«رجال في الشمس» أو «المخدوعون»: رحلة البحث عن الطريق

الأحد 03 كانون الأول 2023
مقطع من فيلم «المخدوعون» لتوفيق صالح.

«على شو معتمد، حكي، حكي، حكي، كله طق حنك، باعوك واشتروك، مفيش فايدة، اليهود قدامك والخونة وراك، قاعد مثل اللي بين المطرقة والسندان (..)، اللي ما مات برصاص اليهود، يموت بذل الإعاشة، واللي بينفد من هذه وهذه بيموتوه الخونة والمتآمرين، مش كان أحسن لك لو مت مثل ما مات الأستاذ سليم، شو عم تستنى بعد هذا كله؟ مضيت عمرك تصدق كل شي بيقولولك إياه، سويت الراديو نبي وضليتك تزرع حكي، واللى بيزرع حكي بيقطف طق حنك».

رن هذا المشهد من فيلم «المخدوعون» في أذني منذ عدة أيام، ربما كان اليوم التالي للقمة العربية، وربما يوم آخر طنطنت فيه التصريحات والتنديدات المتكررة. الفيلم مأخوذ عن رواية غسان كنفاني الشهيرة «رجال في الشمس» التي نشرها في عام 1963، وهو شاب في الـ27 من عمره، إلا أن ما اختبره من حرب ونزوح وترحال أنضجه قبل الآوان، مثله مثل كثير من الفلسطينيين، حيث لا وقت للطفولة والشباب، ربما لا وقت للحياة كلها، النظرة للحياة والزمن ومرور الأيام تتغير لو كنت من أهل هذا البلد الحزين، حيث تعيش اشتباكًا دائمًا ومستمرًا، والموت يجلس على بُعد خطوة منك محدقًا فيك. 

وربما للسبب ذاته تتمتع الرواية بتكثيف شديد، ككل أعمال كنفاني، تكثيف متقن ومتمكن، لا يجرؤ عليه إلا كاتب متقد الموهبة ومفعم بالثقة في كتابته، فلا مكان للإطناب أو التكرار أو الشرح والتفصيل أو ادعاءات البلاغة، الزمن قصير والوقت يلاحقنا، أشعر في الفصلين الأخيرين من الرواية أنني ألهث، قلبي يدق بسرعة وعنف وصدري يضيق، أجري دون أن أستطيع التوقف، أو كما يقول الناقد الفلسطيني فضل النقيب «شعرنا مع الكلمات الأولى بنبض قلوبنا يرتفع كصوت طبول تأتي من بعيد، تشتد مع كل مقطع، مع كل صفحة، وتعلو في النهاية كصوت طبول الموت، فتضيق أنفاسنا ونحن نرى القبر يلتهم أربعة منا، ونجبر على أن نتساءل: متى يأتي الدور؟».

ضحايا ومستسلمون

كبر غسان سريعًا وكبرت معه مشاعر الغضب والحنق، لم يكن حنقه موجهًا للاحتلال فقط، بل حنق على الصهاينة والخونة والعرب والمستسلمين والهاربين، حنق على جُل العالم، تصلني مشاعره الآن، جزء ضئيل منها، ولكنه يدفعني إلى فقدان أي إيمان بالإنسانية والبشر ككل، إلى احتقار العالم المتحضر وغير المتحضر، ما بالك بمن عاش في قلب الأهوال، فليس من سمع كمن رأى، وليس من رأى كمن عاش.

في «رجال في الشمس» يبرز سؤال واضح وقاسٍ؛ أولئك الذين نزحوا خارج فلسطين عقب عمليات التهجير والحرب في عام 1948 هم بالتأكيد ضحايا، ولكن هل هم أيضًا مذنبون؟ يشير غسان إلى هؤلاء الذين بدأوا في لاحق السنين في البحث عن الخلاص الفردي بالسفر إلى دول الخليج أو ما يشبهها، البحث عن الظل في بلاد لا تعرف إلا الشمس على حد تعبير إحسان عباس، تبدو رؤية غسان في الرواية واضحة، لا مجال للخلاص الفردي، لا فرصة للهروب، إما الخلاص العام أو الموت، ولا حل آخر. 

نتتبع من خلال روايته رحلة هروب ثلاثة رجال من أعمار مختلفة وأجيال متتالية نحو بلاد النفط، لم يكن أي منهم يعرف الآخر قبل لقائهم في العراق في أثناء بحثهم عن وسيلة للتسلل إلى الكويت، وبدا أن الأمر متكرر حتى إن البعض احترف مهنة تهريب الفلسطينيين بين البلدين، أغلبهم نصابون كما توضح الرواية، يأخذون دنانيرهم القليلة ويتركونهم في منتصف الصحراء، يصل من يصل ويموت من يموت، يموت وحيدًا في الصحراء، تنهش الحيوانات لحمه وتتركه جثة متآكلة تلتهم الشمس ما تبقى منها حتى تصير هيكلًا عظميًا في الرمال. هل ما زال بعض العرب يقومون بالدور نفسه؟

يختلف الرجال الثلاثة مع المهرب المسؤول عن تدبير رحلتهم إلى الكويت، فيتلقفهم آخر، فلسطيني هذه المرة، وليس محترفًا مثل الأول، يعمل على سيارة نقل ويعدهم بعبور الحدود من خلالها وبمقابل أقل، اسمه أبو الخيزران، مقاتل سابق، لكنه ترك أرض المعركة في فلسطين بعدما تسببت شظية قنبلة صهيونية في إخصائه في إحدى معارك 1948. هنا يوجه غسان سهامه إلى رجاله الأربعة، فكلهم عجزة ومهزومون ومنكسرون، ليست الهزيمة أمام الصهاينة، «لست مهزومًا ما دمت تقاوم» كما قال مهدي عامل، ولكنها هزيمتهم أمام أنفسهم، استسلامهم الذي فقدوا على إثره ما تبقى من روحهم، فإذا كان أبو الخيزران فاقدًا لرجولته، فأبو القيس صار عجوزًا متهالكًا، ضعيفًا أمام الحياة، وأسعد يحني رقبته خاضعًا أمام عمه ويقبل بما لا يريد ولا يرضى، كما نرى مروان وهو يتلقى صفعة مهينة دون أن يرد أو يثأر لكرامته، «يمضغ ذله وعلامات الأصابع الأربعة فوق خده الأيسر تلتهب»، فالثلاثة مسلوبو الإرادة، ومنساقون تحت ضغوط ذويهم، ومستسلمون للطرق التي رسمت لهم، ورغم هذا فإنك لا تستطيع أن تفقد التعاطف معهم في ظل الهول والويل الذي يتعرضون له، ثمة مشاعر متداخلة من التعاطف والحزن والألم والغضب والغيظ تنتابك في أثناء متابعة رحلتهم.

يشير العديد من النقاد إلى هذا العجز الذي أصاب أبطال غسان المأساويين، أو اللعنة التي حلت بالفلسطينيين الأربعة، غير أنني أرى أن كنفاني يدين كل شخصياته، حتى الشخصيات الهامشية والعابرة مثل صديق أبو القيس، وعم أسعد، ووالد مروان وأخيه، والمهربين بالطبع، أما الشخصية الوحيدة التي نجت من مقصلة غسان، الشخصية التي يراها نموذجًا، فهو الأستاذ سليم، المدرس المتحضر الذي يذهب للتدريس في القرية التي يحيا بها أبو القيس بيافا، والذي ربما لا يجيد الصلاة ولكنه يجيد القتال.

«يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم! لا شك أنك ذو حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود، ليلة واحدة فقط… يا الله! أتوجد نعمة إلهية أكبر من هذه؟ صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك، ولكنك على أي حال بقيت هناك.. بقيت هناك! وفرت على نفسك الذل والمسكنة وانقذت شيخوختك من العار.. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم».

الطريق إلى الشاشة 

فى فيلم «المخدوعون»، يضيف الكاتب بشكل أكثر وضوحًا أن الأستاذ سليم استشهد في أثناء القتال ضد الجنود الصهاينة، وكأن كنفاني عاد في الفيلم ليكمل ويوضح صورة النموذج والمثال من وجهة نظره. تعتبر هذه الإضافة واحدة من التغييرات القليلة التي طرأت على أحداث الفيلم مقارنة بالرواية، فالعملان يكادان يكونان متطابقين، حيث إن الرواية تمتعت بمشهدية في الوصف وبإيقاع منضبط ولاهث، كما أن الكاتب يتنقل في الزمن بقفزات واسعة ولكن دون أن ينفلت منه الخيط، فباتت الرواية معدة تمامًا للنقل السينمائي.

يقول المخرج المصري توفيق صالح في حوار أجراه معه الكاتب بلال فضل في نهاية التسعينيات أنه اقترح تحويل «رجال في الشمس» إلى فيلم لأول مرة في العام اللاحق مباشرة لنشرها، أي في عام 1964، كانت علاقة توفيق بمؤسسة السينما في مصر متوترة وأراد أن يدفع بمشروع يعيده إلى العمل مرة أخرى بعد فيلميه الأولين، فوقع اختياره على رواية غسان، على أن يتم إنتاجها بشكل مشترك بين مصر والعراق، غير أن المسؤول عن الأمر واسمه فتحي إبراهيم تعجب عندما علم أن الرواية تدور حول محاولة ثلاثة فلسطينيين عبور الحدود العراقية قائلًا «طيب إحنا مالنا ومالهم؟». يكمل توفيق صالح حكايته ويقول إن المخرج هنري بركات كان حاضرًا الاجتماع فاستنجد به توفيق، فقال بركات «مش ضروري يبقوا فلسطينيين، ممكن يبقوا ناس رايحين يدوروا على لقمة عيش»، تفاجأ توفيق صالح وابتلع غضبه وانتهى المشروع قبل بدايته. عندما انتقل صالح للحياة في سوريا مع مطلع السبعينيات، توالت محاولاته للعمل بفيلم يناسبه غير أنها باءت بالفشل، إلى أن اقترح على المسؤولين السوريين فكرة استلهام رواية «رجال في الشمس» وأخيرًا حظي بالموافقة على مشروعه. 

تتمتع الرواية بتكثيف شديد، ككل أعمال كنفاني، تكثيف متقن ومتمكن، لا يجرؤ عليه إلا كاتب متقد الموهبة ومفعم بالثقة في كتابته، فلا مكان للإطناب أو التكرار أو الشرح والتفصيل أو ادعاءات البلاغة، الزمن قصير والوقت يلاحقنا.

كان توفيق مشحونًا بمشاعر ممتزجة محتشدة، منها أو على رأسها الغضب، فاندفع إلى كتابة سيناريو الفيلم حتى أتمه في 18 يومًا فقط. يحكي فيصل دراج في دراسة أعدها عن أدب غسان كنفاني أن توفيق صالح التقى بغسان ذات يوم في مقهى في بيروت في السادسة مساءً، أعطاه السيناريو الذي انتهى من كتابته، وطلب منه أن يضع له الحوار حرصًا منه على الحفاظ على الأفكار والروح التي أرادها غسان، إضافة إلى الحفاظ على اللهجة الفلسطينية، فأجابه غسان بأن موعدهما في اليوم التالي في الميعاد نفسه، وبالفعل حضر في اليوم اللاحق مباشرة ومعه حوار الفيلم كاملًا! وكأن غسان يعامل الوقت كعدو يجب عليه أن يصارعه، وكأنه يعلم أن الحياة قصيرة، قصيرة جدًا ولن تمتد لكل ما يطمح إليه من أحلام وأعمال، فوهات البنادق في كل مكان والموت رابض على الطريق، ولا يعلم متى سيقع في فخاخهم. خرج فيلم «المخدوعون» إلى النور أخيرًا في عام 1972، وفي العام نفسه اغتيل غسان بقنبلة من العدو الصهيوني، واختلفت الروايات إن كان قد شاهد الفيلم قبل استشهاده أم لا.

كان الفيلم هو السادس لتوفيق صالح، ورابع أفلامه المأخوذة عن أصل روائي، بعد «المتمردون» عن رواية لصلاح حافظ، و«يوميات نائب في الأرياف» عن رواية توفيق الحكيم، و«السيد البلطي» عن رواية لصالح مرسي، فهو مخرج متمرس في التعامل مع النصوص الأدبية، غير أن «المخدوعون» يتفوق على باقي أفلامه سينمائيًا ويبدو أكثرها تماسكًا وإمتاعًا، فرغم احتشاده بالأفكار والرؤى والمآسي إلا أن كل هذا يجد طريقه إلى الشاشة بسلاسة وبشكل درامي، دون الكثير من الخطب أو المباشرة، فيلم قاسٍ ومؤلم وممتع ودرامي في آن واحد، حيث يتخلص فيه توفيق من عيوب أفلامه السابقة التي انتقص اهتمامه بإبراز مواقفه السياسية فيها من قيمتها الفنية.

رغم هذا المستوى الفني المتميز للفيلم ومن قبله الرواية إلا أن «المخدوعون» قوبل بغضب من المؤسسات والمسؤولين العرب، بالتأكيد أغضبهم المشهد الذي أوردت جزءًا من حواره في مطلع المقال، «حكي، حكي، حكي، كله طق حنك»، والذي يأتي على لسان صديق لأبي القيس، مع عرض تتابع من المشاهد التسجيلية للملوك والحكام العرب في فترة الأربعينيات والخمسينيات ولقطات من الاجتماعات والقمم العربية متقاطعة مع لقطات لعصابات الصهاينة والساسة الغربيين، بينما يردد صوت الرجل «اليهود قدامك والخونة وراك»، كما يشير الفيلم إلى مطاردة السلطات الأردنية لأسعد بتهمة التآمر ضد الدولة، ومما زاد غضب الدول الخليجية هو هذا الشكل الذي ظهر عليه الموظفون الخليجيون في مشاهد النهاية في الفيلم، حيث بدوا كمن لا يفكر إلا في الجنس والراقصات والنساء المتخيلات. وربما لم ينتبه هؤلاء المعترضون والممتعضون إلى اللهيب الذي صبه غسان على باقي شخصياته وأولهم الفلسطيني أبو الخيزران!

لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟

يموت الرفاق الثلاثة في أثناء اختبائهم داخل خزان المياه الملحق بسيارة النقل، يموتون من شدة الحرارة داخله، ينصهرون تحت الشمس، ويصيح أبو الخيزران -السائق والمهرب- بالجملة الأشهر بالرواية «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟». سأل توفيق صالح غسان عما عناه تحديدًا بهذه الجملة، هل قصد التحريض أم الإدانة، فأجابه بأنه أراد الإدانة الشاملة، فهذه الجملة لم تكن موجهة إلى حاضر عليه أن يتعلم من الماضي، ولا إلى مستقبل مجاوز أخطاء الحاضر والماضي معًا، بل كان مقصودًا منها وصف الهاربين ومحاكمتهم وإنزال الحد الأعلى من العقاب بهم.

ورغم إخلاص الفيلم للنص الروائي إلا أن ثمة تغيير في هذه النهاية، ففى الفيلم لم يردد أبو الخيزران الجملة الشهيرة، بل على العكس سمعنا أصوات دق الثلاثة على جدار الخزان بالفعل، ولكن دقهم يضيع هباءً، ثم يأتي المشهد الأخير صامتًا إلا من الموسيقى التصويرية، لم ينطق أبو الخيزران بشيء وهو يكتشف موتهم، ذُعر وارتعب ولكن دون أن يتكلم، كان هذا أقوى تأثيرًا من أي كلام يقال، وفي النهاية نرى جثثهم الملقاة تحت الشمس، وتتركز الكاميرا على ذراع أبي القيس الذي تصلب مرفوعًا إلى أعلى ومكورًا قبضته على الوضعية التي كان يمسك بها العمود بالخزان، وكأنما أراد صناع الفيلم التخفيف من حدة إدانة النازحين الثلاثة واستسلامهم وصمتهم، وإزاحة بعض اللوم عنهم.

في الرواية يأخذ أبو الخيزران الجثث الثلاثة ويلقيها في الصحراء بعدما يأخذ ما في جيوبهم من دنانير، ولكنه يصرخ وينهار من الحزن أو الندم أو الألم، تبدو تلك الشخصية هي الأكثر إثارة للجدل في الرواية بتناقضاتها، فهو المناضل الذي تخلى عن الكفاح وذهب للبحث عن المال بعدما ضاعت فحولته في أثناء مقاومة الصهاينة، وبات منذ هذا الحين باحثًا عن المال، والمال فقط، ولذا تبدو هذه الشخصية ملتبسة كما تفتح الباب للتأويل والتفسير وتفكيك الرموز. 

جرذان تأكل جرذان

يحكي الناقد الفلسطيني إحسان عباس في مقدمة الأعمال الكاملة لغسان كنفاني أنه التقاه ذات يوم بعد نشر الرواية، وقال له إنها قصة آسرة متوحشة تنشب أظافرها في القارئ بحيث لا تدع منها فكاكًا، ويخرج في النهاية متسائلًا «لماذا تم كل هذا؟»، ثم أضاف لغسان «إن كنت أردتها رواية ذات بُعد رمزي، فما أظنها استطاعت أن تحقق ذلك» فنظر إليه غسان في شيء من التردد الذي لا يكاد يلوح حتى تمحوه الثقة وقال «إن صح قولك فإني أعد نفسي مخفقًا». إذًا فالرواية بها بعض الرمزية طبقًا لإجابة كاتبها، ولذا عاد إحسان عباس لقراءة الرواية مرة أخرى ووجد أنه لم يكن مصيبًا في تعليقه الأولي، ربما ما ضلله هو ما في الرواية من تفاصيل إنسانية مغرقة في واقعيتها، تجعل من أبطالها شخوصًا مألوفة من لحم ودم، أناسًا طبيعيين نكاد نعرفهم، لا يتكلمون أو يتصرفون وكأنهم رموز.

في القراءة الثانية المتأنية يكتشف إحسان أن اختيارات غسان للشخصيات وأعمارها وبلادها ومصائرها مقصودة تمامًا، وكل ذلك يحمل دلالة ما أو بُعد رمزي ما. يستطرد إحسان في تفكيك رؤيته للرموز في الرواية، ولكنني قد اختلف مع بعض تفسيراته وأرى أنه ذهب بعيدًا أحيانًا، غير أنني أتفق أن اختيار الشخصيات ومآلاتها كان بالقطع متعمدًا وذا مغزى، وكذلك بعض الإشارات مثل فقدان الرجولة و«لماذا لم يدقوا جدران الخزان» وتكرار ذكر الجرذان عبر الرواية، فيرى غسان الإسرائيليين والهاربين من المعركة ومن يستغلون هذه المأساة لتحقيق مصالح ضيقة في صورة جرذان، مجرد جرذان، وربما أكثر ما يعبر عن رؤيته هذه هو حوار ورد في كل من الرواية والفيلم بينما كان أسعد في طريقه من الأردن إلى العراق، حيث قالت المرأة الأجنبية التي كانت معهم في السيارة وهي تنظر إلى الطريق برعب وارتياب إنها ترى ثعالب في الصحراء، فأجاب زوجها إنها مجرد جرذان، ولكنها جرذان ضخمة، ويصفها بالحيوانات المرعبة الكريهة، فتساءلت بدورها «إن هذه الصحراء مليئة بالجرذان، تراها ماذا تقتات؟» فأجاب أسعد بهدوء ودون تفكير طويل «تتغذى الجرذان الضخمة على جرذان أصغر منها».

فى النهاية اضطر توفيق صالح إلى عنونة فيلمه باسم مختلف عن عنوان الرواية، لأن المؤسسة العامة للسينما بدمشق أنتجت قبل فيلمه بعامين ثلاثية باسم «رجال في الشمس»، لا علاقة لها برواية غسان كنفاني ولكنها تحمل الاسم نفسه، فاختار توفيق لفيلمه عنوان «المخدوعون»، وهو اختيار موفق جدًا، فقد خُدع الرجال الثلاثة مرات ومرات، خدعهم من حثوهم على السفر وأغروهم بما ينتظرهم من رخاء، وخدعهم المهربون والأدلاء العرب، وخدعتهم الراديوهات والقمم العربية، وخدعهم أبو الخيزران، ولكن الأهم من كل ذلك وقبل كل شيء فقد خدعوا أنفسهم عندما ظنوا أن بإمكانهم الهرب من البلاد والنجاة من المأساة دون مقاومة العدو وقتاله.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية