«طوفان الأقصى»: نحن وأمريكا

السبت 21 تشرين الأول 2023
PALESTINIAN-ISRAEL-CONFLICT-GAZA غزة فلسطين قصف
فلسطينيون يبحثون عن ناجين وسط الركام بعد قصف إسرائيلي على رفح، 16 تشرين الأول 2023. تصوير محمد عابد. أ ف ب.

تحيط البوارج وحاملات الطائرات الأميركية بفلسطين المحتلة. يتوافد المسؤولون الأميركيون إليها في حج متواصل. ينخرط القادة السياسيون والعسكريون الأميركيون مباشرة في الإشراف على المعركة. وتتدفق الأسلحة الأميركية إلى «إسرائيل» عبر جسر جوي عسكري لا ينقطع، في تجسيد مادي للجسر الذي تمثله المستعمرة كامتداد للمصالح الغربية والأميركية في منطقتنا. لا يمكن لعينٍ صديقة أو عدوة أن تخطئ اليوم أن الولايات المتحدة في قلب الحرب، وأن ما تفعله ليس انحيازًا أو دعمًا، فهي تخوض المعركة بالأصالة عن نفسها، لا بالنيابة عن «إسرائيل».

لكن الولايات المتحدة كانت دومًا في قلب المعركة، وكانت دومًا تخوض حربها بنفسها، وإن بأدوات مختلفة. هذا ليس استدراكًا هامشيًا، أو إضافة تُصفّ إلى جانب ما سبق. فكما أن المعركة الحالية تطرح أسئلة كبرى حول مستقبل المنطقة، فهي تطرح أيضًا أسئلة حول تاريخها وحاضرها، وبالتالي، حول فهمنا لأهم أساسيات الصراع الدائر في منطقتنا منذ أكثر من مائة عام: من هو العدو؟ ومن هو الصديق؟

يأخذ التدخل الأميركي في هذا الصراع اليوم شكلًا جديدًا، يستحق التوقف عنده وإدراك تفاصيله والظروف التي ولّدته. ففجاجة هذا التدخل تعكس تراجعًا في قدرة الولايات المتحدة على إدارة المعركة من بعيد. لكنه رغم ذلك يظل محطة واحدة في مسار طويل وممتد من المحاولات الأمريكية للهيمنة على المنطقة. لم يعد المرء بحاجة لحشد الكثير من البراهين والأدلة للقول بأن الولايات المتحدة ليست حليفًا لعدو الشعب الفلسطيني، بل هي عدو الشعب الفلسطيني، كما هي عدو جميع شعوب هذه المنطقة. وليست «إسرائيل» سوى الوجه الأشرس لهذا العدو، الذي ورث المشروع الاستعماري الغربي ضد هذه الشعوب منذ عقود. 

وبالمثل، ليست الهجمة الأخيرة للمقاومة الفلسطينية في غزة على «إسرائيل» سوى خطوة جديدة وفارقة في مسار ممتد من وقوف حركات وقوى المقاومة في المنطقة في وجه مشروع الهيمنة الأميركية. لهذه القوى بالطبع معاركها الخاصة في أقطارها، لكنها في الصورة الأكبر تخوض حربًا واحدة، تضرب فيها أطرافًا مختلفة من الجسد الأمريكي الممتد عبر المنطقة.

في هذا الإطار، نستطيع أن ندرك حجم إنجاز المقاومة في غزة. فهي لم تنجح فحسب في تخطيط وإدارة وتنفيذ عملية واسعة ومعقدة تتطلب درجة عالية جدًا من السرية والكفاءة والتنظيم والتضحية، ووجهت بالتالي لـ«إسرائيل» ضربة عميقة وموجعة ستستمر آثارها لآخر عمر الكيان؛ بل استطاعت أيضًا أن تفرض الشعب الفلسطيني مجددًا كفاعل تاريخي يشارك بقوة في رسم مسار تغيير المنطقة والعالم. وحالة الصرع الأميركي الحالية تؤكد أن الضربة التي وجهتها المقاومة في غزة إنما طالت المشروع الأميركي نفسه، بما يشمله من خطط واستراتيجيات وأنظمة استخبارات وأسلحة وتمويل. وقد عبّر مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، عن ذلك مؤخرًا حين قال إن هجوم حماس شكّل «نقطة انعطاف عالمية». بكلمات أخرى، لقد قلب محمد الضيف الطاولة على العالم، وأعاد لقضية فلسطين بعدها التحرري وارتباطها البنيوي بتحرر المنطقة من التسلط الغربي والأميركي.

لم يعد المرء بحاجة لحشد الكثير من البراهين والأدلة للقول بأن الولايات المتحدة ليست حليفًا لعدو الشعب الفلسطيني، بل هي عدو الشعب الفلسطيني، كما هي عدو جميع شعوب هذه المنطقة.

كان هناك دومًا تيار، فلسطيني وعربي، يعمل على وَطْنَنَة القضية الفلسطينية وتقزيم الصراع وحصره بالكيان. وتثبت التجربة التاريخية أن مآل هذا التيار كان التطبيع أو القبول بشكل من أشكال الكيانية الفلسطينية التي لا تتعارض مع وجود «إسرائيل». وفي المقابل، كان هناك تيار، في أزمان وأشكال وعقائد مختلفة، يرى الصراع بصورته الأوسع، ويدرك بالممارسة العملية أن وجود «إسرائيل»، بما يمثله من امتداد للمشروع الأمريكي، يتعارض مع مصلحته ومستقبله. 

لا يحتاج ابن تعز أو بغداد أو جنوب لبنان لرؤية البوارج وحاملات الطائرات الأميركية في شرق المتوسط حتى يدرك أن الولايات المتحدة تعاديه، فقد خبِر هذا العداء بالحصار والفقر والغزو والقتل. لكن هذا وحده لم يكن ليكفي، فما فعلته الكثير من حركات وقوى المقاومة الإسلامية في المنطقة في العقود الأربعة الأخيرة هو أنها عبأت شعوبها ونظّمتهم حول المشروع السياسي المناهض للولايات المتحدة، واكتسبت شعبية واسعة سواء في بيئتها المحلية أو الإقليمية، واستفادت بشكل كبير من قوة إقليمية كإيران، تعارض المشروع الأمريكي وترى في الصهيونية تهديدًا وجوديًا لها.

من المهم أن نتذكر أن هذه القوى ليست أحزاب سياسية جماهيرية فقط، بل هي حركات مقاومة مسلحة أولاً، استطاعت أن تحشد مئات الآلاف من المقاتلين، فضلًا عن ملايين المناصرين، الذين وجدوا أنفسهم متروكين بعد فشل المشاريع السياسية الأخرى، والتحقوا بحركات المقاومة رغم ارتفاع كلفة الانضواء ضمن هكذا مشروع. ما يعنيه ذلك هو أنه ما يزال في بلادنا فئات اجتماعية واسعة ترى في مسألة التحرر الوطني والانعتاق من الهيمنة أولوية قصوى، وترى قضية فلسطين في قلب هذه المسألة.

في المقابل، هناك أطراف أخرى كانت تقابل الحديث عن الدور الأمريكي في المنطقة بالتسخيف، بالاتهام بنظريات المؤامرة أو التعلق بالتاريخ أو السجال حول الأولويات. وأحيانًا كانت تعبر عمّا هو أكثر من عدم فهم لهذا الدور، بالمحاولة الفاعلة لإخفائه والتعمية عليه والتقاطع معه. كثير من هؤلاء يتضامنون اليوم مع غزة، لكن مهمتهم في عزل الولايات المتحدة عن «إسرائيل»، وعزلهما معًا عن الكثير من القضايا في منطقتنا، أصبحت أصعب بعد معركة «طوفان الأقصى» وما سيليها.

لا شك أن الصورة باتت أوضح اليوم، فالولايات المتحدة تحضر بذاتها لتقول بصوت عالٍ إنها لن تسمح بتهديد وجود «إسرائيل»، وما يعنيه من تهديد لمصالحها في المنطقة. لكنها في الوقت نفسه تخشى توسع رقعة الصراع. هذا الهاجس يشمل ساحات عدة، لكنه يتكثف بالدرجة الأولى في سؤال «ماذا سيفعل حزب الله؟».

يُطرح هذا السؤال منذ سنوات بأشكال وبنوايا مختلفة، ومن أطراف متعددة. فقد شهدنا في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد معركة «سيف القدس»، محاولات لفصل حماس عن الجبهة العريضة التي تدعمها وتتكامل معها، بإنكار أو تهميش الدور اللبناني والإيراني خصوصًا في دعم فصائل المقاومة في غزة بالسلاح والتدريب والتنسيق المشترك، رغم كل ما تؤكد عليه قيادات هذه الفصائل الفلسطينية في هذا الصدد. وما نزال نسمع سؤال «أين حزب الله؟» رغم التصاعد التدريجي للمواجهة في جنوب لبنان، وتزايد كلفتها من الشهداء يوميًا، وتوسع أشكالها والأطراف المشاركة فيها، ورغم الضغط المتواصل الذي تشكله «الجبهة الشمالية» على الكيان، والثمن الذي يدفعه من أرواح جنوده وقدراته البشرية والعسكرية. 

قد يطرح السؤال من باب الاستنصار والأمل بالمقاومة، وقد يطرح من باب التشكيك، تعبيرًا عن موقف سياسي تحريضي تجاه حزب الله. لكن المقتضيات العملياتية للمعركة، سواء في جبهة غزة أو جنوب لبنان، لا تتيح لأي مراقب أو محلل أن يضع نفسه في موقع تحديد الخطوة القادمة المناسبة. ما هو مؤكد هو أن حزب الله في قلب المعركة، وأن «كل الاحتمالات مفتوحة»، بشهادة جميع الفاعلين في المنطقة على اختلاف مصالحهم وأهدافهم، وأن لا أحد اليوم باستطاعته أن يضمن ألا تنفجر المنطقة برمتها، أو أن يعرف بالتحديد ما هي النقطة التي ستؤدي لهذا الانفجار. 

ما ينبغي ألا يغيب هو النظر أبعد من الحدث نفسه لرؤية الاتجاه الذي يدفع نحوه هذا الحدث. فرغم هول المجزرة المتواصلة وفداحة الثمن الذي تدفعه غزة اليوم، ما هو مطروح اليوم على الشعب الفلسطيني هو ذاته المطروح عليه منذ عقود، أي الاستسلام. لكن في المقابل، فإن لديه اليوم حركة مقاومة راكمت من القوة ما لم تراكمه أي حركة فلسطينية أخرى، ولها حلفاء أقوياء ينضوون في مشروع مناهض للولايات المتحدة، لديهم كل الأسباب لدعم المقاومة الفلسطينية ومساندتها. 

يصعب التنبؤ بما سيأتي في معركة صعبة ودقيقة ومكلفة جدًا كهذه، لكن هناك حقائق ثبتت ويجب الإقرار بها. ما يجعل معركة «طوفان الأقصى» قادرة على أخذ المنطقة برمتها لمكان آخر، فضلًا عن نجاحها المباشر المذهل في إذلال «إسرائيل»، هو أنها جاءت كلحظة متفجرة تتقاطع عندها ثلاثة مسارات مؤسسة لمستقبل الصراع: تراكم قوة حركات المقاومة، وتفلّت المنطقة -والعالم ككل- من القبضة الأميركية، واحتدام التناقضات الداخلية الصهيونية وتآكل فكرة «إسرائيل». هذا هو التاريخ الذي تكتبه غزة بدمها اليوم. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية