رغم أهمية مصطلح وحدة الساحات المستجد، والذي قدمته المقاومة وقواها المختلفة على اعتباره مفهومًا ناظمًا لعملها، يسعى في جوهره للوصول إلى حالة تشبه تلك الاتفاقات التي ربطت العديد من الدول العربية باتفاقات حرب وسلم مشتركة منتصف القرن العشرين، مثل اتفاق الدفاع المشترك بين سوريا ومصر، إلّا أنه ما زال مفهومًا يحتاج لمزيد من التبيين.
يستهدف مفهوم وحدة الساحات تحقيق ثلاثية مهمة، فهو موجه بداية نحو أفراد وكوادر وقوى المقاومة بكافة التشكيلات والتناقضات التي تتألف منها، بمعنى أنه يسعى لصياغة وجهة استراتيجية-سياسية بحيث تندرج كافة أعمال المقاومة تحت مِظلّة المفهوم الواسعة، وبالتالي يصبح فعلٌ مقاومٌ في جنين رغم كونه فعلًا محليًا وله دينامياته الخاصة إلا أنه مرتبطٌ وينتمي لهذا المظلة والتي بدورها تربط أفعال أخرى في غزة ولبنان وسوريا ببعضها. بكلمات أخرى، يعمل هذا المفهوم على ربط متخيلٍ-أيديولوجي، ولكنّه ربطٌ يمتلك عنصر الإجماع على هدف مشترك بين الجُغرافيات والتنظيمات والقوى العاملة تحت المظلّة نفسها، كما أنه يُلزِم أي تحليل بأن يخرج من سياقه المحلي البحت ويربطه بتلك الأبعاد الأيديولوجية والسياسية.
أمّا البعد الثاني للمفهوم فهو إمكانية شرعنة الحرب في مخيّلة وتصورات المجتمعات العربية والإسلامية، خاصة تلك الشعوب التي إذا ما اندلعت الحرب فستدفع أثمانها أيضًا. بمعنى أنه يأتي في ظل بحث محموم ليس فقط عن هدف سياسي-استراتيجي، بل أيضًا عن قاعدة تشرعن العمل المقاوم خاصة بعد عقد من الحروب الأهلية التي اندلعت عقب الثورات والاحتجاجات في العديد من الدول العربية، وما خلّفته من انقسامات حادة في العديد من الدول التي ترتبط بجغرافيا المقاومة. بمعنى أخر، يأتي هذا المفهوم ليضع هدفًا استراتيجيا ووجهة له، ولكنه بالوقت نفسه يقدم قوة تفسيرية لضرورة المقاومة وحاجتها في مخيلة المجتمعات العربية، خاصة وأن وحدة الساحات ارتبطت ببدايتها وما زالت بالصراع حول البلدة القديمة في القدس والمسجد الأقصى، كموقع تتكثف فيه العديد من الرمزيات الدينية والقومية العربية والاسلامية.
أمّا البعد الثالث لهذا المفهوم فهو كامن فيما يشير إليه من تحولات وتغيرات في المقاومات بالمنطقة. فهو يشير بشكل لا لبس فيه إلى فائض قوة لدى المقاومة يحتاج بدوره لصقل مفهوم يوازي هذا التحول؛ من مقاومات دفاعية تسعى إلى إيلام العدو بضربات مكثّفة تفضي لرحيله وإخلاء أراضي تعيش فيها المقاومة والعدو بالوقت نفسها (الضفة الغربية مثالًا) إلى واقع يُحصّن فيه العدو نفسه بجدران اسمنتية وقبب حديدية ويعاني من أزمة الفعل الهجومي بالعديد من الساحات (خاصة في لبنان) وإلى حد ما في غزة أيضًا. بتعبير آخر، شهدت العقود الثلاثة الماضية تحوّلًا لافتًا في بنية المقاومة وتنظيمها لنفسها، وفي قدرتها على بناء بيئات متعددة قريبة لها، بل وفي بعض الأحيان في تحولها إلى جيش نظامي. فعند الحديث مثلا عن كتائب عز الدين القسام فنحن نتحدث عن بدايات مكوّنة من عشرات الأفراد العاملين على شكل خلايا موزعة، والتي كانت في الكثير من الأحيان تبادر بشكل مستقل عن التنظيم المركزي وصولًا إلى جيش يصل تعداده إلى عشرات الآلاف من المقاتلين بحسب بعض التقديرات الإسرائيلية، ناهيك عن القوى العسكرية الأخرى. ما أقوله هو أن هذه القوة والأدوات والتكتيكات العسكرية تحتاج إلى وجهة ما تتأطر فيها وتسعى إليها.
ما يقدمه مفهوم وحدة الساحات باختصار هو شرعنة العمل المقاوم، وربط قوى تمتلك مخزونًا من التناقضات ببعضها، كما أنه يسهم في بناء هدف وإجماع سياسي بين هذه القوى.
ما يقدمه مفهوم وحدة الساحات باختصار هو شرعنة العمل المقاوم، وربط قوى تمتلك مخزونًا من التناقضات ببعضها، كما أنه يسهم في بناء هدف وإجماع سياسي بين هذه القوى. وبينما لا يصل هذا المفهوم إلى اتفاقية دفاع مشترك، إلا أنه يقترب من هذا النوع من الاتفاقيات بحيث يشكل رويدًا رويدًا إمكانيات متعددة ويعقّد حسابات الحرب والسلم بالعلاقة مع دولة الاحتلال.
بطبيعة الحالة فإن «لا-وضوح» المفهوم يعبر عن تناقضات متعددة تدخل عملية صياغته وترجمته للواقع العملياتي والعسكري. فهذا الغموض يعني أن دولة الاحتلال عليها تصميم عملياتها العسكرية آخذة بعين الاعتبار إمكانية تطوّر أي مواجهة صغيرة لحرب إقليمية متعددة الجبهات. وبالوقت ذاته يمنح لا-وضوح المفهوم إمكانية المراوغة بحيث تحدد المقاومة متى تتدخل أو ما هي خطوطها الحمراء أو متى يكون الرد موسعًا ومن كافة الجغرافيات ومتى يكون محدودًا ومن موقع محدد أو متى لا يكون هناك رد.
يمكن القول إن اللا-وضوح يشكل بعدًا هامًا في الوظيفة المرتبطة بمفهوم وحدة الساحات، أي أنه غموض متعمد، إذ يتيح للقوى المنضوية تحت مظلة العمل المقاوم المساحة لتعريف المفهوم بأشكال متعددة وضمن استراتيجياتها ورؤاها الخاصة، مما قد يؤدي أيضًا لالتباس وسوء إدارة للمعركة بين القوى المختلفة.
الربط والفصل: قصتنا مع الاستعمار
لا نبالغ إن قلنا إن الاستعمار يعيش ويبقى بقدرته على الفصل وفك الروابط في المجتمعات التي يستعمرها. بمعنى أن الشغل الشاغل لأي قوة استعمارية هو تدمير كل الروابط الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية والجُغرافية التي تشكل خطرًا على بقائه، وإعادة إنتاج المجتمعات التي يستعمرها بروابط منزوعة عن تلك السابقة. ففي غرف التحقيق يتم فصل الروابط التنظيمية أو الصداقات الحميمة، وفي السياسات الاقتصادية يتم خلق طبقات متناقضة موجِّهة سياطها نحو بعضها، وبخلقها لآليات التعاون مع الاستعمار يتم تشكيل بنى تعمل على نزع «الثقة الاجتماعية» التي تشكل عمودًا أساسيًا في بناء الروابط السياسية والاجتماعية. المقولة القديمة التي تقول إن الاستعمار قائم على فكرة فرق تسد صحيحة، ولكنه أيضًا قائم بالدرجة نفسها على ما يتيحه من روابط أيضًا. بالفعل، ويمكن النظر للتقسيمات الجغرافية بين قدس وضفة وداخل وغزة وشتات لتظهر لنا قوة الفصل والربط التي تمتلكها دولة الاحتلال. بل إنها ترمز لتلك القوة بمنظومات مادية: هويات وجدران وتصاريح وحقوق وتحديد حرية الحركة وممارسات الحرب.
في ظل قوة الربط والفصل هذه يأتي مفهوم وحدة الساحات ليجسّد في المخيلة ما هو كامن ومحتمل في الواقع، أي القدرة على تجاوز العديد من التناقضات ليس فقط في فلسطين وجغرافيتها الممزقة، بل أيضًا في المنطقة، حتى الوصول إلى وحدة في الحرب والسلم ونزف الدماء. لهذا يشكل هذا المفهوم خطرًا على المستعمِر، لأنه إعادة إنتاج لحلم عربي قديم بهيئة وصيغة وضمن حدود تاريخية مختلفة، حلم تطوير وبناء مجتمعات عربية وإسلامية تستطيع تحدي الوجود الصهيوني وإنهاءه. وهذه المهمة ليست بسيطة فهي تتضمن تجاوز العديد من النزعات الانعزالية والوطنية الضيقة، كما أنها تأتي في سياق تاريخي تحاول فيه بعض القوى إخراج فلسطين من وجدان الإنسان العربي. ويمكن القول إن تجسيد هذه الوحدة على مستوى الحرب، بل أيضًا إعادة تعريف كل جغرافيا كساحة هو بحد ذاته فعل ينزع عن تلك الجغرافيات ادعاءها الانعزالية أو مصالحها الضيقة، فهنا تُقدّم لنا خارطة متخيلة جديدة تجعل من لبنان وسوريا والضفة وغزة القدس ساحات حرب لها وجهة وميعاد واحد.
ماذا يعني كل هذا؟
هل اعتقال قائد سياسي في الضفة الغربية سيؤدي لحرب في غزة؟ أم أن استشهاد قائد كالشيخ خضر عدنان سيؤدي إلى حرب في لبنان؟ هل دخول مستوطن بقربان إلى الأقصى سيبدأ حربًا جديدة؟ هل بناء وحدة استيطانية في الضفة سيؤدي لرد فعل من سوريا؟ هل تهجير حي الشيخ جراح سيؤدي لصواريخ تنطلق صوب تل أبيب؟ وهل اغتيال في غزة سيؤدي إلى فعل مقاوم في الضفة الغربية؟
يمكن لنا تخيل التبعات السياسية والاستراتيجية لمفهوم كوحدة الساحات، إذ يحدّ من قدرة العدو على حسم قضية فلسطين عبر التقدم والخطوات الصغيرة والبطيئة، كبناء حي جديد في مستوطنة، أو في سعيه للتقسيم الزمني في الأقصى، أو في قدرته على ممارسة سلطة الاعتقال والموت في الضفة الغربية، أو أي فعل من شأنه أن يؤدي إلى نتائج وخيمة تدخله في دورة صراع عسكري مع جبهات مختلفة ومتعددة. هذا بالطبع يعتمد على ما تنتقيه المقاومة كمحفز لفعلها وربطها للساحات. وقد تكون نقاط الاختلاف هنا تحديدًا بين بعض قواها، بين من يسعى لتقويض قوة الاعتقال والاغتيال في الضفة على سبيل المثال وليس الحصر، وبين من لا يرى سبيلًأ للمواجهة إلّا عندما يرتبط الأمر بالمسجد الأقصى.
غموض مفهوم وحدة الساحات يعني أن دولة الاحتلال عليها تصميم عملياتها العسكرية آخذة بعين الاعتبار إمكانية تطور أي مواجهة صغيرة لحرب إقليمية متعددة الجبهات.
لكن على أي حال، لم تصل قوى المقاومة بعد إلى هذا الشكل من القدرة على التأثير على ممارسات العدو وتفكيره ووعيه. لكنها بالتأكيد منحتنا القدرة على البدء بطرح هذه الأسئلة الهامة؛ هل يمكن لنا في فلسطين توظيف محاولات ربط الساحات في وجه الحرب البطيئة التي يشنها العدو على كافة مجالات الحياة (مصادرة الأراضي، الاعتقال والاغتيال، بناء وحدات استيطانية، تهميش الوعي الفلسطيني بالمناهج وغيرها من قضايا هامة)، وكيف يمكننا تحويل القوة العسكرية لرادع في هذه الحرب البطيئة، أو ما يطلق عليه الأستاذ خالد عودة الله «حرب النقاط»؟
ما يميّز الاستعمار الاستيطاني ليس فقط قدرته على الفصل والربط بالمعنى الاجتماعي والسياسي وعلى مستوى المخيّلة، ولكن أيضًا أنه في السنوات الماضية سعى -وما زال يسعى- إلى توسعة حضوره ووجوده المادي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأنه يدير حربه هذه ببطء بحيث يمكن القول إن كل توسع وكل تنازل رمزي وكل بناء جديد هو جزء من حرب النقاط هذه. وهنا ما تسعى إليه المقاومة التي تكمن خارج الفضاء المباشر لحرب النقاط هذه هو أن تُقحِم نفسها في هذه الحرب، وأن يصبح لها دور من داخل ساحة الضفة الغربية والقدس والداخل، ومن خارجها.
وهذا أيضًا ما يثير قلق الاحتلال وقادته؛ أنه في معادلة الحرب والسلم اليوم يبدو أكثر «دفاعيّة»، محاولًا الحفاظ على تقدمه البطيء في الضفة الغربية، بينما يسعى أيضًا إلى جعل وحدة الساحات مفهومًا لا يملك العديد من عوامل التأثير على الحياة اليومية تحت الاستعمار، ولا يمكن أن يشكل نقطة ردع وتحوّل في هذه الحرب. ما نجحت فيه «وحدة الساحات» هو أن تصبح هاجسًا وقلقا خاصة فيما يرتبط بالتطورات بالقدس والأقصى والأسرى.
خضر عدنان والجولة الحالية
هناك شيءٌ من روح خضر عدنان في مفهوم وحدة الساحات. ولربما أهمّ ما قدمه الشهيد خضر عدنان في تاريخه الشخصي هو أنه لم يأخذ على محمل الجد ما يقوله الآخرون حوله عن «الاستحالة». فقد أضرب عن الطعام في وجه الاعتقال الإداري، ولكنّه أصرّ أيضًا على الإضراب في وجه الاعتقال المحمول على «لوائح الاتهام». حمل جسده النحيل في أزقة المخيمات والقرى والبلدات والمدن دون أن يهاب الموت، مشكّلًا علاقة مع كل من يقف ضد الظلم ومع كل من قال لا في العقدين والنيف الماضيين. وكأنما جسده كان يشير لنا دوما نحو ما هو كامن وممكن وقابل للتحقق.
لطالما أشار خضر عدنان، بجسده، إلى ما هو ممكن، فاتحًا أفق التخيّل وأفق التساؤل. هذا أيضًا ما يجعل من مفهوم وحدة الساحات مفهومًا خطيرًا هاجسًا عند العدو، لأنه يؤزّم كل فعل توسعي صغير، وكل عملية اعتقال، وكل عملية بناء منزل في مستوطنة، وكل عملية اغتيال، حتى أنه يصير، رويدًا رويدًا، جزءًا من عمليات الحساب الصهيونية في بعض الملفات الحساسة، ولنا أن نتخيل مرحلة مستقبلية يتحوّل فيها قرار اعتقال طفل من مخيم قلنديا إلى مسألة تحتاج موافقة رئيس الحكومة لما سيشكله من تداعيات على معادلات القوة بين المقاومة والاحتلال.
وبهذا السياق، تأتي أولًا وقبل كل شيء أهمية الرد الإسرائيلي على إطلاق أكثر من مائة صاروخ عقب استشهاد الأسير خضر عدنان. إذ هي محاولة موجهة أساسًا للقيادة التي اتخذت قرار مباشر بإطلاق الصواريخ. وفيها رسالة من الاحتلال أنه لن يسمح بعملية ربط الساحات، وسيدفّع كل من يمضي بهذا المسار الثمن، لأنه يرى أن نجاح الربط بملفات حساسة يعني بداية فشل المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية على أقل تقدير. خاصة وإن كانت عملية ربط الساحات قائمة على تنظيم سياسي-اجتماعي في الضفة الغربية والقدس يستطيع بناء حواضن واستراتيجيات وتكتيكات عمل تزيد من عمليات التأزيم في حرب النقاط مع العدو.
حسابات العدو: الرد بعد انتظار
أدّى عدم الرد بصورة كافية على الصواريخ التي أطلقتها المقاومة عقب استشهاد خضر عدنان، من منظور بعض الأحزاب اليمينية إلى تفاقم أزمة الائتلاف الحاكم خاصة بين إيتمار بن غڤير وبين نتنياهو. فقد استنكف بن غڤير عن العمل والمشاركة في الجلسات الحكومية واضعًا ضغطًا على رئيس الحكومة لإعادة النظر بطبيعة الرد.
يمكن القول إن أحد الخطوط الناظمة للفروقات الأيديولوجية بين الأحزاب والتوجهات الصهيونية المختلفة يرتبط أيضًا بطبيعة القوة العسكرية التي يمتلكها العدو، ومع كونه يمتلك قدرات فتاكة، من قبيل الأسلحة النووية، والقوة الجوية والبحرية، والأسلحة الحديثة والدقيقة، إلّا أنه غير قادر على حسم الصراع في القدس والضفة الغربية. وهنا، يمكن قراءة أيديولوجية اليمين الصهيوني على أنها أيدولوجيا تسعى لتحرير قبضة الصهاينة من ضوابط العمل العسكري المرتبط بقوننته وادعاءاته الأخلاقية إمّا من خلال الصراع على إطلاق سراح أي نمط من الضوابط، أو من خلال تشكيل وبناء مليشيات متحررة من تلك الضوابط. وهنا دعونا لا ننسى أن التقنية والأداة والقدرة ونوع السلاح كلها نتاج تفاعلات اجتماعية ومادية، كما أنها في العديد من الأحيان مؤثرة في تطوير أيديولوجيات سياسية ودينية. وإن كانت الأيدولوجيا المهيمنة في المجتمع الصهيوني قد أنتجت القبة الحديدية، وهي أداة دفاعية تغني عن الفعل الهجومي، فإن ما يمثّله بن غڤير، بعيدًا عن شعبويته، هو هذا الوعي بضرورة إطلاق سراح القوة النارية التي يمتلكها العدو.
يشكل مفهوم وحدة الساحات خطرًا على المستعمِر، لأنه إعادة إنتاج لحلم عربي قديم بهيئة وصيغة وضمن حدود تاريخية مختلفة، حلم تطوير وبناء مجتمعات عربية وإسلامية تستطيع تحدي الوجود الصهيوني وإنهاءه.
ضمن هذه التناقضات وفي ظل عدم الرد على ما حصل من إطلاق صواريخ من لبنان على دولة الاحتلال قبل شهر احتاج العدو لأن يظهر مرة أخرى قوته الاستخباراتية وقدرته النارية. أهم ما يمكن أن نقوله حول العملية التي أقدم عليها الاحتلال في قطاع غزة هي إنها تندرج في إطار محاولة استمرار فصل ساحات المقاومة، ولكنها أيضًا تخرج من ضمن تناقضات داخلية إسرائيلية ترى ضرورة القضاء على ظاهرة المقاومة في الضفة الغربية ما يتطلب استمرار فصل الساحات عن بعضها البعض، وكما أنها تسعى لمعالجة أي تصور لدى المقاومات وجمهورها حول ضعف دولة الاحتلال في ظل تعاظم صراعاتها السياسية والاجتماعية الداخلية.
لم تكن العملية بأي مقياس جراحية خاصة في الجانب التنفيذي لها، بل كانت عملية دخل عليها الاحتلال وهو يعلم أنه سيتسبب بمجزرة، مستهدفًا بشكل أساسي القيادة التي اتخذت القرار بالرد على استشهاد الشيخ خضر عدنان. كما أنه مرّة جديدة يوظف فيها العديد من الطائرات الحربية ضمن عملية ترتبط بثلاثية: زمنية المعلومات الاستخباراتية التي تحتاج إلى عدة طائرات وتوظيفها في لحظة تأكيد المعلومة حول موقع شخوص محددة، وتدريبًا للطائرات الحربية لخوض مناورات جوية متزامنة ضمن تجهيزات العدو للحروب القادمة، وبالغالب أيضًا محاولات تمويه وضرب لحظي لأي رد فعل مباشر لعملية الاغتيال.
يحاول العدو بناء معادلة تحول دون أن تقوم المقاومة بتوجيه ضربات وجهتها السياسية منع الاعتقال، أو إسناد الأسرى، أو تحديد حدود واضحة في مسجد الاقصى، أو حماية عناصر المقاومة في الضفة الغربية، أو إيقاف الاستيطان أو غيرها من الإمكانيات التي يمكن لوحدة الساحات أن تفرضها. المهم في الأمر أنه منذ أربع او خمس أعوام ما زالت المقاومة تسعى لتعميق أوصال العلاقة السياسية والعسكرية بين الساحات الجغرافية والسياسية المختلفة، وما زال الاحتلال يحاول منع هذا التطور. باختصار، هناك مقاومة تبادر وتدفع ثمن مبادرتها، وهناك من يقاتل للحفاظ على الوضع القائم في حرب النقاط البطيئة.
حسابات المقاومة: الرد بعد الانتظار
ألقى انتظار المقاومة قبل الرد على جريمة الاغتيال تكهّنات حول تصدعاتٍ ما في غرفة العمليات المشتركة، وحول عدم قدرة حركة الجهاد الإسلامي على القيام بعملية ردّ موسّعة بعد فقدانها ثلة جديدة من قياداتها. وهي تحليلات روّجت لها الأبواق الإعلامية القريبة من الاحتلال.
وفيما أراد الاحتلال تحديد سقف ردّه، بحيث يقتصر على حركة الجهاد، وهو الأمر الذي طرح سؤال هل يدفع هذا الرد دخول حركة حماس إلى خط العمليات ضد الاحتلال، فإنه في الوقت ذاته كان حريصًا على أن يكون الرد ضمن سقف زمني يتيح عودة الحياة الطبيعية في دولة الاحتلال دون تأخير طويل. ولذا فإن الانتظار الذي فرضته المقاومة أضاف هاجسًا في أروقة صنع القرار في دولة الاحتلال، أولًا لشكل الرد الذي قد يكون مفاجئًا (رد يبتعد عن ضرب الصواريخ)، أو لربط الرد بتطورات أخرى مثل مسيرة الأعلام والتي من المنوي أن تجري في الفترة القادمة وأن تمر من الأحياء العربية في القدس المحتلة، أو بِجهات الرد وجبهاته. بمعنى هل يأتي الرد من قطاع غزة أو من الجبهات والساحات الاخرى.
بطبيعة الحال، العلاقة الحالية بين دولة الاحتلال وقوى المقاومة هي أقرب ما تكون لعملية حسابات تفصيلية تتضمن على سبيل المثال في الجولة الحالية: الإبقاء وتحسين الوضع الاقتصادي لغزة، وعدم الانجرار إلى حرب واسعة مكلفة، والإبقاء على الحسابات الإسرائيلية بحيث يكون اتخاذ قرار اغتيال قيادات أمرًا لا يستسهل الاحتلال القيام به بشكل دوري ودائم، وتوفير مرونة بحيث يمكن للمقاومة إدخال نفسها في حسابات العدو بجغرافيات وساحات سياسية أخرى على قاعدة الوصول إلى توحيد ساحات فاعل. علينا أن نذكر هنا أن توحيد الساحات لا يتطلب بالضرورة حربًا واسعة بقدر ما يرتبط بربط قرار الحرب والسلم، أو قرار تفعيل العمل المقاوم بما يرتبط بقضايا سياسية في ساحات أخرى.
لهذا سيكون الرد ضمن حدود العوامل هذه، وفي إطار منظومة الحسابات المعقدة التي يضعها الاحتلال والمقاومة معًا ضمن الاحتكاك الاستراتيجي والتكتيكي بينهما. هذه الحسابات أحيانًا ما تكون فعلًا رياضيا، أي أنها تبني نماذج لكل فعل ولردود الأفعال الممكنة ولحدود تلك الردود، كما أنها قائمة على نظريات تجمع بين عوالم الرياضيات والتنافس في الاقتصاد الكلاسيكي (Game theory). بمعنى كيف تفهم خيارات العدو؟ وكيف تصقل له خياراته؟ وكيف تفهم خياراتك وكيف تصقل أيضًا خيارتك متجنبًا الاسوأ أو ساعيًا لأفضل الخيارات السياسية الممكنة.
ما يهمنا هنا هو أن اسم اللعبة ومنطلقاتها حددتها «المقاومة»، بمعنى أن «إسرائيل» اليوم تلعب لعبة فصل الساحات كرد على لعبة توحيد الساحات. وهذا يُظهِر تحوّل المقاومة من حالة دفاعية إلى حالة أقرب للتوازن الاستراتيجي مع الاحتلال، وهنا لا أتحدث عن المقاومة في فلسطين فقط، بل عن المقاومات في المنطقة. وحدة الساحات هي إماطة واكتشاف لحدود يمكن اختراقها، ولقضايا يمكن تأزيمها عند العدو، ولأهداف سياسية يمكن ربطها بالقوة العسكرية للمقاومة في المنطقة.