الجرائم الإلكترونية: إخضاع النقاش العام بالقانون

الأربعاء 02 آب 2023
مظاهرة أمام الجامع الحسيني احتجاجًا على قانون الجرائم الإلكترونية. تصوير مؤمن ملكاوي.

لفهم أوضح للنقاش الحالي حول قانون «الجرائم الإلكترونية»، لنلق نظرة سريعة إلى الوراء؛ فحتى عام 2010 لم يكن محتوى النشر الإلكتروني عمومًا، بما في ذلك ما تنشره المواقع الإلكترونية الإخبارية، خاضعًا لأي قانون. وفي منتصف ذلك العام (2010)، أصدرت محكمة التمييز قرارًا قضائيًا بإخضاع المواقع الإلكترونية لقانون المطبوعات والنشر، ثم لجأت دائرة المطبوعات لاحقًا إلى الاستعانة بديوان التشريع الذي أفتى بشمول ما تنشره المواقع الإلكترونية بمواد قانون المطبوعات.

حينها، استدعى الأمر إخضاع المواقع الإلكترونية لبعض المتطلبات، من بينها التقدم للترخيص وتلبية بعض الشروط، وسمي الموقع الإلكتروني في نصوص القانون «مطبوعة إلكترونية». وقد دار وقتها نقاش حاد، لا سيما وأن عدد المواقع لم يكن محصورًا وتجاوز المئات ولم يكن النشاط فيها مقصورًا على العاملين في الإعلام والسياسة والثقافة، وخيضت معركة طويلة مع النشر الإلكتروني، واحتاج الأمر إلى خمس سنوات تالية حتى يصدر أول قانون للجرائم الإلكترونية حمل رقم 27 لسنة 2015.

بشكل مؤقت، ولمحاولة تجاوز بعض شروط النشر، لجأت المواقع المرخصة إلى اعتماد «تعليقات» القراء والمتصفحين بهدف تمرير ما لا تستطيع تمريره في المادة الأصلية التي أصبحت خاضعة للرقابة، فأصدرت الحكومة فورًا ما يفيد باعتبار التعليق جزءًا من مسؤولية الموقع، وهو ما قاد فورًا إلى تقليص نشر التعليقات تدريجيًا ابتداء من عام 2016 ثم التوقف عنها.

إلى ذلك الحين، لم تكن شبكات التواصل الاجتماعي -التي ابتدأت بمنصة «فيسبوك» عام 2004 في أمريكا وانتشرت بسرعة-، إلا مجرد مساحات شخصية اجتماعية، ولم تكن تعد جزءًا من المحتوى الإعلامي، كما لم تكن خاضعة للمتابعة والمراقبة. 

ولكن «فيسبوك» وغيرها من المنصات كانت تتطور وتتكاثر بسرعة هائلة، وانتقلت في زمن قصير من المحتوى الاجتماعي إلى المحتوى الإعلامي، فأسرعت كل المواقع الإلكترونية الإخبارية والخاصة باللجوء إلى منصات التواصل، لنشر وترويج المواد الإعلامية بصورة أكثر حرية وبعيدًا عن الرقابة.

وبتسارع أكثر، لم يعد الإعلام والمحتوى الإعلامي مقتصرًا على محترفي المهنة، أي الصحفيين، وأصبح سوق النشر الإعلامي مفتوحًا بالكامل، وكان ذلك هدفًا معلنًا لمطوري شبكات التواصل، فهي تخدم المساواة والانفتاح وتقلص من قدرة السلطات وأصحاب النفوذ المالي على السيطرة على المنتج الإعلامي عمومًا، وفي شتى المجالات.

كانت السلطات تلهث راكضة وراء هذه التطورات التي لا تتوقف، فتسد «ثغرة» هنا لتظهر لها ثغرات جديدة في مناطق أخرى.

في الحالة الأردنية وغيرها، حاولت السلطات والمؤسسات والأجهزة المختلفة الدخول إلى المنافسة في إعلام التواصل الاجتماعي، فاستخدمت فرقًا مختصة وخبراء في التواصل ليشرفوا على صفحات وحسابات منافسة، أو للرد على ما ينشره الآخرون، بل وطولب المسؤولون بأن يتفاعلوا مباشرة وعن طريق حسابات شخصية لكل منهم، ولبعض الوقت سادت فكرة عامة تقول إن منصة «تويتر» مناسبة أكثر للشخصيات القيادية الكبرى، فانسحب المسؤولون نحوها تاركين «فيسبوك» للعامة! ثم أنشأت الحكومة منصات متخصصة للرد وتصحيح ما ينشر، إلى جانب تشجيع وتمويل منصات تصحيح قامت بمبادرات خاصة أو شبه خاصة.

بدا واضحًا أن المعركة الرسمية مع الجمهور في ساحة التواصل الاجتماعي الإعلامي خاسرة، وأن لا مجال للمنافسة، وبقيت الصفحات والحسابات الرسمية فقيرة بحجم المتابعة مقارنة بصفحات النشطاء الذين سرعان ما حازوا على لقب «المؤثرين»، فيما لم تنشأ ظاهرة المسؤول المؤثر أو المؤسسة المؤثرة أو الوزارة المؤثرة.

علينا هنا أن نتذكر أن هذا النقاش لم يكن محليًا فقط، فما يحصل في الأردن هو حصتنا من هذا النقاش الذي سرعان ما اكتسب مواصفاته المحلية الخاصة بما يتناسب مع محتوى وشكل إدارة النقاش العام المعتمد في البلد.

بدا واضحًا أن المعركة الرسمية مع الجمهور في ساحة التواصل الاجتماعي الإعلامي خاسرة، وأن لا مجال للمنافسة، وبقيت الصفحات والحسابات الرسمية فقيرة بحجم المتابعة مقارنة بصفحات النشطاء.

من الطبيعي أن يتأثر مجمل النقاش بالحالة السياسية العامة، فقد شعرت السلطات أن مدى سيطرتها على المزاج العام يتقلص، وأن حصتها في صناعة الرأي العام تتراجع. غير أنها ومع اعترافها بوجود أزمة كبيرة متشعبة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ظلت تعتبر المعركة الإعلامية أساسية وحمّلت جزءًا كبيرًا من المسؤولية لما تراه «فلتانًا إعلاميًا».

أبرزت الحكومة عنوانين لمعركتها الجديدة الحالية: الأول سياسي يتحدث عن «استهداف الأردن عبر مئات ألوف الحسابات الوهمية التي تشارك في حملات معادية، والثاني هو العنوان المالي، حيث تستحوذ شبكات التواصل على أكثر من 100 مليون دولار سنويًا تخرجها من السوق الأردني، فيما لا تتحصل وسائل الإعلام المحلية على نصف ذلك المبلغ.

لا يقتصر الموقف الحكومي هذا على الأشهر الأخيرة، فقبل سنتين أعلن وزير الاتصال الحكومي عن ظاهرة ارتفاع اعداد الحسابات الوهمية  المدعومة من دول ومنظمات، وقال إنها تسيطر على 20% من المحتوى المعروض على الإنترنت. وصرح رئيس المركز الوطني للأمن السيبراني، إن دولًا ومجموعات تدعمها دول تقف خلف محاولات استهداف الأردن عبر هجمات سيبرانية.

في الأشهر الأخيرة، بدأ النشاط الرسمي في هذا المجال حاضرًا على المستوى العربي، وحَمَلت الحكومة الأردنية مشروعها نحو اللقاءات العربية، بعد أن أخذ المشروع ينتظم في مفاهيم أكثر تحديدًا، فصار الكلام يجري عن «قوننة الرقمنة» وعن ضبط «الهيمنة الرقمية» التي تحتكرها عدة دول، وعن ضرورة إيجاد بيئة آمنة توازن ما بين «حرية الرأي وبيئة رقمية آمنة». 

لعل هذا يعني أن الحكومة ترى أن بمقدورها إخضاع النشر الإلكتروني لأدوات الضبط التقليدية. وفي صيغة مشروع القانون المقترحة، حاولت الحكومة أن تضع نصوصًا «طويلة الأمد» بحيث تحتمل أي تطورات منتظرة أو متوقعة على وسائل النشر الإلكتروني.

واقع الأمر أن هناك تجارب في الضبط والرقابة أعتمدت وطُورت ومورست فعليًا في بعض الدول، ويستند إليها الموقف الرسمي الأردني. فهو يسعى إلى علاقة ملموسة مباشرة مع إدارات شبكات التواصل، التي يتعين عليها وفق القانون المقترح أن تنشئ مكاتب مسؤولة يمكن التواصل معها وعقد الاتفاقيات وتقديم الشكاوى وتنفيذ العقوبات. وهنا يتعين الانتباه إلى تجربة ملموسة مع شبكة «تيك توك» التي حُجبت منذ أشهر، وتجري المفاوضات بين المنصة والحكومة حول ضبط المحتوى المسموح به في الأردن.

يستند هذا الموقف الرسمي، وعن حق نسبيًا، إلى فهم أن شبكات التواصل هي في المحصلة شركات تجارية ربحية، وأنها بالتالي ينبغي أن تخضع لما تخضع له النشاطات المماثلة. والواقع أن هذه الشبكات (الشركات) خلال عمرها القصير، أظهرت استجابة تجارية حينًا وسياسية أحيانًا لمتطلبات بعض الدول والأطراف. 

في محاولة تنظيم هذه العلاقة، وضعت معايير وشروط للنشر تقوم بضبط الحسابات، ويجادل كثيرون بأن هذه المعايير مسيسة إلى درجة كبيرة، أو مرنة تجاه المصالح التجارية للشركات، التي تقوم بتطوير تقنيات التحكم بالنشر أو حجب النشر في منطاق جغرافية معينة أو مواضيع معينة. وقد أبدت الشركات استعدادها للتغاضي عن هدفها المعلن في «تمكين عامة الناس من أدوات الفعل التواصلي الإعلامي الذي كان محتكًرا عند فئة تمسك بمقاليد الثروة والسلطة».

غير أن الجمهور، المعني على الأقل، في الأردن، يستحضر بالمقابل تجربة ملموسة مع القوانين المماثلة، فحتى قانون المطبوعات والنشر، ورغم أنه مستند إلى ممارسات وتقاليد عمرها عشرات السنوات، وأغلبها عابر للدول والثقافات، إلا أنه كان عرضة لتفسير النصوص بشكل يضيق أو يتسع وفق الحالة، أي أنه كان يمارس بشكل انتقائي ويخضع للتسيييس.

علينا أن نوسع قليلًا زاوية النظر، فالسلطة التي تقدمت مؤخرًا بمشاريع تتعلق بالتحديث السياسي والاقتصادي والإداري، تسعى إلى ضبط النقاش العام، أي التحكم بالرأي العام والمزاج العام بما يخدم برامجها. إن الرأي العام والمزاج العام سوف يتحكمان أو على الأقل يؤثران كثيرًا على الأداء العام، بينما تريد السلطة ممارسة سيطرتها الكاملة بما تشتمل عليه من عقوبات و«قمع»، بشكل محمي ومحصن قانونيًا.

من الملاحظ لغاية الآن، أن أنشطة معارضة مشروع القانون تكاد تكون مقتصرة على أوساط نخبة الإعلاميين والنشطاء السياسيين، ظهر ذلك في الوقفات والمسيرات الاحتجاجية التي بدت محدودة المشاركة. في الواقع إن طرح الأمر بصفته يتعلق بمسألة «حرية التعبير» يجعل الاهتمام مقتصرًا على «النخبة»، ذلك أن مطلب حرية التعبير ليس مطلبًا شعبيًا واضحًا، فما يشغل أغلب الفئات الشعبية هو معاناتها أكثر من مجرد «التعبير» عن هذه المعاناة.

في خلفية مشهد النقاش حول الجرائم الإلكترونية، يكمن نقاش آخر، هو في الواقع صراع اجتماعي أعمق. إن السياسات العامة هي سياسات ذات بعد اجتماعي، أي أنها تنطوي على تحيزات (بمعنى هناك مستفيدون ومتضررون)، وهذا يستتبع الاختلاف في الرؤى والمواقف، ويسحب النقاش إلى ميدان المجتمع والسياسة.

في معرض نقاشه مع المعترضين على القانون الجديد، قال وزير الإعلام: «إن ما هو مجَرّم في الواقع، مجَرّم في العالم الافتراضي». لكن السؤال يبقى مطروحًا حول ما إذا كانت مواجهة العالم الافتراضي تغني عن مواجهة العالم الواقعي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية