مكتبة السوافيري

كيف تطوّرت سوق الكتاب القديم في الأردن؟

قارئ في مكتبة السوافيري. تصوير مؤمن ملكاوي.

كيف تطوّرت سوق الكتاب القديم في الأردن؟

الثلاثاء 09 آب 2022

خلال زياراته لإحدى مكتبات عمّان التي تختصّ ببيع الكتب القديمة، كان الموظّف في القطاع المصرفي محمد العَيسَةَ (47 عامًا) يبحث بين الأرفف لا على التعيين، لمح فجأة طرف كتاب صغير الحجم ومتآكل الأطراف، يضمَ مختارات شعرية ليست مشهورة لسعيد عقل ومارون عبّود وآخرين، صدر في ستينيات القرن الماضي، نفض عنه الغبار وجلس يتصفّحه على كرسيّ بين أرفف المكتبة.

تحتلّ القراءة جزءًا ليس يسيرًا من يوميات العَيسَة، لذا، ومنذ أكثر من ثلاثين عامًا، واظبَ على شراء الكتب من مكتبات عمّان، وشيئًا فشيئًا كبرت مكتبته ووصل عدد الكتب فيها إلى ستة آلاف كتاب تقريبًا، تشكّل الكتب القديمة التي تعود سنة طباعة بعضها إلى ستين سنة مضت جزءًا جيدًا منها، وهي كتبٌ لم تعد تُطبع، وقد تكون اختفت من الأسواق.

خلال بداياته في جمع المكتبة، ولم يكن الإنترنت موجودًا حينها، كانت الموسوعات من ضمن اهتمام العَيسَة، يتذكّر كيف اشترى نسخًا قديمة من موسوعات عدة، إذ سأل عنها باعة الكتب وأرشده بعضهم إلى بائع في عمان. خلال السنوات اللاحقة كان العَيسَة يعرف المكتبات التي تبيع الكتب القديمة، والتي بدأت بالانتشار أكثر، ويزورها باستمرار ويبحث بين الأرفف لا على التعيين؛ وهذا جمال سوق الكتاب القديم كما يقول، أن تجد كتابًا في الحقول التي تهتم بها وليس منتشرًا أو معروفًا لك، وتشتريه.

يتحدّث العيسة عن ميزة الكتب القديمة لديه، التي لا تتوفر عليها الكتب حديثة الصدور، مثل مؤلفات غير منتشرة ومعروفة لديه كأعمال الروسي بوريس باسترناك، وترجمات قديمة لخيري حمّاد ومنير بعلبكي التي يشتريها بسبب لغتها: «المترجم زمان [كان] أديب قبل ما يكون مُترجم».

لا يتعلّق الأمر دائمًا بفحوى الكتاب وترجمته لاقتنائه، ثمة كتب قديمة كان سبب اقتنائها ارتباطها بذكرى، مثل كتاب القراءة للصفوف الابتدائيّة في ثمانينيات القرن الماضي المعروف باسم «باسم ورباب»، بحسب العَيسَة.

لاحظ العيسة ارتفاعًا في أسعار الكتب القديمة كما يقول؛ كُتبٌ كانت تباع ما بين دينارين إلى أربعة دنانير وصارت تباع ما بين عشرين إلى ثلاثين دينارًا وأحيانًا أكثر، ويتذكر أن الأسعار بدأت بالارتفاع منذ خمس سنوات على أبعد تقدير. في مرات قليلة اضطر العَيَسة إلى دفع المبلغ المطلوب لكونه لن يحصل على نسخة من الكتاب مرة أخرى، فقد تتوفر في هذا السوق نسخة واحدة من الكتاب أو عدّة نسخ قد لا يجدها في زيارته المقبلة. لكنه كان في أحيان أخرى يعزف عن الشراء بسبب المبالغ العالية المبالَغ فيها.

محمد العيسة في مكتبة السوافيري

ما لا يوجد إلّا في الكتب القديمة

تتركّز مكتبات ومخازن الكتب القديمة في مدينتيْ إربد وعمّان، وتُقام معارض لهذه الكتب بشكلٍ مؤقتٍ في عدة محافظات بالاعتماد على مخازن كتب هاتين المدينتين، ومؤخرًا، منذ 2019 تقريبًا ازدادت صفحات بيع الكتب القديمة على فيسبوك.

يتفاوت تعريف الكتاب القديم عند باعته، وتتفاوت كذلك الأسعار حتّى في الكتاب الواحد بين مدينة وأخرى وبائعٍ وآخر. بحسب تعريف أكثر من بائع في المدينتين ومن جيلين مختلفين، يمكن القول إنهم يعتبرون الكتاب «قديمًا» إذا قدّر عمر نسخته بين ثلاثين إلى 100 سنة.

يُطلب الكتاب القديم، بحسب عددٍ من التجار والمقتنين، بسبب التوقف عن إصدار طبعات حديثة منه، أو إغلاق دار النشر التي أصدرته، أو لاحتواء الطبعة القديمة على النص الأصلي قبل سحبه من الأسواق بسبب الرقابة وإصدار طبعة أخرى منه منقوصةً.

كتب قديمة ذات أغلفة مزخرفة في مكتبة المحتسب

ثمة عوامل أخرى لطلب الكتاب القديم مثل احتواء غلافه على الزخرفات، أو ارتباط الكتاب بذكريات خاصة، وثمة من يبحث عن جمع نسخ من مجلات قديمة لأن أوراقها أكثر راحة للقراءة، كما يقول السبعيني إبراهيم درويش: «الطبعات الجديدة مؤذية للبصر، تعكس الضوء، بشتري [نسخة الورق] الأصفر أريح للقراءة، مش لأنه قديم». وأخيرًا لأن سعر الكتاب القديم ظلّ لسنوات منخفضًا مقارنةً بالنسخ الحديثة.

منشورات دار رادوغا السوڤيتية

البدايات وتوسع تداول الكتاب القديم

حضرت تجارة الكتب القديمة في السوق الأردني في نطاق ضيّق بالمقارنة مع تجارة الكتب الحديثة؛ يقول نبيل المحتسب (67 عامًا)، وهو أحد أكبر وأقدم وكلاء النشر في الأردن، إن المكتبة التي افتتحها والده في عمان سنة 1963 استوردت في ستينيات القرن الماضي إلى جانب الكتب حديثة الصدور من مصر كتبًا مضى على إصدارها عدة سنوات، وفّرها له موظفو فرع مكتبة المحتسب في القاهرة، الذين كانوا يشترون المكتبات الشخصيّة من البيوت و يشحنونها إلى عمّان. فيما استورد عبد الهادي حسّان، مالك المكتبة الأدبيّة، في نفس الفترة الكتب القديمة نسبيًا من مكتبات سوريا ولبنان إلى إربد، كما يقول ابنه خالد حسّان الذي يدير المكتبة هذه الأيّام.

مكتبة المحتسب في عمّان

في الثمانينيات بدأ سامي أبو حسين، صاحب كشك كتب الطليعة في عمّان، يلاحظ وجود حركةٍ على بيع المكتبات الشخصيّة لأصحاب المكتبات في عمّان، حتّى نهايات هذا العقد، كان اتجاه الطلب على الكتب القديمة يشمل الكتب السوڤيتية الصادرة عن داريْ رادوغا والتقدم الممنوعتين، وهي نسخٌ كانت تُهرّب مع معارف بعض أصحاب المكتبات، بالإضافة إلى كتب القوميّة العربيّة، فيما لاحظ أبو حسين أن الأحداث السياسيّة في المنطقة رفعت آنذاك طلب زبائنهِ على بعض الكتب الفكرية والسياسيّة التي مضى على صدورها سنوات، مثل الكتب التي تناولت بالتحليل حرب حزيران 1967، أو زيارة السادات إلى القدس 1977، أو اجتياح بيروت 1982.

كشك الزرعيني في إربد

في التسعينيات استورد المحتسب آخر حاوية كتبٍ حديثة الصدور من مصر بسبب تردي أوضاع البيع في مكتبته، التي ما زالت تعمل إلى اليوم، وتعتمد على مخزونها القديم وعلى عدد محدود من الكتب حديثة الصدور، وأوقف كذلك استيراد الكتب القديمة. كما أوقف حسّان في إربد في نهاية الثمانينيات الاستيراد من بيروت والشام لأمور تتعلق بصعوبة إجراءات الرقابة والحصول على موافقات الكتب المستوردة. أما أبو حسين فظلّ يشتري كميات قليلة من شارع المتنبي في بغداد عبر «بحّارة» العراق، ويفعل كذلك مع بحّارة الشام وإن كان بكميات أقل، فضلًا عن بعض صناديق الكتب القديمة التي كان يجلبها معه من العراق في زياراته له.

مع بداية القرن الجديد، صار ما يعرف بالكتاب القديم متداولًا بشكل أوسع من الماضي كما يقول بعض المشترين، منها كتب بحالة جيّدة، وهي الكتب التي ما زالت موجودة في مخازن المستوردين السابقين مثل المحتسب في عمان وحسّان في إربد.

صورة خزانة السوافيري للكتب القديمة في عمّان

مع حلول العام 2005 كان في عمان 12 كشك كتب تتعامل بالكتب القديمة، ومنها كتب تراثيّة بحسب ما وثقه الكاتب أحمد أبو خليل في مجلة «المستور»، وبحسب مقابلات أجراها أبو خليل مع بائعي كتب قديمة حينها فإن بعض مصادر هذه الكتب كان مكتبات شخصيّة باعها أصحابها بسبب الحاجة المالية أو لتبديل كتبهم بأخرى، ومنهم قرّاء ومثقفون تبدلت توجهاتهم الفكرية والسياسية «فاليساري الذي يتحول إلى إسلامي يبيع كتبه الشيوعية ويشتري الكتب الإسلامية».

كما وثّق أبو خليل مساهمة العراقيين في عمّان في بيع ومبادلة هذا النوع من الكتب، ثم دخل «السرّيحة» من مشتري الخردة وأثاث البيوت والمواد المستعملة على الخط في عمّان وشكلوا مصدرًا مهمًا لبعض تجار الكتب، حيث يشتري السرّيحة الكبار الأثاث وبما فيه من مكتبات شخصية ويبيعونها إلى المكتبات التجارية، مثل «خزانة السوافيري للكتب القديمة»، التي يقول صاحبها نصر البحيصي إنه صار يدُور كذلك على الأسواق الشعبيّة باحثًا عن بعض النسخ من السرّيحة الصغار.

في إربد، دخلت كميات كبيرة من الكتب القديمة من السوق العراقية بعد احتلال بغداد في عام 2003، وبيعت بأسعار زهيدة تراوحت بين دينار ودينارين للنسخة الواحدة، اشترى بائع الكتب شادي أبو نصّار من أحد المستوردين نحو 1500 كتاب منها، وانتشرت كذلك بسطات تبيع الكتاب القديم في إربد.

مكتبة الفينيق في إربد

تغيّر السوق وارتفاع الأسعار

خلال السنوات الخمسة الماضية ازدهرت هذه السوق من ناحيتين: الأولى ارتفاع أسعار الكتب القديمة وظهور باعة مختصين بها أنشأوا صفحات للترويج لهذه الكتب على فيسبوك، والثانية انتشار إقامة معارض الكتاب القديم في أكثر من محافظة، والتي تتزوّد بهذه الكتب من مخازن التجار في إربد وعمان.

بحسب أصحاب مكتباتٍ في إربد وعمّان، يرجع ارتفاع أسعار الكتب القديمة إلى إقبال زبائن عرب من العراق وقطر والإمارات والسعودية والكويت، ممن يبحثون عمومًا عن الكتب الأقدم أو الأندر، إضافة إلى المخطوطات، ويدفعون مقابلها «بسخاء» على حدّ وصف أحد أصحاب المكتبات. وهم يبحثون بشكل خاص عن الكتب التي تتناول تاريخ منطقة الخليج وبلاد الشام، بالإضافة إلى كتب تراثيّة وسياسيّة صدرت في العقد الثاني من القرن الماضي.

تنبّه تجار الكتب القديمة إلى أن ازدياد الطلب على الكتب القديمة رفع الأسعار، التي تراوحت بين دينارٍ واحدٍ إلى خمسة دنانير لتصل إلى عشرين أو ثلاثين دينارًا، وقد يصل السعر إلى مئة دينار إذا انعدمت نسخ الكتاب من السوق، وإلى أكثر من ذلك إذا كان مخطوطًا غير مطبوع.

مخطوط لدى مكتبة الفينيق في إربد

ليس ثمة مقياس واضح لتسعير هذه النسخ، إذ تتدخل في ذلك عدة عوامل، منها ندرة الكتاب في السوق، وتوقيع مؤلفه عليه، وسنة طبعه، وفيما إذا كانت النسخة طبعةً أولى، بالإضافة إلى احتوائه على رسومات وزخارف مثل كتب التراث في الفلك والحيوان والطبّ، ثم رغبة الزبون في الكتاب وطلبه من البائع والبحث عنه في السوق. يُذكر أن بعض التجار ما زالوا يبيعون بالأسعار القديمة. ويلعب تخمين البائع عاملًا مهمًا في تحديد سعر الكتاب في نهاية المطاف. ومنهم من يبيع النسخ النادرة بأسعار أعلى، ويبيع النسخ القديمة في معارض الكتب بأسعار تصل إلى ثلاثة دنانير بحد أقصى.

يُرجِع محمد الزرعيني، أحد تجار الكتب في إربد، سبب رفع بعض أسعار الكتب القديمة إلى الجهد الذي يتطلبه البحث عن بعض النسخ بين مخازن الكتب وهو ما يتطلب تكاليف تنقل بين المخازن في إربد وعمان. فيما يقول المحتسب إن تكلفة الكتاب القديم مرتفعة عليه لأنه ما زال يدفع تكاليف أجرة مخازنها منذ توقفه عن الاستيراد سنة 1990.

كتاب عمره نحو قرن في مكتبة السوافيري

أخيرًا، تغيّرت سوق الكتاب القديم ولعبت الأحداث السياسيّة دورًا في ارتفاع الطلب عليها ودخول كميات منها إلى الأردن، وتغيّر شكل الترويج لها وتسويقها مع مواقع التواصل الاجتماعي.

ويُلاحَظ عمومًا أن أغلب زبائن هذا السوق من فئة غير الشباب، وهي سوق لا تعتمد في البيع على الأكثر مبيعًا في العرض والطلب.

معرض الكتاب في مكتبة الفينيق في إربد

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية