشارة إلى الرئيس التونسي زين العابدين بن علي.
وقد بقيت صِيَغ التحريض الذي تبناه «فريد» ضد النظام مستمرة لدى مغني الراب في البلدان العربية التي تعيش شعوبها حالة عداء صريح مع أنظمتها، حيثُ نجد فريد يقول للتونسيين: «حل هاك الفم، تكلم حرية، لسانك مطلوق»، و«عيش راجل، قلبك صحيح، ما تخلي الكرامة تطيح»، ونجد «الراس والطفار» في أغنيتهما «نحن والزبل جيران» الصادرة عام 2015 يحرّضان اللبنانيين: «خنقوك، جوعوك، غربوك، قوم، تفهوك، ضربوك، حبسوك، قوم». وهي نفس العبارات التحريضية التي سمعناها في 2008 عندما قرر رابر ليبي مجهول باسم مستعار هو «ابن ثابت» الهجوم على الرئيس الليبي «القذافي» في أغنية هاردكور راب بعنوان: Moammar– The Coward».
أمّا حالة التقارب في أغاني الهاردكور العربي، فباعتقادي لا تتطلّب جهدًا نقديًا لتفسيرها، بسبب الإطار الثوري العام الذي دفع مغني الراب لاختيار الهاردكور لصناعة أغنية سياسية، فالفكرة الرئيسية عند الأغلبية تتمحور حول العلاقة بين حاكم ديكتاتور سارق لحقوق الشعب، وشعب غزير بتنوعه تجمعه محاولات الثورة على هذا الحاكم خلال امتداد زمني متواصل إلى اللحظة. لذلك نجد التعبير الذي استخدمه «لزعر» في أغنية «عاش الشعب» عن المواطن المغربي: «أنا اللي جبت الاستقلال وعمري بيه ما حسيت»، يقترب كثيرًا من التعبير الذي استخدمه مغني الراب التونسي «كلاي بي بي جي» في أغنيته «ريتوش؟» لوصف حال التونسيين بعد ثورة 2011: «إحنا جبنا الحرية وشاخوا فيها أولاد الساقطة».
الهاردكور في الشارع المنتفض
تمتاز أغلب أغاني الهاردكور راب العربي بخلوها من تقنية الـ(Auto-Tune)، على خلاف الكثير من أصناف موسيقى الهيب هوب والراب، فالفكرة الأساسية من اختيار الهاردكور هي اقتناص الفرصة للتعبير عن الغضب والتحريض عليه، فيستخدم الرابر فيها طبقة صوت عالية تشبه الصراخ إلى حد كبير، ما يجعل الأغنية بشكلها النهائي تظهر وكأنها رسالة مباشرة بلحن بسيط ومألوف، إن لم يكن مكررًا. وقد تندرج هذه الأغاني ضمن المحاولات الفنية التي ظهرت مع بدايات الربيع العربي، واستمرت في بلدان عدة، عندما استطاع الشباب الاستيلاء على مساحة خاصة من مظاهر الاحتجاج، وامتلأت الكثير من الجدران برسومات الجرافيتي، وظهرت في الشوارع مجموعاتٌ تقدم عروض فنية مصغرة، امتازت بالمباشرة في طرح الأفكار، ما منحها الحدة الكافية لدمجها في تسارع الأحداث السياسية غير المسبوقة في المنطقة العربية.
وحيثُ لم يكن الأمر بالنسبة لكثير من الشباب يتحمل التفكير به مرتين، شكّل الحراك فرصة حقيقية يجب استغلالها في تقوية وتكثيف الفعل الثوري، فخرجت هذه الأعمال الفنية إلى الساحة الثورية بسرعة، وباختصار واضح لمراحل عدة يمر بها أي عمل فني، دون اهتمام بالجماليات، فظهرت وكأنها أعمال ارتجالية.
ومن أمثلة ذلك تجربة فرقة الراب المصرية (Arabian Knightz) في استغلال الحراك الشعبي المصري. ففي الليلة التي سبقت جمعة «الغضب» الأولى في الثورة المصرية، استخدمت الفرقة أغنية (Rebel) للفنانة الأمريكية لورين هيل (Lauryn Hill)، بموسيقى من إنتاج (Iron Curtain) من ألمانيا، لتقوم بتسجيل أغنية راب جديدةً تُحاكي هتافات الشعب المصري، ورُغم أن الأغنية لم تستكمل توزيعها الموسيقي إلا أنها حُملت على اليوتيوب كنسخة طارئة بعد أيام من تسجيلها، بسبب قطع شبكة الإنترنت من قبل النظام المصري. واحتوت كلمات الأغنية على هتافات وشعارات مباشرة من الشارع المصري، مثل: «الشعب يريد إسقاط النظام»
كانت الكلمة المباشرة التي تبنتها أغاني الهاردكور العربي كافيةً لتجعل المتظاهرين يستمرون بسماعها وتشغيلها أثناء مظاهراتهم حتى وقت قريب، فما زالت أغنية «خير الشغب» المشتركة بين اللبناني «الطفار» والسوري «الدرويش» تُذاع في شوارع بيروت على مضخمات صوتية، وكأن في الفعل نفسه تعبيرًا عن رفض كُلّي لسياسة البلد، ناهيك عن أن أغاني الطفار والراس لا تكف عن الإشارة الجادة إلى تحدي الحزبية والطائفية المتفشية في النظام السياسي اللبناني. وكما هو الحال في الهاردكور العراقي الذي يزداد جمهوره بالتزامن مع المظاهرات العراقية الأخيرة، ليظهر لنا الرابر العراقي نصر الرسام بإصدار سلسلة هاردكور بعنوان «الرد على ذيول إيران»، وهي بمثابة إعلان حرب على المرجعية الطائفية والتدخل الإيراني في الشأن العراقي بذريعة دينية.
لم يكن صعبًا على الهاردكور العربي أن يشمل البلاد العربية كافة سواءً على صعيد الإنتاج أو الاستهلاك، إلّا أنه كان أقل حدة في الدول العربية التي شهدت شوارعها حالات ثورية أقل حدة كذلك، مثل دول الخليج والأردن، فكان الهاردكور فيها يتناول مواضيع اجتماعية أكثر منها سياسية، إلا إذا تبنى قضايا غير محلية، كما هو في أغنية «غربة» لفرقة «ترابية» الأردنية، وأغنية «سوريا الأحرار» للرابر السعودي «كلاش».
بعد سنوات من انطلاقه، باتت العلاقة بين الهاردكور العربي والشارع الثوري علاقة متبادلة، فأحيانًا يحتاج الرابر حالة غير مستقرّة سياسيًا، على الأقل، كي يتمكن من تأجيجها عاطفيًا عبر الهاردكور، وأحيانًا تأخذ الجماهير من أغاني الراب هتافاتها.