تبرّد البيوت وتسخّن الكوكب: هل يمكن العيش في عالم بلا مكيّفات هواء؟

الأربعاء 21 حزيران 2023
بيت الشيخ عيسى بن علي في العاصمة القديمة المحرق وهو من أقدم بيوتها. المصدر: ويكيميديا.

نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة نيو لاينز في 8 حزيران 2023.

قدت السيارة مسرعة في شوارع مدينة المنامة المزدحمة، في يوم دافئ من نيسان، لحضور مؤتمر البحرين الوطني الأول للطاقة المستدامة. كانت درجات الحرارة قد أخذت بالارتفاع، إلّا أنها لم تكن حرارة الصيف الرطبة الحارقة التي تجعل من كل نَفَس انتصارًا. وبينما كنت عالقة في الازدحام، جعلني منظر الأسفلت المتحوّل إلى الفضي تحت أشعة الشمس أشعر بالمزيد من الحرارة، لكنني قاومت رفع مقدار تكييف السيارة، تحسبًا من البرودة التي كنت أعلم أني سأدلف إليها. لملمت دفتر الملاحظات عند الوصول، وجهاز التسجيل والسترة وشققت طريقي نحو مكان انعقاد المؤتمر. لم يحتج جسمي إلى وقت طويل بعد دخول القاعة لكي يسجل الصدمة الحرارية للجو الجديد. انكمش جلدي مقشعرًا وتجهمت منزعجة. بدأ أحد المتحدثين بتقديم محاضرته على المنصة من خلال الطلب بتعديل درجات حرارة القاعة معلقًا، «طلبت منهم بالأمس رفع درجات الحرارة، ولكنها ما زالت باردة». 

بات تكييف الهواء في الخليج العربي مظهرًا ثابتًا في الحياة اليومية، إلى الحد الذي أصبح معه حمل السترة في عز الصيف سلوكًا غير مستغرب في الفضاءات المغلقة. يُعزى إلى هذه التقنية في بعض المدن حوالي 70% من استهلاك الكهرباء في الذروة، وهي ضرورة كما هي رمز للتكلفة البيئية في آن معًا. ذلك أن مكيّف الهواء، الآلة المستهلكة للطاقة بكثافة، يبرّدنا داخل المساحات المغلقة، بينما يسخّن العالم في الخارج، نظرًا لاحتياجه لكمية كبيرة من الطاقة، ولاستخدامه مبرّدات ذات إسهامات مرتفعة في الاحتباس الحراري. وبينما يزداد القلق من الانتشار العالمي لتكييف الهواء، هنالك حاجة ملحة لإعادة التفكير في استخداماته. وفي ظل اعتماده الهائل على مكيفات الهواء، يقدّم لنا الخليج سياقًا يدفعنا للتفكير مليًا بهذه التقنية، وكيف نبعت الحاجة إليها أساسًا، وكيف استحوذت على حياة الناس، وهل بالإمكان استبدالها؟ 

اختُرع تكييف الهواء في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1902، للسيطرة على الرطوبة والحرارة في معمل للطباعة. تم التعاقد مع مهندس يدعى ويليام كاريير لابتكار حل، مما أفضى إلى اختراع أول جهاز تكييف هواء حديث. وعندما أثبتت آلته فعاليتها، بدأ كاريير إلى جانب مهندسين آخرين في حقله، بتجربة تصاميم مختلفة لتقديم تكييف الهواء كتقنية للراحة. وقد استخدمت هذه التقنية في المباني التجارية منذ عشرينيات القرن الماضي، قبل أن تصبح من التجهيزات المنزلية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. 

تم تبني مكيفات الهواء في الخليج ضمن جدول زمني مشابه. عندما انطلقتُ لاكتشاف تاريخها في المنطقة، قادني البحث إلى البحرين، الدولة الخليجية الأولى التي شهدت الضبط الآلي للحرارة والرطوبة. كانت أول بناية شيدت بمكيفات هواء في عوالي، وهي بلدة بناها مهندسون ومتخصصون أمريكيون عام 1934 سعيًا وراء النفط. كان تكييف الهواء آنذاك ابتكار حديثًا حتى بالنسبة للعمال الأمريكيين المستهدفين بهذه التقنية. فقد حمتهم من مناخ اعتبروه عدائيًا ومنحتهم حسًا بالرفاهية ميّزهم عن الآخرين. ولم يمض وقت طويل حتى لحقت الإدارة الاستعمارية البريطانية (والتي حكمت البحرين رسميًا بين عامي 1861 و1971) بالأمريكيين، وباشرت في تبني هذه التقنيات. رُكّبت وحدات تكييف الهواء لأول مرة عام 1938 في مناطق السكن وأماكن العمل لنخبة من الموظفين الاستعماريين الرسميين وبعض عائلات التجار المحليين. أدخل البريطانيون خلال العقد التالي مخططًأ لتكييف هواء الأبنية العامة والخاصة، محوّلين هذه الآلة إلى الحل التقني النهائي لتبريد البحرين، وباقي الخليج في نهاية المطاف. 

من كان بحاجة إلى مكيفات الهواء لم يكن الشعب البحريني، إذ تدبّر أمر الحرارة والرطوبة لقرون من خلال حلول معمارية مبتكرة، فقد عمرَ أهل البحرين منازلهم بمواد اختيرت لخصائصها العازلة، بما فيها الأحجار المرجانية والطين والجبس، وتبنوا تصاميم للبناء عمّقت الظلال والتهوية إلى أقصى الحدود. رتبت أغلب المنازل، على سبيل المثال، حول فضاء مكشوف، وساحة مركزية وفّرت مساحات مظللة خلال النهار وسمحت بدوران الهواء. بنيت المنازل بحسب مسارات الشمس والرياح ورُتبت على طول أزقة ضيقة لتقليص الفضاءات المعرّضة للشمس، وما زال الأمر محفوظًا في الذاكرة المعاشة، حيث يستذكر أحد أبناء مدينة المحرق، «ليس أنها لم تكن حارة، أو أننا لم نستشعر الحرارة أبدًا، بل تعلمنا التعايش معها. وبنينا منازلنا بشكل جيد». ولم تكن العمارة وحدها [ما تم ترتيبها]، وإنما أنماط المعيشة أيضًا، «نمنا على أسطح المنازل لأنها كانت فضاءات أكثر برودة. فضلًا عن أنه كان لمنازلنا مساقط هواء مبنية داخليًا، وكان البعض يرتحل قرب الساحل خلال الصيف ويسكن أكواخًا من سعف النخيل. لقد عرفنا كيف نتكيّف مع المناخ».

بيوت الكويت التقليدية. المصدر: وكالة الأنباء الكويتية.

لكن سرعان ما ستُنحّى هذه الحلول، إذ بدأ الإداريون البريطانيون في أوائل القرن العشرين باستبدال أشكال العمارة المحلية لصالح مواد للبناء اعتبروها أكثر «حداثة»، لكنّها كانت غير متناسبة مع مناخ الخليج. وبدأت المباني المصنعة من الإسمنت والفولاذ الممتص للحرارة تظهر ببطء وثقة. وبدأ الأسفلت يغطي الطرقات، مخزّنًا الحرارة في الأرض ومُسهِما في ما سماه عالم الأرصاد الجوية ليونارد أو. ميروب عام 1969 «الجزر الحرارية الحضرية». فالمنازل التي توجهت إلى الداخل في السابق -حول فسحة مفتوحة ومبرّدة- تحولت إلى الخارج، معتمدة على مكيفات الهواء كأسلوب تهوية أساسي. ومع تحويل بيئة البناء في البحرين أصبح الناس مجبرين على الاعتماد على التبريد الآلي، مما أفضى إلى مجتمع يعيش معظمه داخل البيوت بشكل رئيسي. 

لم يعد تكييف الهواء اليوم واقعًا بحرينيًا واسع الانتشار فحسب، بل سجل استخدام هذه التقنية ارتفاعات جديدة مؤخرًا. ففي وجه الحرارة المتصاعدة، بات التبريد الخارجي سمة من سمات الحياة اليومية في البحرين وغيرها من دول المنطقة، وربما أوسعها (أو أسوأها) صيتًا التبريد الخارجي لملاعب كرة القدم في قطر. لكن وبينما التكييف هو بطل الصيف لكثيرين، لم يعد بالإمكان أخذ هذه التقنية وعبئها البيئي كمسلّمة، إذ إن الحاجة للتبريد المستدام باتت أكثر إلحاحًا مع التغير المناخي الذي يهدد بالمزيد من الارتفاع في حرارة الكرة الأرضية، وقد عنى هذا في الخليج اللجوء إلى أشكال أخرى من تكييف الهواء. 

بات التبريد المناطقي أكثر الأشكال شيوعًا، ويتزايد انتشاره في المدن الجديدة والمتوسعة. يعتمد هذا التبريد على توزيع المياه المبردة إلى أبنية متعددة من خلال أنابيب تحت أرضية. يَعِد التبريد المناطقي بأنه سيكون أكثر توفيرًا للطاقة من التكييف الهوائي التقليدي، بحيث يوفر حوالي 40% من الطاقة المستهلكة. وقد أثنى موظف يعمل في سلطة التخطيط العمراني في البحرين على هذا الأسلوب كطريقة مثلى لدول الخليج: «هو أسلوب فعال جدًا، وعلينا استدخال أنظمة تنسق بين المخططين العمرانيين وبين المطورين كي نضمن أن معامل التبريد المناطقي مبنية بشكل سليم في مدننا قبل فوات الأوان». وقد توسع الطلب على التبريد المناطقي بشكل ملحوظ خلال العقود الأخيرة، ويتوقع له ارتفاعات أكبر في العقد القادم.

في منطقة تنعم بوفرة من أشعة الشمس، ظهر أيضًا التكييف بالطاقة الشمسية. ويتوقع الخبراء بأن الدمج المتزايد للطاقة الشمسية قد يخفف الضغط عن التكييف الهوائي خلال الصيف. وقد سنحت لي بينما كنت في البحرين فرصة زيارة مصنع محلي أنتج أول مكيف هواء هجين في البلاد، حيث يعمل بكل من الطاقة الشمسية والوقود الأحفوري. وقد أراني أحد المهندسين في المصنع بكل فخر نموذجهم الأولي، مكيف هواء موصول بلوح شمسي عريض، تجري مراقبته على مدى عام. وقد علق وهو يفسر نجاح منتجهم، «لو أننا بدأنا باستخدامه على نطاق واسع، فسنوفر على الدولة حوالي 50% من استهلاك الطاقة سنويًا، إن لم يكن أكثر».

كانت دول الخليج تفرض في هذه الأثناء، قوانين ترشيد صارمة للطاقة في مجال تكييف الهواء. فللمرة الأولى منذ استدخالها، مُنحت مكيفات الهواء لاصقات تفصل كفاءة استهلاكها للطاقة، جاعلة من تكييف الهواء في البحرين على الأقل، الأداة التقنية الثانية التي تُنظم من جانب الدولة، بعد المصابيح الكهربائية. مع استدخال متطلبات الكفاءة، مُنِعت الكثير من مكيفات الهواء، وفي بعض الحالات كما في السعودية أُتلفت لعدم تلبيتها معايير كفاءة استهلاك الطاقة المطلوبة.

بينما تَعِد هذه التدخلات التقنية بالكفاءة الطاقية، إلا أنها ليست دون قيود ومحدوديات. إذ يعتمد التبريد المناطقي على سبيل المثال، على المياه كما الكهرباء. وفي منطقة تواجه ندرة في المياه، يطرح هذا أسئلة فيما يتعلق باستدامة هذه التقنية في الخليج. وقد فسر إداري في إحدى منشآت التبريد المناطقي في البحرين، أنه يتوقع أن تكون إمدادات المياه للتبريد المناطقي مسألة صعبة. تعتمد المنطقة مسبقًا على تحلية المياه -وهي عملية تتطلب كميات مهولة من الطاقة- وذلك لتعويض نقصان المياه العذبة. كما أن التجريف البحري الواسع واستصلاح الأراضي قد أثّرا على نوعية مياه الخليج، ما يجعل من استخدامها ومعالجتها لغايات التبريد المناطقي أصعب. يعلق المدير قائلًا، «لست واثقًا من أننا سنجد مياهًا كافية للاستخدام مستقبلًا في معاملنا».

كذلك يطرح تكييف الهواء بالطاقة الشمسية مشاكله الخاصة. ذلك أن حجم وعدد الألواح الشمسية المطلوبة لتشغيل مكيف هواء واحد قد تكون هائلة. مما يطرح بدوره مشكلة دمج هذه الألواح مع البنايات القائمة. فضلًا عن أن تراكم الغبار المنتظم على الألواح الشمسية قد يؤثر بشكل درامي على أدائها. ففي منطقة تشهد تزايدًا في تواتر العواصف الرملية، سيشكل هذا تحديًا خاصًا لعمل الألواح الشمسية.

إن كافة هذه التدخلات التقنية، سواء كانت ناجحة في نهاية المطاف أم لا -التكييف المناطقي والشمسي والتكييف التقليدي ولكن الكفؤ طاقيًا- تتشارك بأمر واحد: الإيمان بالتكييف الهوائي كحل نهائي ووحيد لتبريد البشر. فالبنسبة لحسان، وهو مهندس حكومي من الكويت، التقيته خلال مؤتمر حول الاستدامة الإقليمية في الكويت، تقف هذه الفرضية عائقًا بين الخليج والطرق الأكثر استدامة في تحقيق الراحة [الحرارية]. «ليس بإمكاننا إلّا أن نستثمر إلى هذا الحد في مكيفات الهواء، لكنه يضيف قائلًا: «إلّا أننا نحتاج لكسر إدماننا على المكيفات، انظري إلينا الآن، إننا حرفيًا داخل ثلاجة».

إذا كان الانتصار على «إدمان» الخليج كما يسميه حسان، يحتاج إلى التحرك أبعد من تكييف الهواء، فإن السؤال الذي يواجه البحرين وباقي الخليج اليوم ليس شكل تكييف الهواء المستخدم، بل كيف نخفف من قبضة تكييف الهواء على مخيلة الناس، بحيث أصبحت الحياة بدون المكيفات صعبة التصور.

بات الكثيرون لحسن الحظ، يسائلون مركزية التكييف الهوائي. فبينما نواجه كثيرًا من الأحيان بأنظمة بناء صارمة تحدّ من مدى التجريب، إلا أن الكثير من المعماريين في البحرين والخليج يعتمدون على المخزون الثقافي للمنطقة لمنح الأولوية لتصاميم منخفضة الكربون. لجأ البعض للتاريخ، معيدين إنتاج الساحة الداخلية التقليدية للمنازل في محاولة لتحقيق مستويات أعلى من الظلال والتهوية. بينما جرب البعض الآخر سماكة الجدران لتحسين المقاومة الحرارية آخذين بالاعتبار وضع المكيفات بشكل استراتيجي، ومقلّدين توزيع النوافذ كما في الماضي لتسهيل تدفق أفضل للهواء. كما يركز أولئك المهندسون على وضع الأبنية بحسب حركة أشعة الشمس وتقليل كمية الزجاج المستخدم في الواجهات المواجهة للشمس. يناقش أحد المهندسين من البحرين، «نحتاج للتفكير أولًا والتجريب في كيفية تحقيق الراحة. يجب أن يكون تكييف الهواء الملاذ الأخير لنا عند تصميم المنازل».

مدينة المحرق البحرينية التي كانت عاصمة للبحرين بين 1810 و1923. المصدر: هيئة البحرين للثقافة والآثار. 

كما تعتبر دروس الماضي قيّمة للحاضر، فإن ممارسات البناء الجديدة باتت تلقى تشجيعًا بين أوساط المعماريين. وقد قدمت المعمارية نور عبد المجيد في مؤتمر البحرين لاستدامة الطاقة الوطنية، تصميما أوليًا نموذجيًا استخدم القدرة التبريدية الطبيعية للأرض من خلال البناء تحت الأرض. بينت عبد المجيد، باستخدام معطيات الطقس المحلية وتحليل المناخ، بأن البناء على عمق خمسة أمتار إلى 10 أمتار يحسّن الأداء الحراري للمبنى بشكل ملحوظ. وبإضافة ساحة مفتوحة وغائرة إلى تصميمها، قالت في مقابلة مع مجلة بناء الخليج بأن «درجة الحرارة الأرضية على عمق من سبعة إلى 10 أمتار ثابتة على 22 درجة مئوية، خاصة مع النسيج الغني من القنوات المائية تحت الأرضية في البحرين، والذي يسهم بدوره في تبريد البيئة».

ألحقت عبد المجيد مقترحها باستبيان شارك فيه 150 من السكان، مبينة أن تصميمها يستجيب أيضًا للوظائف الاجتماعية من خلال تلبية التوقعات بالخصوصية. حيث تعلق، «كانت الخصوصية جوهرية بالنسبة للمستجيبين الذين كانوا معتمدين كليًا على التبريد الآلي وتنقصهم المعرفة بالتقنيات البيئية». لكن يبقى أن نرى إن كان تصميمها سيرى النور في نهاية الأمر. يكفينا أن نقول إن المساعي المعمارية لعبد المجيد وغيرها من المعماريين تقدم طريقًا «يذهب أبعد من آلة» تكييف الهواء دون الاضطرار إلى اللجوء إلى حلول عالية التقنية.

ربما ما يضيف المزيد من الأهمية إلى جهود المعماريين لتقليل الاعتماد على مكيفات الهواء هو الشكاوى المستمرّة من تحوّل الحياة إلى «عيش داخل ثلاجة»، وهي شكوى متكررة في الخليج. حيث إن المستويات المفرطة من البرودة غالبًا ما تدفع بالقاطنين لحمل مزيد من الملابس، والوقوف خارجًا لتدفئة أجسادهم أو حتى إحضار سخانات صغيرة إلى أماكن العمل في بعض الأحيان. وقد علّقت امرأة تعمل في بنك قائلة، «أقود أحيانًا في شهر آب أثناء عودتي من العمل إلى المنزل ومكيف الهواء متوقف فقط لأنني كنت أتجمد في مكان العمل لساعات».

إن الحاجة للتبريد المستدام باتت أكثر إلحاحًا مع التغير المناخي الذي يهدد بالمزيد من الارتفاع في حرارة الكرة الأرضية، وقد عنى هذا في الخليج اللجوء إلى أشكال أخرى من تكييف الهواء.

إن الإفراط الملحوظ في التبريد في مناطق أخرى تعتمد على مكيفات الهواء مثل الولايات المتحدة والفلبين، ليس القضية الوحيدة التي تشجع القاطنين على الانسحاب من الداخل المكيف. ذلك أن العديد من البشر يكرهون الإحساس بالهواء البارد على الجلد مباشرة، والصدمات الحرارية التي يمر الجسد بها وهو يتحرك داخلًا وخارجًا من الفضاءات المكيفة أو التأثيرات العاطفية والحسية التي يربطونها بقضاء أوقات مطوّلة في العمارات المغلقة والمسيطر عليها تقنيًا. لا تكشف هذه التجارب والاستجابات بأن الرغبة بتكييف الهواء ليست مطلقة فحسب، بل وتشير إلى مشكلة شائعة: إذ غالبًا ما يصمم المهندسون حلولًا دون أخذ تجربة الأشخاص المعنيين بالاعتبار.

يعتمد المهندسون اليوم في البحرين وغيرها من بلدان الخليج على معايير التكييف التي أرستها الجمعية الأمريكية لمهندسي التبريد والتدفئة وتكييف الهواء (ASHRAE). تفشل هذه المعايير، والتي تحدد شروطًا عالمية للراحة، في التعامل مع جزئية أن الراحة الحرارية هي مسألة ثقافية واجتماعية وليست عالمية ولا ثابتة. يفسر خبير من البحرين في مجال التصميم المستدام نقده لمعايير الجمعية الأمريكية (ASHRAE)، «هذه معايير علمية، ولكن هل هي دقيقة؟ لست أدري. لو كنت مهندسًا سأجلس مع القاطنين في العمارات لأعرف ما تعني الراحة لهم. فليس من المنطقي القول إن مقاسًا واحدًا يناسب الجميع».

إن جزءا من المشكلة هو أن معايير (ASHRAE) للراحة قد اشتقت من دراسات أجريت على سكان مختارين لا يمثلون بالضرورة تجربة الناس في الخليج. إذ أجريت هذه التجارب في البداية حصريًا على شباب من الذكور الأمريكيين المنتمين إلى العرق الأبيض. واليوم يُدفَع بتاريخ معايير (ASHRAE) إلى الواجهة، حيث يوثق المعلقون في بقاع مختلفة من العالم تعارضًا يحمل تحيّزا جنسيًا فيما يتعلق بالراحة في مكان العمل، مما دفع البعض لوصف تكييف الهواء على أنه «آلة جنسية» مصممة لتلائم راحة الذكور. ولا تختلف الرواية كثيرًا بالنسبة للعديد من النساء العاملات في البحرين. يطرح هذا بدوره سؤالًا واضحًا: إذا لم يكن الناس مرتاحين بالبيئة التي يقدمها المهندسون، كيف يمكن تعديل القرارات الهندسية بطريقة تستوعب توقعات الناس ورغباتهم الحقيقية؟

من الواجب في زمن يهدد فيه الاحتباس الحراري الحياة على الكوكب، ويواجه العالم شحًا في الطاقة نظرًا للصراعات والتحولات في الجغرافيا السياسية، لا مفر من ضرورة التحقق من الافتراضات الكامنة وراء استهلاكنا المفرط للطاقة. لدى الخليج بعض أعلى أرقام استهلاك الطاقة بالنسبة للفرد الواحد في العالم، والكثير منه ناجم عن التبريد الصناعي. بدلًا من البحث عن حلول تقنية إضافية، مثل الطاقة الشمسية أو الطاقة المناطقية، يمكننا البحث عن حلول توفرت في الماضي، ولم تحتج إلى أي مقدار من المدخلات الأحفورية. ربما نستطيع من خلال تحدي الفرضيات المعمارية والهندسية، كسر هذا الاعتماد على تقنية يجدها الكثيرون غير مريحة على أي حال. وإذا ما استطعنا ذلك، لن يحسّن هذا حياة السكان المحليين الذين يعانون من فرط التبريد فحسب، بل وسيساعد أيضًا على تقليص انبعاثات الكربون. إنه توجه يحقق مكاسب للجميع، ومع ذلك سيطر مكيّف الهواء على حياتنا لدرجة يبدو معها التخلص منه مستحيلًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية