أوباما على الشاشة: إعادة تسويق الحلم الأمريكي

الثلاثاء 13 كانون الأول 2022
باراك أوباما
أوباما مشاركًا في فعالية لدعم أحد مرشحي الحزب الديمقراطي في انتخابات مجلس الشيوخ 2022. تصوير: إد جونز. أ ف ب.

في رسم كاريكاتوري لمايك بيترز، ظهر خلال إدارة ريغان، الممثل الذي تحوّل إلى رئيس جالس في المكتب البيضاوي، يظهر ريغان مُحاطًا بكاميرات التلفزيون، على وشك إلقاء خطاب وطني حول الركود الاقتصادي، ليقول له أحد مساعديه، «سيدي الرئيس. ألا تفهم؟ هذا حقيقي. هذا يحدث بالفعل (..) لا يمكننا تغيير النص».[1]

نعيش في عصر الإعلام بامتياز، حيث أصبح التواصل بين الرئيس والشعب هوسًا يخلق وهمًا كاذبًا لدى القادة بالقدرة على إقناع الجمهور بدعمهم؛ وهمٌ كثيرًا ما ينهار في مواجهة الفشل الحكومي. لكن في الأسابيع القليلة الماضية، ظهر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بشكل يُضاهي أبطال أفلام الفانتازيا الهوليوودية، وبموهبة خطابية غير منقوصة، ليساهم في إنقاذ سمعة حزبه الديمقراطي من خسارة مُدوّية في الانتخابات النصفيّة لصالح الجمهوريين. في الصراع الانتخابي النصفي الأخير، لُوحظ أمران، أولهما نقص النُخب السياسية المُفوّهة القادرة على إقناع الجماهير وفقدان الجماهير الأميركية الثقة في حزبيها الرئيسيّين، والثاني هو مدى هوس المجتمع الأميركي بأوباما وقدرته على التأثير فيهم.

لم يكن أوباما هذا البطل حينما كان في سُدّة الحكم، بل نُظر له أغلب الوقت كرئيس «غير كفء». ففي استطلاع أجرته مؤسسة «Pew Research» في أوائل عام 2015، طُلب من المواطنين، في سلسلة من الأسئلة المفتوحة، استخدام كلمة واحدة لوصف الرئيس أوباما، وظهر مصطلح «غير كفء» بين الردود الأكثر شيوعًا. لكن اليوم، وفي تحوّل لا يقل درامية عن حملته الرئاسيّة، أعيد تسويق أوباما مرّة أخرى ليس للجماهير الاميركية وحدها بل للجميع. وأحد أهم استراتيجيات تسويق أوباما للأميركيين وللعالم كانت التكنولوجيا والأعمال السينمائيّة والدراميّة، التي صُدّرت من خلالها صورة براقة لعائلة أوباما تشبه الشكل المُتخيل في العقل الجمعي للعائلة الأميركية الناجحة. هذا التسويق حوّل أوباما لكيان أكبر من رئيس سابق محبوب، ليصبح تجسيدًا لكل ما يؤمن به المواطن الأميركي ويدعو العالم لتصديقه، ويقدّم كمُدافع عن الحريات والبشرية والطبيعة. إعادة بيع أوباما حوّلته من رئيس «غير كفء» لأيقونة أميركية، ساهمت في صناعتها آلة إعلامية سينمائية ضخمة، امتدادًا للمعتقدات والأفكار الكلاسيكيّة الليبرالية الأميركيّة.

صِناعة الأيقونة

من أجل فهم كيف تحوّل أوباما لأيقونة أميركيّة، يجب الرجوع لعام 2008 حين بدأ حملته الرئاسية التي غيّر فيها شكل حملات التسويق السياسية. هذا ما يرصده الفيلم الوثائقي «من قِبَل الشعب: انتخاب باراك أوباما»، الذي اقترحته المخرجتان أليسيا سامز وإيمي رايس والمنتج إدوارد نورتون على أوباما، في أوائل عام 2006، حين كان عضوًا في مجلس الشيوخ، قبل فترة طويلة من ترشحه للرئاسة. يظهر الفيلم كيف أنّ التسويق السياسي مُشابه للتسويق في عالم التجارة، حيث يجب على المرشّحين للرئاسة على وجه الخصوص تمييز أنفسهم عن المنافسين من خلال وضع العلامات التجارية لأنفسهم وحملتهم بشكل استراتيجي. وعندما يكون الرئيس علامة تجارية، يتحول إلى سلعة، ويتم تسويقه مثل المنتج، إذ يجب أن يكون للمرشح كاريزما، ويظهر نقاط قوته وصفاته الرائعة لمنح الناخبين شعورًا بأنهم في حال صوتوا له سيستفيدون شخصيًا من رئاسته.

على جانب آخر، دائمًا ما يحاول المرشحون تعديل مواقفهم بشأن قضايا يعتقدون أنها ستكسبهم الدعم. رصد فيلم رايس وسيمز مرحلة تغيّر وجهة نظر أوباما بشأن زواج المثليين لاستمالة اليسار الليبرالي والناخبين الشباب. فقبل انتخابات 2008، اعتبر أوباما الزواج «اتحادًا بين رجل وامرأة»، لكنه قرّر أن يتخذ موقف أكثر ليبرالية بشأن هذه القضية في انتخابات عام 2008 من أجل مناشدة الليبراليين الناخبين.

لم تكُن استراتيجيّة أوباما للعمل والسياسة هي المُحرك لحملته الرئاسيّة، بل كان شخصه وحياته وتاريخه وأسرته هي العوامل الأهمّ في تقديمه للجماهير. إن كانت حملة أوباما ارتكزت على عنصر واحد أكثر من أي شيء آخر، فهو تقديمه كشخص مُتنوع الأعراق والثقافات والمعتقدات. يحاكي فيلم «باري»، الذي أنتجته شبكة نتفلكس عام 2016، ويتناول فترة من شباب أوباما، هذه السردية. إذ يقدّم الفيلم باراك شابًا ضائعًا بين كينيا وأمريكا وإندونيسيا، بين هونولولو وجاكرتا وكاليفورنيا ونيويورك، بين كونه ابنًا لأب أسود وأم بيضاء. حتى بشرته السمراء الفاتحة التي يصفها صديقه في الفيلم بأنها تذكرته للتنقل بين العرقين، تُحفّز هذا الصراع النفسي الذي يشغل باله طول الوقت، ليجد نفسه ملزمًا بالدفاع عن السود أمام البيض والعكس، يجالس زملاءه البيض ويلعب السلّة مع إخوته السود.

أحد أهم استراتيجيات تسويق أوباما للأميركيين وللعالم كانت التكنولوجيا والأعمال السينمائيّة والدراميّة، التي صُدّرت من خلالها صورة براقة لعائلة أوباما تشبه الشكل المُتخيل في العقل الجمعي للعائلة الأميركية الناجحة.

في فيلم آخر وثائقي بعنوان «أحلام والدي الحقيقي» للمخرج جويل جيلبرت في عام 2012، يُقدّم باراك أوباما للجماهير الأميركية باعتباره مثالًا حيًا لتعدّد الثقافات، رجلًا متجاوزًا لصراعات الأحزاب، وحتى فوق السياسة. يقدم الفيلم فرانك مارشال ديفيس، أحد دعاة الحزب الشيوعي الأمريكي، بوصفه والد باراك أوباما الحقيقي، لما له من فضل في تشكيل نظرة أوباما للعالم خلال سنوات تكوينه. وطوال الفيلم نجد أوباما يحاول ربط تاريخه وحاضره ومستقبله بشكل مباشر بالمجتمع والثقافة الأميركية. يداعب أوباما عقيدة راسخة في الوجدان الأمريكي، وهي «بلد الأحلام» المفتوحة للمهاجرين، بذكر قصة والده الكيني المهاجر. يقول باراك أوباما إنه يمكنه تتبع «وجوده» إلى عائلة الرئيس كينيدي، لأنّ عائلة كينيدي تبرعت بالمال لبرنامج «توم مبويا» التعليمي للشباب الكيني، الذي ساهم في جلب والد أوباما وثمانين آخرين من نيروبي إلى الولايات المتحدة في أيلول من عام 1959. قدمت تلك الأفلام أوباما على أنه يأتي في الوسط من كل شيء، بين كل هذه التناقضات في الحياة والمجتمع.

كذلك، استغلّت الآلة التسويقيّة لأوباما الأسئلة التي أُثيرت طوال حملته الرئاسية وولايته الثانية، حول الخلفيّة العائليّة لباراك أوباما، والفلسفة الاقتصادية، والأيديولوجية السياسية الأساسية، والأشياء التي أثرت في بناء شخصية أول رئيس أسود للولايات المتحدة، لتحوّلها بدلًا من نقطة خلاف إلى نقطة تلاقي. يُلاحظ ذلك في فيلم «أحلام والدي الحقيقي»، محاولًا سرد تاريخ حياة أوباما بشكل مختلف عمّا كتبه أوباما ذاته. ففي عام 1990، اتصلت دار «تايمز بوكس» بأوباما وطلبت منه كتابة سيرة ذاتية تحكي قصة نجاحه كمحترف وأكاديمي أسود، فأخذ أوباما إجازة من عمله كمحامٍ وكتب «أحلام من والدي: قصة العرق والميراث»، الذي نشر في عام 1995، ثمّ أعيدت طباعته في عام 2004. تعززت مبيعات الكتاب إثر الخطاب الذي ألقاه أوباما في المؤتمر الوطني الديمقراطي في بوسطن عام 2004، ليصعد الكتاب سريعًا إلى قمّة قائمة أفضل الكتب مبيعًا في نيويورك تايمز وبيعت ملايين النُسخ. بعد ذلك صاغ أوباما أفكاره حول ما أسماه «استعادة الحلم الأمريكي» والذي أطلق حملته الرئاسية الناجحة.

تظهر علاقة باراك المضطربة بوالده في فيلم «باري» بوضوح، في تجنب باراك المستمر للحديث عن والده لأنه لم يسامحه بسبب تركه في صغره مع والدته لأجل أسرة أخرى في كينيا، الأمر الذي يشبه تجارب كثير من الشباب الأميركي ومشاكلهم مع مؤسسة الأسرة، التي يؤكد أوباما بأنه «لا يثق بها» بسبب تجارب أبويه الكثيرة مع الزواج، حيث تزوجا ست مرات فيما بينهما. يُلخص فيلم باري كُلّ تلك التناقضات في نهاية الفيلم، حينما يلتقي باري بوالده الروحي فرانك مارشال ديفيس، ويقص عليه جزءًا من حياته فيخبره أن كل تلك التناقضات جيدة، لأنها تجعل منه أميركيًا، وهي فضيلة لأنها لا تجبره على الاختيار أبدًا.

أوباما و«نقيضه»

لا يمكن إنكار إسهام وسائل الإعلام في إعادة خلق صورة أوباما وعائلته في صورتهم الرمزيّة، كما لا يمكن بطبيعة الحال إنكار مساهمة الرئيس السابق دونالد ترامب وأسرته، في ترسيخها وإعطائها صورة النقيض غير الاعتيادي. أذهل دونالد ترامب العالم السياسي عام 2016، عندما أصبح أول شخص ليست لديه خبرة حكومية أو عسكرية، يتم انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة. رجل الأعمال القادم من نيويورك، ونجم برنامج تلفزيون الواقع السابق، كشف في فترة ولايته التي استمرت أربع سنوات في البيت الأبيض، عن انقسامات غير عادية في المجتمع الأمريكي، بدأت منذ حملته التي تحدّت الأعراف وجذبت انتباه الجمهور منذ لحظة انطلاقها.

يرصد فيلم «مذبحة ترامب الأمريكية» للمخرج مايكل كيرك، حصار ترامب لأعدائه ووسائل الإعلام وحتّى قادة حزبه منذ أيامه الأولى في واشنطن إلى آخر أيامه، وكيف استخدم المنبر الرئاسي لانتقاد قائمة طويلة من الخصوم المُتخيلين، من وسائل الإعلام إلى أعضاء إدارته والمسؤولين المنتخبين في كل من الأحزاب السياسية ورؤساء الدول الأجانب. وفي أيامه الأخيرة في منصبه، أصبح ترامب أول رئيس تنفيذي للبلاد منذ أكثر من 150 عامًا رفض حضور تنصيب خليفته. استغل ترامب مكانته كغريب عن السياسة الأميركية، ليشعل انقسامات حزبية وشخصية عميقة. وفي الخارج تضمن سجل سياسة ترامب تغييرات كبيرة. حيث فرض قيودًا جديدة صارمة على الهجرة، وانسحب من العديد من الاتفاقيات متعددة الأطراف. كما أدت وفاة جورج فلويد، على وجه الخصوص، إلى ظهور العنف العرقي على السطح بطريقة لم تحدث من قبل.

على النقيض من ترامب المحب للسلطة والسياسة لفرض القوة والهيمنة، قدم فيلم «باري» شخصية أوباما غير المُكترثة بالسياسة والشأن العام. ففي أحد المشاهد نجده يشاهد حديثًا لأحد السياسيين عبر التلفاز، مع صديقته البيضاء التي تعتبر الاهتمام بالسياسة واجبًا مدنيًا، بينما لا يبدي باري اهتمامًا. يرى باراك أنّ رئيس الدولة ليس سوى ممثل، فتسأله صديقته عن إيمانه بالتغيير، فيخبرها بأنه يؤمن بالفن. يقدم الفيلم أوباما كواحد من أغلبية الشباب الذين يرون أنّ المشكلة الحقيقية نابعة من النظام، الذي تصفهم صديقته بأنهم «هؤلاء الأشخاص الذين لا ينتمون لعالم السياسة لأنّ مبادئهم لا تتماهى مع متطلبات الحياة السياسية، لما فيهم من مثالية شاعرية».

محميات غير طبيعية

تلك المثاليّة السياسية التي تمّ إلصاقها بقرارات أوباما السياسية، مثل اتفاقية المناخ، رفعته لمكانة حامي الطبيعة ومستقبل البشرية، لذا لم يكن حضور أوباما في مجال الوثائقيات المعنية بالبيئة غريبًا، إذ أطلّ في نيسان الماضي على شبكة نتفلكس في أحدث الأعمال الدرامية التي يشارك فيها شخصيًا أو تتناوله هو وأسرته. وثائقي «حدائقنا الوطنية العظمى» المكون من خمس حلقات ليس سوى جزء جديد في استراتيجية بدأت حتى قبل قدوم أوباما للسياسة واستمرت بعد رحيله عنها، تتمثل في إعادة بيع الحلم الأميركي وإعادة بيع أوباما. وليس اختيار أوباما لمثل هذا الوثائقي غريبًا بالنظر إلى أن المسلسل من إنتاج شركة «Higher Ground»، التي أنشأها أوباما نفسه وزوجته ميشيل.

يبدأ أوباما في قص بعض القصص الشخصية التي جمعته مع والدته على شواطئ هاواي، ثم يُسارع في التباهي بادعاء أنّ أمريكا كانت أول دولة تنشئ «حديقة وطنية» في العالم (حيث تم تخصيص مليوني فدان من المساحات البرية في عام 1872)، وأنها أول دولة انتبهت لأهمية الحفاظ على البيئة ودفعت باقي دول العالم لتنتبه أيضًا. هذا التباهي هو جزء من الهوية الأميركية التي تنظر للولايات المتحدة على أنها هبة الله للبشرية وحاميتها، رغم تربعها على عرش الدول المدمرة للبيئة والمناخ، وقيادة النظام العالمي لمدة مئة عام نحو حافة الانقراض اليوم. لكن إن كان أحد قادرًا على تجديد الأمل في الشعب الأميركي، فلا يوجد أفضل من أوباما بصوته الدافئ.

يأخذ أوباما المشاهدين في جولة عالمية في «ملاذات آمنة للأنواع المهددة بالانقراض، وبؤر للبحث العلمي وأماكن حيث يمكن للناس الهروب من عبء الحياة اليومية». ويتنقل طوال الخمس حلقات بين خليج مونتيري في كاليفورنيا، ومتنزه تسافو الوطني الكيني، ومتنزه جونونج ليوزر الوطني الإندونيسي، وباتاغونيا في تشيلي، وحديقة لاونغو الوطنية في الغابون. ورغم التكلفة الباهظة الواضحة في التصوير، والمشاهد الخلابة التي يعرضها الوثائقي، إلا أنه بدا واضحًا أنّ المنتج والقائمين على المسلسل صبّوا اهتمامهم على الاستفادة من حضور أوباما أكثر من الحبكة والبناء الدرامي، وهو ما ظهر في التركيز على التقاطعات بين حياة أوباما والطبيعة.

في حديقة تسافو الوطنية في كينيا، وهي ملعب واسع للفيلة والحمير الوحشية والأُسود، يستحضر أوباما أصوله الأفريقية، ليقول «في المرة الأولى التي زرت فيها كينيا منذ حوالي 30 عامًا كنت غريبًا»، ويكمل بأنّ «هذه الأرض كانت لأبي الذي توفي والذي بالكاد أعرفه». لعل هذا يمثل العنصر المشترك بين الأفلام التي تتناول أوباما، التي تحاول تذكيرنا بأنه يمثل حالة الاستثناء في التاريخ الأميركي، كأول رئيس أسود مزدوج العرق والثقافة ينحدر من أب إفريقي مهاجر، لتذهب بعدها أبعد من شخص أوباما إلى تصوير الشخصية النموذجية الأمريكية القادرة على الاستفادة من مما توفره «أرض الفرص»، حيث استطاع أن يصل لأهم وظيفة في العالم عن طريق شعاره الرنان «حلم التغيير».

  • الهوامش

    [1] Elaine C. Kamarck. 2016. Why Presidents Fail And How They Can Succeed Again. Brookings Institution Press, Washington, D.C. p. 5.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية