أدراج عمّان شرايين جبالها: حضور أدراج المدينة في الأدب الأردني

درج سرور الواصل بين جبل الأشرفية وقاع المدينة كما يظهر من جبل عمّان. تصوير محمد المصري.

أدراج عمّان شرايين جبالها: حضور أدراج المدينة في الأدب الأردني

الخميس 06 أيار 2021

ترسم الأدراج القديمة في عمّان ملامح الرحلة اليومية التي دَرَج سكّان المدينة عليها من جبال المدينة إلى انحداراتها السحيقة، صعودًا ونزولًا، بعد أن أخذت شوارع المدينة وأزقّتها بالتشكّل في أواسط عشرينيات القرن الماضي.[1] أوضح المؤرخ والباحث الأردني عمر العرموطي في إحدى محاضراته أهمية هذه الأدراج باعتبارها جزءًا من تراث العاصمة وتاريخها، حيث ظلّت شاهدة على تاريخ العائلات التي سكنت بجوارها، فسُمّيت بأسمائها،[2]  مثل «درج الكلحة»، و«درج عصفور»، و«درج منكو»، و«درج البلبيسي»، و«درج جويبر»، وغيرها.

وقد تحوّلت بعض أدراج عمّان في السنوات الأخيرة من مجرّد وسيلة تنقّل مجّانية، ابتدعها سكّان عمّان القديمة لتعينهم على الصعود والهبوط، في وقت كانت فيه وسائل النقل العامة شحيحة، إلى منصّات تراثية وفنيّة، تجذب جدارياتها زوّار المدينة وسيّاحها، لا سيّما بعد أن انطلقت عدة مبادرات تطوعية لتلوين الأدراج وتزيينها.[3]

ورغم جهود أمانة عمّان في ترميم  تلك الأدراج وإصلاحها، ظلّ بعضها مُهمَلًا وفي حالة حرجة، مثل الأدراج في منطقة وادي الحدادة، ووادي سرور، وجبل الأشرفية، وجبل التاج، وجبل الجوفة. وإذا ما صرفنا النظر عن اهترائها وتكسّر حوافها، فإنّ جزءًا من جماليتها كامن في تفاصيلها المتروكة على سجيتها، لأنّها تُذكِّر ببساطة الأحياء القديمة في مدينة عمّان وعفويتها، جمالية قد يغفل عنها أولئك الصاعدون بلهاثهم، أو الهابطون بحذر خشية الانزلاق.

درج عصفور الواصل بين شارع معاذ بن جبل وشارع يوسف عصفور، في جبل عمان. تصوير محمد المصري.

تتفاوت أدراج عمّان في طولها وعرضها، في ضيقها واتّساعها، وتتميّز أدراج الأزقّة الضيّقة المحاذية للبيوت السكنية برائحة مميزة، إذ تختلط روائح الرطوبة المنبعثة من الجدران بعطر النباتات المنزلية المزروعة بالعلب المعدنية أو البلاستيكية، وتتداخل كلّها مجتمعةً مع أبخرة الطّبخ والقلي النافذة من شبابيك المطابخ، ومن الشرفات الواطئة والأسطح القريبة تتسلّل إلى الدرج رائحة الملابس المغسولة، وتفوح روائح الصابون والمُنظّفات الأرضية من المياه المتسرّبة من العتبات. يسمع المارّون على هذه الأدراج أصوات قاطني البيوت، ويسمع من هم داخلها صدى خطوات المارّين وأطراف أحاديثهم، لتظلّ هذه الأدراج شرايين تتدفّق الحياة عبرها نحو من يسكنون جبال المدينة.

أحد الأدراج في منطقة جبل عمّان، يصل بين نهاية شارع الرينبو وشارع خرفان. تصوير محمد المصري.

ولأنها تشغل ذلك الحيّز الفاصل بين البيوت والأزقّة، بين قاع المدينة وجبالها، أضاءها الكُتّاب بذكريات الزمن الجميل، فكلّما صعد الحنين أو نزل على درجات الذاكرة، نُلفيها حاضرة فيما كتبوه من شعر ويوميّات وسِيَر. كما استحضرها بعض الروائيين وكتّاب القصة القصيرة عبر التوظيف المكاني في الأعمال السردية، فجعلوا منها مكانًا حميمًا لالتقاء عاشقيْن، أو محطة تتّكىء الشخصيات على جدرانها، وتستريح بصمت فوق عتباتها.

حارسة ذكريات الطفولة، وصديقة الطريق إلى المدرسة

ظلّت أدراج عمّان القديمة حافلةً بذكريات الطلاب والطالبات، وحكايات العشق الأولى، ولحظات الشّغب والتلكّؤ في طريق الذهاب إلى المدرسة والعودة إلى البيت، وما انفكّت درابزيناتها الصدئة وجدرانها الرطبة تحرس أحلام طفولتهم من خطر التعثّر المفاجىء. وفي الوقت الذي كان على الطلاب والطالبات أن يقطعوا مسافات طويلة ليبلغوا مدارسهم، كانت هذه الأدراج طريقًا مختصرًا أحيانًا، وإجباريًا في أحيان أخرى.

يذكر عبد الرحمن منيف في كتابه «سيرة مدينة: عمّان في الأربعينات»، الصادر عام 2006، رحلة التلاميذ الصعبة على الأدراج إلى «مدرسة العبدلية» في منطقة جبل عمّان، خاصة في موسم الأمطار، حينما كان يفيض «النهر» في عمّان، وتصبح الحركة على الأدراج مع  تدفّق المياه شبه مستحيلة:

«(..) الطريق النازل من جبل عمّان، والذي عُبّد في وقت مبكر، وكانت مياه الشتاء تطفو على وجهه كلوح من البّلور، إذ تُحسّ ولا تُرى، أصبح مجنونًا وهو يستقبل مياه الجبل، ثم المياه الساقطة نحوه من نزلة الجقّة، ثم درج القيادة (..) كانت المياه عكرة سريعة، وبعد أن تقطع المسافة لتصل إلى التقاطع مع طريق السلط، ويكون قد جاء نهر آخر، أكبر من هذا النهر، فعندئذ لا يمكن الاستمرار في السير أو الخوض في المياه. فإذا تم الوصول إلى مكتبة الصفدي، مقابل البريد، فلا بد من اختيار إحدى الطريقين: إمّا تسلّق الدرج رغم المياه المتدفّقة، أو المجازفة قليلًا والوصول إلى طلعة العموري، والاتجاه نحو الجبل».[4]

درج الاستقلال في شارع الأمير محمد، مقابل مبنى البريد المركزي، وسط المدينة. تصوير محمد المصري.

تذكر الدكتورة عايدة النجار في سيرتها الأدبية «بنات عمّان أيام زمان» الصادرة عام 2009 عددًا من الأدراج القديمة، مثل «درج اللويبدة» الطويل قرب معمل الثلج في شارع السلط، و«درج منكو» الواقع في «سوق منكو» في وسط البلد، حيث ظلّ الأقرب إلى قلبها، و«صديقًا» لقدميها في طريقها إلى «مدرسة أروى». تصف النجار رحلة البنات على «الأدراج المتعبة» في الطريق إلى المدرسة، قائلة:

«لم تنسَ البنات أبدًا تلك الأدرج، وبشكل خاص ذلك الدرج الطويل الذي يبدو واقفًا لا يتعب بينما كن يتعبن وهنّ يتسلّقنه من شارع المهاجرين للوصول إلى مدرسة أروى بنت الحارث في شارع خرفان، وكانت الرحلة اليومية طلوعًا ونزولًا إجبارية لمن كان يسكن في رأس العين».[5]

في كتاب «ذكريات عمّان أيام زمان»، الصادر عام 2011، يتحدّث الباحث غالب أبو صالحة عن طريق الأدراج المُتعبة التي كان يسلكها من بيته في «شارع الأشرفية» المُلقّب بـ«شارع الطّلياني»[6] للذهاب إلى «مدرسة الأهلية والمطران» في منطقة جبل «عمّان» في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. ويذكر أبو صالحة صعوده اليومي على «درج الزعامطة» الطويل الذي سُمّي بهذا الاسم نسبة إلى عائلات «الزعمط» التي جاءت من السّلط، واستقرّت معظمها في بيوت على امتداد الدرج الواصل بين «شارع الملك طلال» و«شارع خرفان» في منطقة جبل عمّان.

درج الزّعامطة الذي يربط شارع الملك طلال بشارع خرفان، في جبل عمّان. تصوير محمد المصري.

يشغل «درج الزعامطة» كذلك مكانةً خاصّة عند الكاتب إلياس فركوح، إذ يظهر جليًا في إحدى المشاهد العمّانية التي تزخر بها رواية «أرض اليمبوس» الصادرة عام 2008. ومن نسيج خياله الطفولي، يصوّر فركوح الأدراج في مشهد عمّاني أخّاذ، وهو يتذكّر البنت التي أحبها صغيرًا:

«دخَلتِ علينا مساءَ اليوم الثالث لعيد الفصح، وكنتُ في رُكنٍ ألوك مَللي. سطعَ حضورُكِ في عيني كوهَج مدفأة الغاز وسط الحجرة، وتضَبَّبَ مَن كنتِ معه (..) وأذكر أُمك الممرضة أيضًا. كانت هي الـ«نيرس» مَن دخلَ علينا وأنتِ إلى جانبها. لم تتخلّفي عنها خطوةً واحدة، كما عادتكِ على يمينها، أطول مما اعتدتُ رؤيتك حين كنتِ تتبعينها وتتقافزين خلفها، بينما تهبطان «دَرَجَ الزعامطة» إلى شارع الملك طلال. أنتِ من بيتكم في حي «الملفوف» إلى غرفتيْ مدرسة روز السحّار. وأُمكِ إلى «السبيطار التلياني»! وأنا أقف أراقبكما عند باب بيتنا، متطلعًا للأعلى: للسفح المنحدر بكما، بمليون دَرَجة، بين أسطُح الدكاكين المعمّرة لأجزاء منه، والمصطفة على الرصيف المقابل. لم تكن عمّان قد تغَرَّبَتْ وغادرَت التلال المحيطة بوسط البلَد. كُلُّ عمّان تَصُبُّ ناسَها إلى صَحنها صباحًا، نازلةً بهم سلالمها الإسمنتيّة، طازجين دافئين، كحلاوة السَّميد الساخنة التى تعدّها أمي، أو عَمّتي، بالسمن البلقاوي. وكُلُّ عمّان تُجْليهم عن صَحنها مساءً، ساحبةً إيّاهم على سلالمها، يلهثون مرتخين، كآخر الخيط من «دَرْزة» أبي الخيّاط في طَقمٍ أنهى تفصيله لسيدة من «السِتات الكُبار»!».[7]

يبيّن فركوح أهمّية الأدراج في عمّان القديمة قبل أن تتوسّع مبتعدة عن وسط المدينة، ويخلق مشهدًا طفوليًا لذيذًا يتداخل فيه منظر العمّانييّن الهابطين على الأدراج الإسمنتية إلى «صحن المدينة» مع «حلاوة السميد» التي تسكبها أمّه أو عمّته في الصحن. بينما تحيي عملية الصعود المتعبة على الأدراج في ذاكرته مشهد أبيه الخيّاط وهو يقطع آخر خيط في القماش الذي يحيكه على آلة الخياطة، ليحاكي بذلك التقاط الصاعدين على الأدراج لآخر أنفاسهم.

هناك، «للأعلى: للسفح المنحدر، بمليون درجة»، كان فركوح يتطلّع صغيرًا، مُستشعرًا ما رآه روح عمّان الأصيلة، قبل أن تتغرّب، وتغادر «صحنها».

روح عمّان مُعلَّقة بأدراجها

يأتي توظيف بعض الكُتّاب للمكان العمّاني استكمالًا للعناصر الأدبية الرئيسية في الأعمال الروائية والقصصية، ولذا قد يظهر المكان مُسطّحًا أو مُغيّبًا أحيانًا، أي مجرّد خلفية لأحداث أكثر أهمية. ولكن، عندما يوغل الكُتّاب في شوارع عمّان وأزقّتها وأدراجها رغبةً في إحياء مشاهد وذكريات شخصية، أو استجابةً لرغبات مؤجّلة في التصالح مع المدينة وإعادة اكتشاف العلاقة التي تربطهم بها، يُسبغ المكان أهميته على الحدث حينها، حدًا يتماهى فيه مع مشاعر الشخصيات وصراعاتها اليومية.

تشرح الكاتبة الأردنية سميحة خريس كيف أعادت اكتشاف علاقتها الخفيّة مع مدينة عمّان من خلال إحدى الشخصيات في روايتها  «شجرة الفهود- تقاسيم العشق» الصادرة عام 2002، وتحديدًا عبر تلك اللحظة المفصلية عندما تقف الشخصية عند أعلى درجة في جبل اللويبدة مُفصحةً عن علاقتها مع المدينة:

«إنّه عشق لم أعبّر عنه بما يكفي، نائم في المكان الخفي من الذاكرة، في روايتي «شجرة الفهود – تقاسيم العشق»، عرّجت عليه مرورًا مُبتسرًا، عبر الرمز الخفيّ، الحاذق لطعم البرتقال الحامض الحلو، شكله الكروي، لونه الجريء، عنوان فاقع لمحبة خفية، عندما وقفت الطفلة في أعلى درجة في جبل اللويبدة تتأمل كيسًا ورقيًا يتمزّق عن البرتقال، وتتواثب حبّاته وصولًا إلى العبدلي، كأنها الأقمار، في تلك اللحظة. تقول الريفية الصغيرة التي تخلصت من غربة المدينة: «لقد وقعت في حب عمان». لعلّي مثلها، تجاهلت محبتي لعمان طويلًا، كأنها كنز مخبوء، برتقالة مؤجلة، لم تتمكن الإشارات من إعطاء نفسها كاملة ذاك الزمان، ولكنها اليوم تمردت على النفي وتوهجت (..)».[8]

أحد الأدراج في جبل اللويبدة، يصل بين شارع محمد علي السّعدي وشارع محمد إقبال. تصوير محمد المصري.

يتكوّر عشق خريس الخفي لمدينة عمّان، كما حبّات البرتقال «الحامض الحلو»، عند أحد أدراج جبل اللويبدة نزولًا إلى العبدلي، في مشهد يحاكي علاقة العمّانيين مع المدينة، وكيف تتبلور عبر الهبوط المتكرّر على أدراجها. كأنّ خريس أدركت روح المدينة من خلال شخصية البنت الريفية، في لحظة تخلّصها المفاجىء من الشعور بالغربة، وبتلقائية حبّات البرتقال التي وقعت على الدرج، استسلمت للذّة الوقوع في حبّ عمّان.

في رواية «حارس المدينة الضائعة» عام  1998، يرصد الكاتب إبراهيم نصر الله تحوّلات عمّان على عتبات الألفية الجديدة، عبر بطل الرواية «سعيد» الذي يجوب شوارع عمّان الفارغة بحثًا عن سكّانها الضائعين. وبأسلوب كابوسي ساخر، يظلّ حضور سكّان المدينة مشابهًا لغيابهم، فيما يتفاقم الصراع بين ذكريات البطل الأثيرة في عمّان القديمة ومحاولات التعايش مع موجات الحداثة المتسارعة فيها. ينعكس هذا الصراع، على سبيل المثال، من خلال تأمّل «سعيد» لأحد أدراج عمّان القديمة، وهو «درج المحكمة» الواصل بين «شارع الملك حسين»، المعروف قديمًا باسم «شارع السلط»، في وسط المدينة، ومنطقة جبل القلعة:

«تأمّل الدرج الذي صعده مئات المرات، الدرج المحاذي لمبنى المحكمة فرآه على غير ما رآه وعرفه وخبره، (مُهرتمًا) كان، تكسّرت حواف درجاته، فبدا كعجوز فقدت نصف أسنانها.
كم من صولات وجولات شهدها هذا الدرج العتيق؟!».[9]


وخلافًا للمرات الكثيرة التي صعد فيها «سعيد» هذا الدرج، ينذر الانتباه المُفاجىء لتآكل الدرج وتكسّر حوافه بالتغيير الذي يجترح حياته دون أن يشعر، وإحساسه بالاغتراب عن عناصر المكان التي ألفها وتعايش معها طويلًا.  وبأسلوب كوميدي ساخر، يكشف نصر الله كيف كان «سعيد» يستخدم هذا الدرج لأغراضه واستنتاجاته الخاصة، حيث كان يلاحق الصبايا، ليختبر قدرتهنّ على الاحتمال وهنّ يصعدن الدرج الطويل، فيترك من أخذت تلهث في منتصف الدرج، أو «استندت إلى أحد جانبيه أو جلست تستريح»، مستندًا إلى حكمته القائلة إنّ «فتاة لا تستطيع صعود درجات قليلة بيسر، لا تستطيع أن تقطع مشوار العمر معي»، ولكنه لا يخفي إعجابه بكل واحدة منهنّ بصرف النظر عن «طول نفسها أو قصره»، لأنّ الصعود على الدرج المُتعب بدلًا من دفع أجرة السرفيس يدلّ على أنّهن، كما كانت تقول والدته، «مُدبّرات، أي قادرات على تدبير أمور حياتهنّ».

في رواية مجدي دعيبس «حكايات الدرج» الصادرة عام 2019، تربط أدراج منطقة جبل الأشرفية حكايات سكّان الجبل ببعضهم، فهي ليست مجرّد مرافق مشتركة يقصدونها للصعود إلى بيوتهم، أو الهبوط إلى قاع المدينة، بل حيّزًا يتّسع -على ضيقه- للثرثرة واللعب، وتبادل نظرات الإعجاب الخجولة بين المراهقين، ونقطة تقاطع أحزانهم ومصائرهم البائسة. تفصح «هبة» إحدى شخصيّات الرواية عن مشاعرها المتضاربة إزاء الجبل وأدراجه، قائلة:

«متى تحين الساعة التي أغادر فيها هذا الجبل إلى غير رجعة؟ لا أعرف السبب الذي دعا الناس لامتطاء سفوح الجبال المُتعبة عوض التوجّه إلى المناطق الأكثر انقيادًا! قد يكون الماء هو السبب. أرادوا البقاء على مقربة من رأس العين، فأنشأوا هذه التجمّعات السكانية المكتظّة. كانت الأدراج بمثابة الحلّ السحري الذي يحلّ مكان الشوارع عند صعوبة الانحدار. عمّان القديمة هي مدينة الأدراج بامتياز، لأنها نشأت على سفوح التلال المحيطة بمسير السيل. أدراج عريضة وبيوت قديمة متهالكة يشتمّ من يصعد أو ينزل الدرج رطوبة جدرانها، لكن بعد حين أصبحت هذه الرائحة أمرًا مألوفًا اعتاده الناس حولهم ولم يشعروا بوجودها. لكنني أفعل رغم أنني لا أتعمّد ذلك (..) ربما أبالغ بمذهبي هذا لكنّني أشعر أنّ روح المدينة معلّقة بأدراجها؛ فهي التي شهدت الولادة الأولى وتلقّفت الشمس عند بزوغها».[10]

درج أبو درويش في حيّ الأرمن، جبل الأشرفية. تصوير محمد المصري.

يشير تآلف سكّان الجبل مع رائحة الأدراج الرطبة وحوافها المتهالكة إلى استسلامهم للواقع المطبق عليهم. أمّا إدراك «هبة» لهذه الرائحة، حتى دون أن تتعمّد، فينبع من إحساسها بالاغتراب عن أهل الجبل، ومعارضتها لأفكارهم التي تعيق حريتها. لكن، تظلّ هذه الأدراج القديمة خيوطًا خفية تربطها بروح المكان، مهما اشتدّت رغبتها في هجرانه.

في مقالة بعنوان «عري الكتابة»، يتحدّث القاصّ الأردني خليل قنديل عن سطوة الأماكن والمشاهد العمّانية على مخيّلته، بعد أن «تقتنصها» عيناه من سياقات يومية، ولا تبرحه حتى بعد كتابتها. يذكر قنديل قصّته مع أحد أدراج عمّان الذي وظّفه في قصّة «عنقود عنب»، في مجموعته القصصية «سيّدة الأعشاب»، عام 2008، قائلًا:

«قبل أيام، كنت أهبط درجًا عمّانيًا يوصل بين جبل الحسين ومنطقة العبدلي، وفيما أنا في وسط المسافة الدرجية هذه، توقفت وتلفت حولي وشهقت. كان هذا هو الدرج الذي جعلت علياء بدر بطلة قصتي «عنقود عنب» تصعده للمرة الأخيرة، وهي تودع حبيبها الصبي الميكانيكي الذاهب في هجرة إلى كندا، بعد أن أخذت منه قميصه المنقع بزيوت السيارات، كي تظل تتنشق رائحته. ولا أدري لماذا أصابتني قشعريرة، وأنا أهبط الدرج متجهًا صوب محل الصبي الميكانيكي الذي ما زال على رأس عمله، من دون علياء بدر ومن دون عنقود عنبها الذي تحول إلى قصة».[11]

ومثل علامة «عنقود العنب» المحفورة على خاصرة الصبي الميكانيكي؛ العلامة ذاتها التي يحملها طفل «علياء» عند ولادته، يظلّ هذا الدرج العمّاني علامة محفورة في مخيال الكاتب، مُحتفظًا بحكايات من مرّوا عليه، وإن كانوا شخوصًا من ورق.

أمّا في قصائد الشاعر حيدر محمود، تحضر الأدراج بمثابة موتيف أو دالّة[12] شاعرية ساحرة، تميّز طبوغرافية المدينة، وتمنحها طابعًا جماليًا خاصًا بها. إذ يسترسل حيدر في وصف أدراج عمّان في إحدى قصائده، قائلًا:

«أدراجُ عمّانَ النازلةُ من جِبالها،
إلى قاعِ المدينة.
أو الصاعدةُ إليها
تُشبهُ ربطاتِ العُنقِ الانيقة
على قمصانٍ شديدةِ البياض».[13]

درج الكلحة الذي يصل شارع الملك حسين في وسط المدينة بجبل اللويبدة. تصوير محمد المصري.

كما يجسّد حيدر أحد أشهر أدراج عمّان، وهو «درج الكلحة» الواصل بين وسط المدينة ومنطقة جبل اللويبدة، ويبادله أطراف الحديث كأنه صديق قديم. يُعاتبه الدرج على طول الغياب، ويشكو له انزعاجه من اغتراب المدينة عن أصلها، ومن تلك «الأبراج» التي سرقت منه الأضواء:

«مُنْذُ القَرْنِ الماضي
لم أَصْعَدْ دَرَج الكَلْحة
لكنْ حين رآني
ناداني باسْمي!

وأَخْبَرني: أنّ لديهِ تَسْجيلاتٍ
بالصَّوتِ، وبالصّورَة، عنّي
حين طَلَعْتُ، وحين نَزَلْتُ،
وحين وَقَعْتُ، وحين بكيتُ،
وحين ضحكتُ.
ما أحلى تلكَ الأيّامَ، وأغلاها

وأقول لعمّانَ الحُلوةِ : نحنُ الأَصْلُ، فَرُدّي غُرْبَتَنا عَنْكِ، وخلّي تلكَ الأَبْراجَ لأَهلِ الأَبْراج».
[14]

درج الكلحة في شارع الملك حسين، وسط المدينة. تصوير محمد المصري.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية