اللغة والسوق واختلاق «الجسد المثالي»: لماذا نكره أجسادنا؟

الإثنين 21 كانون الأول 2020
الرأسمالية والجسد
عمل فني بعنوان «أرجل مرقّمة»، جون بالديساري، 2015.

من المستقرّ أنّ العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطيّة، أي أنها غير طبيعية وإنما سياقيّة مختلَقة من قبل المتحدثين والقوى المُسيطرة والمتحكّمة في اللغة وسياقها. غير أنّ هذا لا يعني أنها لا تُترَك كليّةً للمتحدِّث؛ بل إنها محكومة، مثلًا، بالسياق الاجتماعيّ والاقتصادي المُسيطر. فما أن أُسِّست هذه العلاقة أو الربط ضمن مجتمع لغويّ، فإن المتكلم لا يملك القدرة على تغييرها.

يسري ذلك عند الحديث عن «الجسد المثالي» والصورة الذهنية التي اكتسبها هذا التعبير، إذ أصبح هناك -استنادًا لدلالته- هو مقبول وما هو مستثنى باعتباره غير مثالي. وهذه الدلالة حاصلة سواء كان التعبير عنها كتابة أو شفهيًا أو مرئيًا، كما في الإعلانات والأفلام، وهو ما ينصب عليه التركيز هنا.

رأس المال والعلامة اللغويّة

نظرًا إلى أنه ما من علاقة طبيعيّة مباشرة بين الدال والمدلول، تكتسبُ العلامةُ اللغوية قيمتها بوصفها جزءًا من نظام لغويّ، لا من ذاتها وحدها بمعزل عن هذا النظام. لا تشير مفردة اللغة هنا إلى المكتوب والمنطوق فقط، حيث إن ما نراه حولنا من أفلام وإعلانات وسوق هو بمثابة أشكال لغويّة تختلق علاقات بين الدالّ والمدلول، وتتجدد حسب ما يريد السوق والقِوى إيصاله للمتلقي.

نظرًا إلى أنه ما من علاقة طبيعيّة مباشرة بين الدال والمدلول، تكتسبُ العلامةُ اللغوية قيمتها بوصفها جزءًا من نظام لغويّ، لا من ذاتها وحدها بمعزل عن هذا النظام.

لقد اهتمّت البنيويّةُ، بشكل مكثف، باللغة والعلاقات القائمة فيها. غير أنّ اللغة لا تفهم دون سياقها الاجتماعيّ وما يتضمنه من مؤثرات اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة وغيرها. وهو ما أشار إليه فوكو بأنّ المؤسسات الاجتماعيّة المختلفة تصوغ وتصنع المفاهيم.[1] فالنظام اللغوي يصبح معطوبًا في حال غاب البعد الاجتماعي عنه، وأصبح لزامًا على الناقد النّظر في الدلالات اللغويّة من حوله بمختلف أشكالها المكتوبة والمنطوقة والمرئيّة، وتحليلها لفهم القوى المستترة فيها وخلفها. الجسد نفسه لم يعد فقط ذاتًا تتلقف المعاني والدلائل، بل أصبح علامة لغوية جديدة، تكتسب دلالتها من السياق الذي توظّف فيه، ويكسبها معنى لغويًا ودلاليًا يمكن التلاعب به واستخدامه بما يتوافق مع أهداف الرأسمالية المتأخرة وسوقها. وهو أمر رسّخته الإعلانات وسوق رأس المال؛ مستفيدة منه في تغيير دلالة الجسد وما هو مقبول أو مرفوض من صوره.

لقد اختلقَ رأس المال دلالاتٍ جديدة للجسد بربطه بالسوق، وُظِّفت لزيادة الربح. فالمجمّعات التجاريّة الكبرى وواجهات المحال فيها تزخر بأجساد دُمى بلاستيكيّة، ترتدي ملابس تُعرض لجلب المستهلك؛ غير أن ما تستهدفه صروحُ رأس المال تلك، ليس سوى شريحة قليلة قادرة على تحمل تكلفة تلك المعروضات. كما أن جزءًا من القادرين على شراء تلك الملابس يملكون أجسادًا لا تتناسب مع السوق. هذه الأجساد التي لا تطابق شروط وأوصاف «المانيكان» التي تعرض الملابس، أجساد مطرودة من سوق رأس المال وعليها أن تجد ما ترتديه خارجها أو في أحسن الأحوال أن تعدّل عليه ليناسبها. لكن السؤال هنا هو: مَن الذي خلق أزمة هذ الأجساد في الأصل؟ وكيف تشكلت هذه العلاقة الدلاليّة بين الجسد والسوق؟

الجسد المثاليّ ولعبة رأس المال

شكّلت الرأسمالية نظامًا حياتيًا تسبّب في خلق أجساد تنوء بحملها. فأوجدت سلاسل عابرة للقارات، من مطاعم الوجبات السريعة والمشروبات الغازية والأغذية المُعدّلة وراثيًا، ودفعت بها إلى السوق معززةً قيمتها من خلال الحملات الإعلانية الكبيرة، بالإضافة إلى اختلاق دلالات سيميائيّة جديدة جعلت المستهلك مشدوهًا. إن هذه الروابط اختلقت جنّة استهلاكيّة يشعر المستهلك برغبة كبيرة في الانغماس فيها. بيد أنّ الأجساد المستهلِكة بكثافة لهذه السلع لا تعود تناسب الأجساد المعروضة، فتتكون بذلك أقليّة محرومة من نعيم السوق. أقليّة أوجدها رأس المال في الأصل، ثم أنكرها.

إن الأجساد التي تعرض الأزياء هي أيضًا خاضعة لقهر السوق. فبالنظر إلى شروط عرض الأزياء، نجد أن هؤلاء الأشخاص يعيشون في كثير من الأحيان في حالة تجويع ممنهج وتهديد من قبل السوق في حال زادت أوزانهم. فيعيشون على أدوية ومقويات تمكنهم من الوقوف على منصات عرض الأزياء، وأمام شاشات الإعلانات، ومن ثم واجهات المحال، لكنهم مغمورون بكآبة وحالات نفسيّة شديدة السوء. تستعرض الكاتبة تانسي هوسكينز، في كتابها «مرقّع: كتاب الأزياء المعادي للرأسمالية»،[2] السياسات الرأسماليّة التي تحكم سوق صناعة الأزياء وعرضها. حيث تناقش استغلال العمّال في مختلف مراحل الإنتاج، وظروف عمل العارضات، والضغوطات التي تفرضها سياسة المقاس الواحد (مقاس صفر) المناسب للجميع، ما تعبّر عنه عبارة «one-size-(zero)-fits-all» بالإنجليزيّة. ترى هوسكينز بأن الأزياء عدسة يمكننا من خلالها النّظر إلى الرأسمالية؛ إذ تمثل عارضات الأزياء تجسيدًا ماديًا للاستغلال. هذا النظر إلى صناعة الموضة يجعلنا ندرك أن كلّ دعوات الاختلاف والاحتفاء به لم تكرّس سوى شكل واحد للجسد، وخلقت أقليات تعيش علاقات شائكة في أحسن الظروف مع أجسادها، إن لم تتنكر لها وتكرهها.

إن الأجساد التي تعرض الأزياء خاضعة لقهر السوق. فبالنظر إلى شروط عرض الأزياء، نجد أن هذه الأجساد تعيش في كثير من الأحيان في حالة تجويع ممنهج وتهديد في حال زادت أوزانها.

إن سياسة المقاس الواحد تقصي ضمنًا جميع الأشكال والمقاسات المغايرة وتحرمها؛ والأمر هنا ليس قضية وزن مثالي وجسد ممشوق بل رسم محدد لشكل وانحناءات جسد بعينه؛ جسد يصعب إيجاده في الواقع لأنه تكون ورُسم ضمن سوق عرض الأزياء وتصميمها. إنه جسد لم يتغذَّ على ما يوفره السوق ويروج له من غذاء، ولهذا نجا دون بقية الأجساد التي وقعت بين فكي ما ينتجه هذا السوق من غذاء، مختلقًا استيهامات تدفعك لإدمانه، وبين ما يمنحك إياه من ملابس. وبالتالي يتكون رفض وتنكر لهذا الجسد الذي يحرمك من دخول جنة الأزياء تلك، وهو ما يدفع في كثير من الأحيان لإدمان أكبر على الطعام هروبًا وتنفيسًا عن الضيق من ذلك الجسد، ويضمن الدوران ضمن تلك الحلقة المفرغة دوام دوران عجلة الإنتاج.

تناقش المحللة النفسيّة والناقدة الاجتماعيّة سوزي أورباك، في كتابها «السمنة: قضية نسويّة»، سيكولوجيّة التغذية والضغوط الإعلامية الواقعة على النساء للمحافظة على وزن وشكل معين لأجسادهنّ. وتوضح العلاقة بين الرأسماليّة والمشاعر السلبية تجاه الجسد التي خلقت عددًا كبيرًا من كارهي أجسادهم. إذ إنّ «الموضة تشكّل أجسادنا»،[3] كما تقول، فلا نجرؤ كمستهلكين على تجسيد ونحت أجسادنا الخاصة، بسبب القوة التي تفرضها لغة السوق علينا وعلى فهمنا وإدراكنا لأجسادنا.

ومع كل ما هو معروض ومسوّق، أصبحت أجساد عدد كبير منّا لا تناسب السوق الذي لم يعد يحاول مناسبة أجسادنا، بل يجبرنا من خلال وسائل الإعلام والإعلانات وواجهات المحال وعروض الأزياء على أن نشبهه نحن من خلال محاربة أجسادنا والإضرار بها أحيانًا، لنرتدي ما لا يجعلنا أقليّة مقابل ما يعرضه السوق.

تمثّل العلاقة الطبيعيّة بين صناعة الملابس والبشر، علاقة حماية في الأساس؛ حماية من ارتفاع الحرارة والصقيع؛ وحماية اجتماعية كذلك، بمعنى أن ملابسك توفر لك وضعًا اجتماعيًا ما. حيث ترتبطُ كلّ مناسبة اجتماعيّة -فرحًا كانت أو ترحًا- بنظام لباس (Dress Code) معين نتقيد ونلتزم به، وبموجبه يصبح هذا مقبولًا أو مرفوضًا كزيّ. 

تحولت هذه الشيفرات شيئًا فشيئًا من وظيفة الحماية إلى تهديد تمثله هي ذاتها، بدءًا بتحديد الطبقة الاجتماعية حسب نظام اللباس، ووصولًا إلى تحديد شكل الأجساد المقبولة والمستبعدة. لقد اختلقت السياقات الاجتماعية في ظلّ الرأسمالية دلالات غيرت الدلالة البسيطة والمباشرة لنظام اللباس بما يخدم مصالح السوق ببساطة.

أجساد الإعلانات

تعتمد الإعلانات على بناء علاقاتٍ سيميائيّة بين المُنتَج والمُستهلِك، فلا يمُكن عزل الدلالة الناتجة من الإعلان عن الكائن البشري الذي يربط المُنتَج بدلالته. لكن غالبًا ما تكون عملية الربط هذه عمليةً غير واعية؛ لذا فإن هذه الشركات المُصنعة والقائمة على صناعة الإعلان، المشمولة بالنظام الرأسمالي، تسعى لبيع الخرافة الناتجة عن ربط المُنتَج بدلالة ما في عقل المُستهلِك، وهنا يكمن سحر الإعلان. فالمُستهلِك هو من يخترع هذا المضمون الدلالي للمُنتَج، الذي لا يُراعي الفروقات بين المُستهلكين ويوصل لهم جميعًا الرسالة ذاتها.

إن سياسة المقاس الواحد تقصي ضمنًا جميع الأشكال والمقاسات المغايرة وتحرمها؛ والأمر هنا ليس قضية وزن مثالي وجسد ممشوق، بل رسم محدد لشكل وانحناءات جسد بعينه يصعب إيجاده في الواقع.

إذا أخذنا إعلانات الشوكولاته على سبيل المثال، فإنها تقوم على تقديم صورة امرأة «بيضاء» جميلة في حالة من الانغماس في لذة مع الشوكولاته، غالبًا ما تكون هذه اللذة ذات دلالة شهوانية جنسية، وتحل هنا الشوكولاته بدلًا من وجود الرجل، فنرى امرأة مغمورة بالماء في حمامها مُتلذذة ومُنغمسة بلذة الشكولاته. هذه الإعلانات التي اختلقت دلالات وإيحاءات جديدة، وظّفتها لإيصال معنى جديد للمشاهد/المستهلك بطريقة لا واعية وضمنية.

تختلق إعلانات الشوكولاته علاقة تربط اللذة الجنسيّة بتناول مُنتَج شركة ما، بينما تربط أخرى الشوكولاته بالحرير، لنرى امرأة ترتدي الحرير، وتتلذذ بملمس الشوكولاته الحريريّ. كانت المرأة دائمًا مادة الإعلان عن الشوكولاته، ورُبطت بها وبحالتها النفسية. وبصرف النظر عن الأبحاث التي تُشير إلى دور الشوكولاته في تحسين الحالة المزاجيّة، إلّا أن شركات الإعلان كانت ذات تأثير أكبر من كل الأوراق البحثية في نشر هذا الوهم. المرأة دائمًا بحاجة لما يضبط حالتها المزاجية ويُستثنى الرجل تمامًا من دخول جنة الشوكولاته. بتعبير آخر، ما توحي به هذه الإعلانات هو أنّ الشوكولاته هي الرجل، الغائب.

لكن، المفارقة، أنّ جميع الأجساد الظاهرة في المادة الإعلانيّة أجساد بمقاسات مثاليّة للسوق، بل المفارقة الأكبر أن تلك الأجساد لا تستطيع في الحقيقة التعامل مع الشوكولاته بالأريحيّة والراحة التي يظهرها الإعلان، وإلا فقدت امتياز الظهور فيه وتحولت إلى مجرد مستهلك بعيدًا عن عملية صنع الإعلان وخلق الدلالة. والحقيقة أن أجساد الإعلانات تلك ليست أجسادًا مستهلكة فعليًا للشوكولاته، إنها أجساد منضبطة بأقسى أشكال الانضباط في قياس سعرات ما تأكل. هناك وجهان لذلك العالم، أحدهما برّاق ومثالي وجميل، والآخر بائس ومقهور. فتلك الأجساد لو تغيرت عمّا هي عليه لفقدت عملها الذي تعتاش منه، لذا فهي تحكم السيطرة على أبعاد الجسد حتى لا تخسر مكانتها في سوق رأس المال الذي يوظفها في الترويج لمنتجاته.

الحمية الغذائيّة: «مرثيّة حُلم»

ارتباطًا بما سلف، يمكن تعقّب آثار الرأسماليّة وعلاقتها بالجسد في منظومة الحمية الغذائيّة ودلالاتها اليوم، كمثال مباشر على هذا السعي وراء المجهول، في قلق الحضارة المستعر. إنّ إدمان الحميات الغذائيّة والصيحات المتجددة بطريقة يصعب التنبؤ بها، هي أحد مفرزات الرأسمالية المتعلقة بالجسد. يستعرض فيلم «مرثية حلم» (Requiem for a Dream) للمخرج دارن أرنوفيسكي، أنماطًا إدمانية مختلفة، من خلال شخصياته. إنّه فيلم عن الإدمان والاستيهامات التي تخلقها الحضارة في المقام الأول.

يؤكّد أرنوفيسكي في هذا الفيلم على وجود أنماط مختلفة للإدمان لا تقتصر على الصورة النّمطية لعلاقة كلمة إدمان بما تدل عليه، فالإدمان هنا أوجد علاقات جديدة واختلق مفاهيمَ مغايرة. شخصية سارة في الفيلم حالة نموذجية للتعاطي مع إدمان الحميات والاستيهامات حول الجسد المُشتهَى والمُشتهِي. تتحدث الممثلة إلين برستين في لقاء مصور عن الفيلم، قائلة إن «الناس يتجنبون الواقع؛ فيصبح الإدمان طريقتهم في الهروب من الواقع والانغماس في استيهاماتهم». سارة أم وحيدة متقدمة في السن، تجلس باندهاش أمام شاشة التلفاز التي تدمن النظر إليها، متابعة برنامج جوائز تحلم أن تظهر فيه. كان عليها -حسب استيهامها- أن تكتسب شكلًا يجعلها جديرة بالظهور على شاشة التلفاز. لقد جعلها التلفاز أشد بؤسًا؛ إذ غيّر علاقتها بجسدها، فهربت لاستيهاماتها حول جسدها. في حلمها (الصورة المتخيلة عن نفسها) كانت ترى ذلك الجسد الأنحل منها مُثيرًا ومُشتهى، ذلك الجسد المتوهم هو القادر على ممارسة الجنس، أما جسدها الحالي فبالكاد يغادر الأريكة جالسًا أمام التلفاز يتناول أطعمة مختلفة.

إن علاقتنا بأجسادنا أصبحت شائكة أكثر من أي وقت مضى بسبب العبء الواقع علينا من السوق، وهو عبء لا نقاومه ولا ندركه في غالب الأحيان.

تتغير نظرة سارة إلى جسدها، وتشرع برحلة التغيير بعد تلقيها مكالمة هاتفية للظهور في التلفاز، فتفكر بالهيئة المناسبة للظهور. غير أن الزي الذي تحلم بالظهور به لا يناسب مقاسها، وعليها إنقاص وزنها ليناسب مقاس الزي. لم تفكر في شراء غيره، بل أجبرت جسدها على أن يناسب الزي. وقتها ضيق، وتسابقه لنحت جسدها خلال الوقت القصير الذي تملكه. لتدخل في سلسلة من التجريب والفشل يرافقها تداعٍ عقليّ وهلوسات لا حد لها. كانت الثلاجة هي الوحش الرابض في بيتها والذي يهددها بالحرمان وفقد فرصة المشاركة في العرض، الذي يمنحها شهادة تثبت جدارة جسدها بالعيش. ذلك الجسد -الذي هو في الواقع جسدٌ وحيدٌ- يحاول استعادة الماضي بإقحام ذلك الجسد مرة أخرى في ذلك الرداء الأحمر الذي يعيدها للعالم القديم، حيث كان لديها عائلة ورفقة. إدمانها لحبوب إنقاص الوزن خلق لها عالمًا استيهاميًا بديلًا عن واقعها المتهالك؛ فهربت إليه. الرداء الأحمر هو الحلم، تمامًا كما ينظر أيّ منا لأيّ زيّ على واجهة محل؛ فتبدأ الخيالات تتدفق عن ارتدائه وكيف سينظر لنا الآخر حينها، كما هي حال سارة حين أخبرت ابنها «ما زلتُ أذكرُ كيف نظر إليّ والدك حين ارتديتُه».

مسعى سارة، طوال الفيلم، هو محاولة لخلق جسدٍ مرغوب فيه، ليس فقط بالمعنى الجنسيّ، بل بمعنى الجسد الذي لا يحيا وحيدًا، «أنا الآن شخص ما، يحبه الجميع وقريبًا سيراني الملايين ويحبونني (..) إنه سبب للاستيقاظ صباحًا، سبب يدفعني لخسارة الوزن لكي أناسب الرداء الأحمر، سبب لكي أبتسم، يجعل الغد جيدًا». أصبحت استيهامات الإدمان دافعًا للاستمرار في العيش.

إن الإدمان في هذا السياق بمثابة «مسكنات» بتعبير سيجموند فرويد، تجعلنا نتحمل وطأة وعبء الوجود، أو تفقدنا الإحساس به، بما فيه من مشاق وخيبات. خيبة سارة كانت الوحدة والجسد الذي أصبح خارج الخدمة إن صح القول. تبحث الشخصيات في الفيلم والإنسان بصورة أكثر شمولية عن «إشباعات بديلة» -بتعبير فرويد- تُكسب وجودها معنى في سعيها وبحثها عن السعادة، ولا شيء أبلغ من البحث عن «اللذة العارمة» في تحديد هدف وجودنا. لكن بحثنا عن إشباع اللذة سعي لا ينتهي ولا يُشبع بأي حال، لتكون التعاسة مصيرنا المحتوم. وذلك لأن «الألم يتهددنا من ثلاث جهات: في جسمنا بالذات، المكتوب عليه الانحطاط والانحلال، والعاجز حتى عن الاستغناء عن ذلك النذر المتمثل في الألم والهمّ، ثمّ من جهة العالم الخارجيّ الذي تتوفر له قوى عتيّة لا تُقهر ولا تعرف الرحمة في ضراوته علينا وسعيه لإبادتنا؛ ويتأتى التهديد الثالث أخيرًا بعلاقتنا بسائر الكائنات الإنسانية»، كما يقول فرويد.

إن سارة -كما الآخرين في الفيلم- لجأت إلى أنجع طرق الوصول إلى السعادة، متمثلة في الطريقة الكيميائية (أدوية ومخدرات). لأنه، حسب فرويد، فإن «أجدر طرائق الاحتماء من الألم بالاهتمام هي تلك التي ترمي إلى التأثير على عضويتنا بالذات. فما الألم في خاتمة المطاف إلا إحساس، ولا وجود له إلا بقدر ما نشعر به. ونحن لا نشعر به إلا بفضل بعض الاستعدادات المتوفرة لجسمنا».[4]

ترافق الصور والموسيقى الحادة كالصراخ وصوت الطائرة رحلة وحلم سارة بإنقاص وزنها، أصوات الثلاجة المرعبة والصاخبة المرافقة للهلوسات التي تسببها حبوب الدواء الملونة. هذا الصخب يعزز الانتباه للدلالات التي اختلقتها حالة الحِمية. استخدم أرنوفيسكي هذه الوسائل الصوتيّة والبصريّة لاستدخال المتفرج -الذي يعاني هو أيضًا إدمانًا ما بالضرورة- في حالة الشخصيّة. كلُّ ما خلقَه في الفيلم يعكس الدلالات التي فرضتها قوى السوق والحياة الحديثة.

إن علاقتنا بأجسادنا أصبحت شائكة أكثر من أي وقت مضى بسبب العبء الواقع علينا من السوق، وهو عبء لا نقاومه ولا ندركه في غالب الأحيان. فنحن نضع أجسادنا موضع المُساءلة في كل مرة نقف فيها أمام واجهات المحال، ونتساءل «لمَ لا أمتلك جسدًا جميلًا يليق بهذه الملابس؟ لمَ يحرمني جسدي من هذه المتع؟» ونضيق ذرعًا بها وقد نكرهها لأنها العائق الوحيد أمام اللذة. لتنعكس آثار ذلك الاستياء على شعورنا تجاه الجسد في كثير من جوانب العيش، سواء كان ذلك فيما يخص الملابس أو الطعام أو ممارسة الجنس.

  • الهوامش

    [1] Foucault, Michel, «The Discourse on Language,» trans. Rupert Swyer in Archeology of Knowledge Pantheon, New York: 1972.

    [2] Hoskins, Tansy, «Stitched Up. The Anti-Capitalist Book of Fashion». Pluto Books, 2014.

    [3] Orbach, Susie, «Fat is a Feminist Issue». Arrow, 2016.

    [4] سيجموند فرويد، «قلق في الحضارة». ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة، بيروت، 1996. وكلّ ما بين ظفرين في الفقرة هذه هي من فرويد في الكتاب نفسه على التوالي: ص 23، ص 24، ص 25.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية