ما الذي يقوله إفلاس «ڤايس» عن مستقبل الإعلام الرقمي؟

الثلاثاء 20 حزيران 2023
فايس نيوز
أحد مكاتب فايس في نيويورك. المصدر: نيويورك تايمز.

تابع محبو العمل الأمريكي «ساكسيشن» نهايته، متشوقين لمعرفة مصير واحدة من أكبر إمبراطوريات الإعلام والترفيه كما يقدمها العمل. إلا أن العالم الحقيقي اليوم لا يخلو من أحداث لا تقل سخونةً أو درامية عن تلك التي نجدها في الدراما. فبعد مرحلة من التخبط والترقب، أشهرت شركة ڤايس راية إفلاسها، باحثةً عن أي مشترٍ مهتمٍ بمؤسسة باتت أشبه بقطعة أثرية، كانت منذ سنوات قليلة موضع اهتمام مستثمرين بحجم روبرت مردوخ وديزني، وقُدرت قيمتها في أوج ذروتها بأكثر من خمسة مليارات دولار.

لم يهتز مركب ڤايس وحدها، فالمشهد يعج بالعواصف التي تتفاوت في حجمها. إذ أعلنت «باسل ديجيتال غروب»، التي امتلكت موقع «غوكر» (Gawker) منذ عام 2021 وأعادت إحياءه، أنها ستغلقه (للمرة الثانية، وربما النهائية)، بينما حل بازفيد، المتضرر الأكثر شهرةً ربما، وحدة الأخبار لديه، مسرّحًا ما يقارب 15% من إجمالي موظفيه، وذلك بعد إعلان الموقع تعاونه مع Open AI لتطوير المحتوى بالاستعانة بالذكاء الصناعي، في حركة بائسة لرفع قيمة أسهم الشركة.

حفلت هذه الفترة كذلك بأخبار أقل ظهورًا ربما، كإغلاق شبكة بارامونت لـ«إم تي في نيوز» بعد أكثر من 36 عامًا على انطلاقها، وانتشار نار التسريحات في هشيم الصناعة بشكلٍ عام في 2023. إلا أن تركيزًا إضافيًا قد يولى لحالتي بازفيد وڤايس، وغاوكر بدرجة أقل ربما، لسبب مهم وهو أن هذه المواقع ظهرت، أو سطع نجمها، في العصر الرقمي، وانصب تركيزها على هذا الحقل، عكس باقي الوسائل التي كانت موجودة أساسًا وانصب جهدها على مواكبة هذا العصر وما تغير خلاله.

إن هذه النقطة ليست هامشية، إذ طالما شكّل بازفيد وڤايس مثالين يدلان على عدة أشياء دفعةً واحدة، رافعين تارةً الراية المبشرة بالمرحلة القادمة من الإعلام الذي يفوز بجوائز كبوليتزر وبيبودي، وماثلين تارةً أخرى كأعمالٍ «حسنة الإدارة»، ومهددين -في حالة بازفيد خصوصًا- لتقاليد المهنة، كما تدلنا الأدبيات البحثية التي تحدثت عن «بازْفَدَة» (Buzzfeedication) الصحافة. لذلك، كان من الطبيعي أن يثير الدخان المتصاعد من هاتين المؤسستين الكثير من القلق والتساؤلات عن المستقبل الذي يواجه هذه المهنة، ومن الضروري عند نقطة كهذه أن نعيد تفحص ما جرى.

حرب «الترافيك»

شغل بن سميث رئاسة تحرير بازفيد نيوز بين عامي 2011 و2020، ليعود خطوة إلى الوراء نحو الإعلام التقليدي ويكتب الأعمدة للنيويورك تايمز، ثم يسلك خطوة واحدة للأمام ويطلِق موقع سيمافور الإخباري بعدها بعامين.

شهد سميث هذه المرحلة بكل تفاصيلها، ولذا فإن صدور كتابه «الترافيك: العبقرية والمنافسة والوهم في صناعة المليار دولار» في الثاني من أيار هذا العام كان خير مرافقٍ لما يجري. وفي الكتاب، يركز سميث على شخصيتين رئيستين في هذا المجال؛ جوناه بيريتي، مؤسس بازفيد، ونيك دينتون، الصحفي البريطاني الذي أسس موقع غاوكر. ورغم اختلافاتهما الأيديولوجيّة والشخصية وتعريفهما لما هي الصحافة، فهم الاثنان حقيقة أن عملة العصر الجديد ستكون مزيجًا من النقرات وحصد الانتباه والمرور، أو كما قدّم بيريتي وصفته للنجاح: طريقة لقياس المشاعر الإنسانية بشكل كميّ بغرض إعادة إرسالها للجمهور بأشكالٍ محددة، كالاختبارات ومقالات القوائم التي كانت وسائل التواصل مثل فيسبوك ودودةً معها، ثم انتهى بها الأمر فارضة سطوتها على المضامين.

ثمة أسئلة كثيرة عن دور سميث فيما يحاول تأريخه بتجردٍ ظاهري، وعن محاولة سرد هذه القصة بالتركيز على فردين، وهو موضوع يستحق أن تفرد له مساحته الخاصة. إلا أنه يحدد نقطة انطلاق جيّدة مع هذين الموقعين، ولأسباب تتعداهما فعليًا.

فمثلما تفاعلت الصحافة مع الحاجة لخلق هويات وطنية أو قومية، واستفادت من متغيرات كانتشار التعليم، ساهمت متغيرات أخرى مثل اكتشاف لب الورق منخفض التكاليف في انتشار الصحافة المقروءة، وظهور تقنية البث عبر الكابل في نشوء قناة سي إن إن. وفي حالة وسائل الإعلام الجديدة هذه، كان الرهان منصبًا على الإنترنت (أيًا كان معنى هذه الكلمة) وعلى صناعة مضامين تستطيع أولًا جذب القراء وثانيًا تحقيق خاصية الانتشارية (التي تُسمى بالإنكليزية Viral)، باشتقاق من عالم الفيروسات.

في الحقبة التي كانت تنال المديح فيها، أزالت هذه الوسائل «الجديدة» الخط الذي يفصل الأخبار الخفيفة عن الجادة، إلا أن إسهامها الفعلي كان طمس الخط الفاصل بين الإعلانات والأخبار.

إلا أن تعريف مفردة الإنترنت يفسر جزءًا كبيرًا من هذه المأساة. إذ يعمل إنترنت اليوم بطريقة مختلفة عن إنترنت الماضي السحيق، ذاك الذي يعود إلى عقدٍ من الزمن. ففي نسخته القديمة، كان هذا المارد أشبه بطريق سريع تعبره مضامين ڤايس أو بازفيد، وتخطف أثناء عبوره ما تيسر لها من تفاعلات المشاهدين، ثم تغير كل ذلك.

بالطبع، اقتضى هذا النموذج بالمقام الأول مصدرًا للأرباح، والذي سيعتمد على الاشتراكات أو الإعلانات أو مزيجًا من الاثنين. لكن الرؤية التي بشرت بها تلك المواقع حينها، وكان أساسها الانتشار، لم تكن ستتماشى مع الاشتراكات وجدران الدفع. ولم لا؟ في تلك المرحلة، لم تكن غوغل أو ميتا (التي كانت فيسبوك في ذاك الوقت) تحكمان سيطرتهما على سوق الإعلانات بشكلٍ خانق، ما سمح للمواقع الجديدة بتحقيق رؤيتها، وفرض نفسها كلاعبٍ رئيسي حتى، كما حدث عندما دفعت فيسبوك لمواقع مثل بازفيد والنيويورك تايمز مقابل إنتاجها لمواد مصورة عبر تقنية البث المباشر أوائل ظهورها.

يمكننا أن نترك بقية القصة للأرقام، ففي عام 2010، جنت فيسبوك ما يقدر بـ1.8 مليار دولار من ريع الإعلانات. في عام 2020 قفز هذا الرقم إلى 86 مليارًا. إن هذا الاستحواذ لم يكن ليجري دون تغييرات تصل تأثيراتها إلى وسائل الإعلام، ولم يقتصر ذلك على مشاطرة المواقع الإخبارية هذا الريع، كما جرى عند تجربة فيسبوك ميزة التصفح الفوري للمقالات، بل امتد إلى خوارزميتها التي صارت تهتم بالمحتوى «الشخصي» وتعرضه للمستخدمين، وهو بكلمات أخرى المحتوى الذي لا يضم روابطًا خارجية تخاطر بنقل المستخدم بعيدًا عن مملكة ميتا، الأمر الذي شعرت وسائل الإعلام بثقله، وساهم في التحوّل نحو المحتوى المصوّر الذي أطاح بوظائف تحريرية عديدة في الوسائل ذاتها، قبل أن يثبت أنه حل مؤقت لمشكلة ليست دائمة فحسب، بل آخذة بالتطور.

تشبه هذه العلاقة، في جوهرها، الحكايات والقصص الشعبية، التي تُنقَل للأطفال بغية تحذيرهم من الثقة العمياء وتكون شخصياتها من الأفاعي أو الثعالب التي تنقلب على أصحابها أو من يحسنون إليها، وتحل محلها هذه المرة شركات التقانة التي دفعت وسائل الإعلام الرقمية ضريبة الثقة بها والتعامل معها كشريكٍ محتمل، فيما بات يعرف بـ«الإعلام الاجتماعي». إلا أن مزيدًا من البحث يقول إن المشكلة أكثر تجذرًا ولا ترتبط بأسماء معينة، مثل غوغل أو ميتا، بل بمنطق وادي السيليكون نفسه.

إجراءات غير اعتيادية لزمن غير اعتيادي

عندما ينخفض تقدير مؤسسة مثل ڤايس من عدة مليارات إلى مجرد مئات الملايين، فإن ذلك بلا شك يشير إلى خطبٍ ما، وبذلك فإن الانخفاض كاتجاه عام قد يكون مؤشرًا مفيدًا، لكن ماذا عن الأرقام نفسها؟ اتسمت علاقة وسائل الإعلام الرقمية برؤوس الأموال المُخاطِرة في وادي السيليكون بالتعقيد. فمن جهة، تُطرَح دائمًا الحجة القائلة إن ضخ الأموال هذا ساهم في تشجيع المنافسة والابتكار، إلا أنه في الوقت ذاته ترك آثارًا مثل التقديرات المضخمة والأرقام غير المنطقية وتقديرات الأرباح المتفائلة التي تتخبط المواقع أثناء محاولة تحقيقها لاحقًا، والتي يمكن الاستعانة بها لفهم النشأة الفجائية لغرفة أخبار بازفيد، بعدما كان الموقع قد بدأ باختبارات خفيفة وتحديات غريبة، وكيف انتهت الغرفة بالفجائية نفسها بدافع خفض النفقات لاحقًا رغم فوزها بعدة جوائز.

وبالعودة إلى المناخ الذي ساد حتى منتصف العقد الماضي، بدا أن رؤوس الأموال المخاطرة كانت تبحث في هذه المواقع عن فيسبوك الجديد، وتتوقع نموًا يوازي ذاك الذي تحظى به شركات التقانة الناشئة.

يجاهر البعض، أمثال شاين سميث، الرئيس التنفيذي وأحد مؤسسي ڤايس، بسبل النجاة التي كان على الشركة اتباعها ضمن ظرف كهذا، بل يفاخر أحيانًا المفاخرة باعتبارها جزءًا من هوية الموقع المنتمي لـ«الثقافة المضادة». ففي مقالةٍ منشورة في مجلة نيويورك منذ عام 2018، يشير ريفز وايدمان إلى الخدع التي كان يمارسها سميث لجذب المستثمرين، ابتداءً بتضخيم عدد زوار الموقع بطرق مشبوهة، وتغيير مقر الموقع إلى آخر أكثر فخامة في غضون أيام لعقد صفقة مع شركة إنتل، وانتهاءً بميزانيات غير واضحة وخططٍ تنشأ وتختفي في غضون أيام كلما تغيّر الظرف.

سيظل تهديد شركات التقانة جاثمًا وعرضة للتغير في أي لحظة، حاله حال الكثير من الأشياء الأخرى كالخوف من موجات التسريح واعتماد هذا الحقل المتزايد على الصحفيين «المستقلين» والذكاء الصناعي.

يلفت وايزمان النظر إلى أن الموقع الذي كانت بيئة عمله موضع تغطيةٍ لوسائل الإعلام الأخرى تأثر دومًا بالهزّات التي كانت تأتي على شكل شراكات تُلغى أو مستثمرين ينسحبون، إلا أنه يقول إن وسائل الإعلام القديم كانت لا تزال مبهورة بڤايس، وبأن سحره بالتالي قد يدوم لفترة أطول وهو ما جرى بالفعل، وانتهى اليوم.

يركز هذا النقاش على الوسائل نفسها، ورحلة صعودها ثم هبوطها، إلا أن هذا لا يلغي بأي حال ضرورة الالتفات إلى المضامين أيضًا. وبعيدًا عن أكوام صور القطط والمحتوى «الرائج»، يمكن ملاحظة الأثر الذي أحدثه اللاعبون الجدد. ففي الحقبة التي كانت تنال المديح فيها، أزالت هذه الوسائل «الجديدة» الخط الذي يفصل الأخبار الخفيفة عن الجادة، إلا أن إسهامها الفعلي كان طمس الخط الفاصل بين الإعلانات والأخبار.

بعيد تخرجه عام 1996، كتب جوناه بيريتي ورقةً بحثية بعنوان «الرأسمالية والشيزوفرينيا: الثقافة البصرية المعاصرة وتسريع تكوّن/ انحلال الهويات».  في هذه الورقة، حاول بيريتي مستعينًا بأعمال فلاسفة مثل لامان ودولوز وغوتاري، إثبات أن الرأسمالية المتأخرة لا تسرّع تدفق رأس المال وحسب، بل معدل تبنينا للهويات المرتبطة بحاجتنا للاستهلاك وتخلينا عنها. لم يكن بيريتي حينها رئيسًا تنفيذيًا، ولذلك فإنه لا يستبعد في مقاله أن التكتيكات ذاتها يمكن استغلالها من قبل الناشطين والمجموعات الثورية لبناء هويات جماعية، إلا أن ما سيبنيه لاحقًا كان معاكسًا لهذه الإمكانات الثورية المفترضة.

كان السعي وراء الأرباح عاملًا مهمًا في تثوير الريع الإعلاني وكيف يعمل. ومع أن مفاهيمًا مثل «صحافة العلامات التجارية» (Brand Journalism) أو «الإعلانات المدمجة» (Native advertising) سبقت الحقبة الرقمية ويمكن تتبع أثرها في وسائل أخرى، إلا أنها شهدت تطورات مهمة في الحقبة ذاتها. إذ طوّر بازفيد هذه الأفكار، مستبعدًا الإعلان الكلاسيكي -ذاك الذي يمكن لحدقة العين أن تميزه وتتجاهله بسهولة، فضلًا عن إمكانية حجبه- بآخر أكثر شخصيةً وقربًا من «المحتوى» الذي تركن عنده العين. وعبر مزيج من المحتوى والاختبارات المدعومة، حاولت بازفيد عبر عناوينٍ مثل «أي دمية باربي أقرب إليك؟» وغيرها، ربط الأسئلة والمفاهيم الشخصية عن الهوية بالعلامات التي تدعم هذه الاختبارات، ولهذا فمن المعقول أن تبدو ورقة بيريتي اليوم أشبه بمانيفستو.

ومع توظيف التقنيات والأدوات والصيغ الصحفية، كان الهدف هو تحقيق موثوقية وتأثير يشبه ذاك الذي ميّز حقل الصحافة سابقًا، وهو ما خلق سجالًا طويلًا حيال تصنيف المضامين هذه وإن كانت في الواقع صحافةً أم لا، وخطورتها باعتبارها لا تختلف في الشكل عن الإعلان التقليدي وحسب، بل تكون نقطة تميزها الرئيسية هي عمل «خبراء» الصحافة فيها لإعطائها الثقة.

وبينما استعملت وسائل الإعلام التقليدية في السابق هذا الميل للتشكيك بتلك الوسائل الجديدة، كان التأثير معاكسًا، ووجدت المؤسسات الراسخة نفسها أمام الإغراء ذاته، كما فعلت الواشنطن بوست في ميزة (Brand Connect) التي أتاحت للمعلنين نشر موادٍ مدعومة في قسم الرأي لديها، أو النيويورك تايمز التي كانت انتقدت بازفيد للسبب ذاته سابقًا. لهذه النقطة أهمية كبيرة، فهي تثير العديد من الأسئلة حول الغاية من وجود الصحافة والمعايير الأخلاقية التي يجب أن تحكمها، وتترك بعض الأمثلة عنها انطباعات تهدد الثقة بالصحافة، في زمنٍ  تنخفض فيه هذه الثقة أساسًا.

لا يعني ذلك أن هذه المواقع لم تقدم ما جعلها جديرة بالجوائز أو الامتياز. ففي حالة ڤايس، كانت فلسفة إرسال الطواقم إلى الأماكن التي «لا يجرؤ الإعلام على الاقتراب منها» فعالةً، حتى اقترن اسم ڤايس في مرحلةٍ ما بالتغطية المتعلقة بتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، وترافق ذلك مع تغطيات ووثائقيات نالت الاستحسان نفسه عن مواضيع أكثر ارتباطًا بالداخل الأمريكي. نجد الأمر نفسه في حالة بازفيد نيوز، الوحدة التي انحلت مؤخرًا، وعملت على مواضيع كظروف العمل داخل الولايات المتحدة الأمريكية والسجون في الصين. إلا أن منطق الإنتاج الذي ذكرناه طال هذه المحاولات أيضًا، لتختلط الجرأة بالمخاطرة التي تجذب المشاهدات، ولينطلق على إثرها لاعب كرة السلة السابق دينس رودمان في رحلةٍ «ديبلوماسية» لاكتشاف كوريا الشمالية برعاية ڤايس، مؤكدًا أن أكثر المواضيع جدية يمكن تطويعها لحصد بضع مشاهدات.

أي صورة تُرسَم اليوم؟

تجاوزت النيويورك تايمز، في عام 2022، الهدف الذي وضعته لنفسها بجذب عشرة ملايين مشترك. بالطبع، ستبدو هذه كأخبار سارة بالنسبة لكل من يرتبط بالمؤسسة، بينما سيتمكن البعض من قراءة هذا المشهد من زوايا مختلفة، كانتصار الإعلام التقليدي وهزيمة الدخلاء الجدد. إلا أن ما يجري اليوم لا يجب أن تتقبله أي من الأطراف بكثير من السرور، أيًا كانت جدتها أو طبيعتها. إذ إن تهديد شركات التقانة سيظل جاثمًا وعرضة للتغير في أي لحظة، حاله حال الكثير من الأشياء الأخرى، كالخوف من موجات التسريح واعتماد هذا الحقل المتزايد على الصحفيين «المستقلين» (Freelancers). وإن كان ثمة ما يمكن استشفافه من الحديث المبكر والسابق لأوانه عن الذكاء الصناعي وآثاره المحتملة، فسيكون مناخ التخوّف وقلة الثقة لدى العاملين من جهة، وقلة الحيلة التي تدفع المؤسسات لتوظيف هذا الذكاء كمفردة رنانة، قبل أن تكون تكنولوجيا حتى، كوسيلة لطمأنة المستثمرين وجذبهم.

يمكن من الحديث المبكر والسابق لأوانه عن الذكاء الصناعي وآثاره المحتملة استشفاف مناخ التخوّف وقلة الثقة لدى العاملين من جهة، وقلة الحيلة التي تدفع المؤسسات لتوظيف هذا الذكاء كمفردة رنانة لطمأنة المستثمرين وجذبهم.

ثمة إغراء يتعلق بالكتابة عن المراحل الزمنية المفصلية، وعن النهايات على وجه الخصوص. ومثلما قامت ثقافة اليوم على ما افترضته أنقاض المرحلة سابقة، وبشرت بنهاية مفاهيم مثل «حارس البوابة» واحتكار الاتصال، فإن توقع كتابات تبشر بمرحلة جديدة اليوم لن يكون بالأمر الصعب، إلا أن قراءة تطور الاتصال بهذه الطريقة أثبت سابقًا وقوعها في مشاكل يترأسها التفاؤل المفرط. ولذلك فإن أي محاولة للتنبؤ بمستقبل المهنة يجب أن تعيد إلى الواجهة الأسئلة الأهم عن الاقتصاد السياسي لهذا الحقل، باعتباره عاملًا من الجلي تأثيره في كل جوانب العمل، إن كانت الإدارية أو حتى تلك التي ترتبط بالمضمون ذاته واستقلاله.

تشهد الفترة ذاتها حضورًا لعدد من وسائل الإعلام المستقلة التي تعتمد بشكلٍ رئيسي على تمويلها من القراء أنفسهم بوصفهم الرهان الرئيسي، وقد تكون هذه النقطة أهم ما غاب عن نماذج بازفيد وڤايس وغاوكر، التي جرّدت هؤلاء إلى مجرد عيونٍ تلهث وراء المحتوى الرائج. ورغم تعدد البدائل، إن صحت تسميتها كذلك حتى، صار من الواضح أن بعض المخاطر الجديدة سيصعب الالتفاف حولها.

ربما تبدو هذه الأخبار غير جديرة بالاهتمام نفسه للوهلة الأولى في منطقتنا. فمن جهة، قد لا تكون استثمارات هذا النوع من رؤوس الأموال في الإعلام حاضرة بالقوة ذاتها، وباستثناء نقاط مثل إصدار ڤايس باللغة العربية، يمكن أن تبدو المسألة بعيدة كل البعد عن المشهد الإعلامي في منطقتنا ومشاكله الأكثر تأثيرًا كغياب الاستقلالية عن الشقين العام والخاص، وحواجز الرقابة. إلا أن هذه الأسباب نفسها، والفشل الراهن لنماذج العمل التي كانت حتى وقت قريب مصادر للإلهام، تؤكد أهمية البحث عن بدائل وإجابات جديدة، وهي إجابات لن تتكشف دفعةً واحدة وأمامها طريق طويل لتصل إلى تحقيق التوازن بين عناصرٍ كالاستمرارية والاستقرار والرصانة والوصولية للجمهور.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية