في الوقت الذي كانت فيه الحكومة الأردنية مساء الأربعاء تعقد مؤتمرًا صحفيًا في مقر رئاسة الوزراء لتعلن فيه ترتيبات إجراء الانتخابات النيابية، بين مواضيع أخرى، كانت مجموعات من مئات المعلمين والمتظاهرين تتوزّع في الشوارع المحيطة بالمقر، قرب الدوار الرابع، بعد أن فضّت قوات الشرطة والدرك تجمّعاتهم ومنعت المظاهرة التي دعا إليها ما تبقى من قياديي نقابة المعلمين الأردنيين اليوم، إثر اعتقال جميع أعضاء مجلسها ومعظم رؤساء فروعها.
منذ يوم السبت، الذي جرت فيه الدفعة الأولى من الاعتقالات بناءً على قضايا مرفوعة على نقابة المعلمين، شرحت الحكومة باستفاضة وفي أكثر من مناسبة اعتراضاتها على النقابة، وفي مقدمتها ما أسمته «الاستقواء على الدولة». هذا الموقف الرسمي الذي قُدم بالتصريحات الصحفية وبالفعل الأمني في الشارع يعكس فهم السلطة الحاكمة لمجموعة من المفاهيم المؤسِّسة لأي حياة سياسية ديمقراطية، من العمل السياسي والحزبي والنقابي، إلى قواعد النقاش العام.
استهلّ وزير الدولة لشؤون الإعلام حديثه يوم الأحد بالقول إن الحكومة ستتجنّب الخوض في قضايا منظورة أمام القضاء «احترامًا لمبدأ فصل السلطات»، وأكد وزير العدل منع النشر في القضايا المذكورة، سواءً في وسائل الإعلام أم على منصات التواصل الاجتماعي. لكن ما تلا ذلك من تصريحات كان خوضًا في نقاش سياسي حول المسألة، إنما من طرف واحد. فمقابل الرواية الرسمية حول تمادي مجلس النقابة وخروجه عن قواعد العمل النقابي المهني وتعديه على حق الطلبة، لم تكتف الحكومة بإلغاء أي مساحة للنقابة لتدافع عن نفسها أو تقدّم روايتها، ومعظم قياداتها باتوا في السجن، بل لم تسمح لوسائل الإعلام بإتاحة مساحة لنقاش عام حول مسألة بهذا الحجم والخطورة، لتكتفي بتدوير رواية الحكومة.
بات واضحًا أن فحوى هذه الرواية الرسمية هو أن وجود مؤسسة منتخبة تمارس العمل النقابي هو ببساطة غير مقبول رسميًا في الأردن.
بات واضحًا أن فحوى هذه الرواية الرسمية هو أن وجود مؤسسة منتخبة تمارس العمل النقابي هو ببساطة غير مقبول رسميًا في الأردن. ففي هذه الرواية، أي فعل منظّم تبادر به النقابة لتحصيل مطالب منتسبيها هو مناكفة واستقواء ومغالبة. ومن أجل تكريس هذه الصورة، تم التركيز على مطلب العلاوة الذي كان أبرز مطالب إضراب العام الماضي، وعلى أن خصم العلاوات طال جميع موظفي الدولة المدنيين والعسكريين، في تجاهل لحقيقة أن هؤلاء لم يوقعّوا مع الحكومة اتفاقية تشمل مطالب أخرى، وتم بموجبها وقف الإضراب، وهذا ليس بالفرق الهيّن. وفي نقاش احتمال الإضراب، الذي لم تفعل النقابة العام الحالي سوى مجرد التفكير باللجوء إليه كخيار أخير، ألقيت مسؤولية الحفاظ على العملية التعليمية والحق في التعليم على عاتق النقابة وحدها، ليصبح التلويح باللجوء للإضراب تنصلًا من هذه المسؤولية.
لقد جرى تبرير ما حدث باتّهام النقابة بـ«الابتعاد عن حقيقة العمل النقابي» و«ممارسة الأنشطة الحزبية»، في إشارة ضمنية إلى سيطرة الإسلاميين على النقابة، وهي مقولة هشّة لعدة أسباب. فمن جهة، من الواضح أن الحركة الاسلامية في الأردن في أضعف أحوالها التنظيمية والسياسية، ولا تستطيع أن تخوض مثل هذه المعركة بشكل مباشر أو بالوكالة، وموقف جماعة الإخوان المسلمين وجبهة العمل الإسلامي الهزيل مقارنة بما صدر عن جهات حزبية أخرى دليل على ذلك. ومن جهة أخرى، فإن تركيبة مجلس النقابة أشد تعقيدًا من التقسيمات الحزبية التي تحاول السلطة حشر النقابة فيها.
هذا الاتهام الضمني بتسييس النقابة ليس جديدًا، بل هو أداة تاريخية للهجوم على العمل النقابي، طالت العديد من النقابات المهنية والعمالية، وهو ما يحيلنا إلى نقاش مساحة العمل النقابي أمام السياسي. فرغم أن أي عمل نقابي حقيقي لا يمكن أن يكون خارج إطار العمل السياسي، وإن لم يكن هذان المجالان متطابقين، من المهم أن تناقش هذه المسألة في سياقها. فهنالك فرق بين سياق نشأة وتطور النقابات المهنية في ظل الأحكام العرفية وغياب العمل الحزبي، وسياق نشأة وتطور نقابة المعلمين الذي اتخذ الحيز المهني المساحة الكبرى فيه، ويظهر هذا بوضوح في الفرق في مطالبها وخطابها إضافة إلى التركيبات الانتخابية التي تتشكل المجالس على أساسها. وإن كان من وجاهة لهذه الحجة، أي ضرورة التمييز بين العمل الحزبي والنقابي، فإنها بالتأكيد لن تأتي من سلطة تضيّق على العمل الحزبي، وتوقف أمينًا عامًا لأنه عبّر عن رأيه في مقال، ثم تعزو ضعف المشاركة السياسية إلى «خلل في الثقافة المجتمعية»، لا إلى مصادرة مساحات العمل السياسي والحزبي وانسداد الأفق الديمقراطي.
تصوير مجلس النقابة على أنه يحرك أعضاءها لغايات فئوية وكيفما يشاء، يعكس عجزًا عن فهم أسس العمل الديمقراطي المنظم. فالهيئة العامة للنقابة وعموم منتسبيها من المعلمين والمعلمات لا يُرَون إلا كبيادق في يد المجلس، لا كأعضاء فاعلين انتخبوا مجلسًا يمثلهم وتربطهم به علاقة ديناميكية؛ بين دور المجلس في القيادة والتنظيم، ودور الأعضاء في إيصال تيار يعبر عن برنامج بعينه للمجلس ومحاسبته انتخابيًا عليه. ومن المفيد أن نتذكر أنه حين دعا أولُ مجلسٍ لنقابة المعلمين إلى إضراب مفتوح بالتزامن مع احتجاجات تشرين الثاني 2012 على إثر قرار حكومة عبد الله النسور برفع أسعار المحروقات، تراجع المجلس عنه قبيل موعد الإضراب، ليستبدله بإضراب ليوم واحد، بعد أن تشكّل انطباع عام بعدم تجاوب الهيئة العامة مع الدعوة للإضراب.
القفز عن إرادة منتسبي النقابة، الذين يتجاوز عددهم 100 ألف شخص، لم يكن حكرًا على السلطة، فالبحث عن ذرائع للتنصل من الدفاع عن النقابة قاد العديد من النخب كذلك إلى ترديد مقولة إن ما يجري هو معركة بين الدولة والإسلاميين. ولعل تصنيف «الإسلاميين» بات يستخدم اليوم أكثر من أي وقت مضى للدلالة على جماعة اجتماعية متخيلة، شكّلها مزاج «ليبرالي» عام يهيمن على فئات من الطبقات الوسطى وممثليهم، لا تعبر بالضرورة عن تيار أو حزب محدد. هنا، يجدر التذكير بأن أساس الحريات العامة، الحامل والضامن للحريات الأخرى، هو حرية الناس في تنظيم أنفسهم نقابيًا وسياسيًا. وحين يغيب الدفاع عن الحق في التنظيم بناءً على مناكفات سياسية تخاض حولها معارك وهمية، يصبح الدفاع عن الحريات العامة تعبيرًا ثقافيًا عن نمط حياة فئات اجتماعية بعينها، لا مبدأً عامًا.
وكما يجري تقويض مثل هذه المبادئ السياسية، يجري إفراغ الكثير من المفاهيم من معناها عبر تمرير تناقضات فاقعة. إذ يدور الحديث حول «دولة المؤسسات» في حين يتم التضييق على مساحات العمل المؤسسي المهني والجامعي، ويتم الترويج لـ«التسامح والحوار» بالتزامن مع محاولات لتأليب الرأي العام على هيئة نقابية منتخبة، ويدعى لـ«المشاركة السياسية» في حين تُقزّم المؤسسات التمثيلية النقابية وتُجرد من أدوارها، لتغدو مؤسسات صورية على شاكلة المؤسسات التمثيلية السياسية والنقابية الأخرى؛ فجزء من الصدام القائم اليوم يدور حول صلاحيات النقابة ومساحات «تدخلها في سياسات التعليم والمناهج»، والتعامل مع المعلم كأداة لتسيير العملية التعليمية، لا كفاعل أساسي فيها وشريك في رسمها.
حين لا تقدم النقابة -أي نقابة- تصورًا للارتقاء بالمنظومة التي تحكم مجالها، وتبحث عن أدوات ضغط توظفها لتحقيق مطالبها، وتعمل على تحشيد أعضائها للمشاركة المنظمة في ذلك؛ تصبح النقابة عندها أقرب إلى جمعية أو نادٍ يجمع أعضاءه اهتمامٌ مشترك، منها إلى مؤسسة منتخبة تسعى لحماية منتسبيها والدفاع عنهم وتغيير واقع عملهم. هذا، على ما يبدو، هو السقف المسموح به للعمل النقابي في الدولة الأردنية، وهي على أعتاب مئويتها.