الإبعاد إلى الأمام: مرج الزهور وصعود حماس

الثلاثاء 02 كانون الثاني 2024
قيادات حماس في مرج الزهور
عدد من قيادات حماس المبعدين إلى مرج الزهور، منهم عبد العزيز الرنتيسي وجمال منصور وآخرون.

«لقد قامت السلطات بإبعادنا عن وطننا وظنّ الكثيرون أننا وقعنا في مصيبة كبرى لا تساويها مصيبة، وأن نقمة حلّت بنا، وأن محنة عظمى نمر بها، وجميع المحبين أشفقوا لحالنا، ولكن يشاء الله ويقدر لنا خيرًا مغلفًا بهذا الشر، ويجعل النقمة نعمة، والمحنة منحة، ويجعل الشر خيرًا ويجعل هذا الإبعاد بردًا وسلامًا لنا وحقدًا وثأرًا في قلوب الأعداء، ويعيد كيدهم إلى نحورهم. وما سقطنا على أرض جنوب لبنان حتى ألّف قلوب الناس جميعًا لنا، وجعل كل الناس قلوبهم تهوى إلينا، وألهمنا سبحانه وتعالى أن نقف الموقف الذي فيه عزتنا وكرامتنا وحفظ حقوقنا والرفعة لنا». 

تلخص هذه الكلمات لحماد عليان الحسنات، عضو المكتب الإداري العام للإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة المؤسس لحماس، والتي خطها في «ذكريات مرج الزهور» ونشرها بعد عودته من الإبعاد مباشرة، الكثير مما قيل عن تجربة مرج الزهور، حين أبعدت المئات من كوادر حركة حماس والجهاد الإسلامي قسرًا إلى جنوب لبنان قبل 31 عامًا، وأثر تلك التجربة في حركة حماس وكادرها. فالإبعاد الذي كان مساويًا للموت، صار مدخلاً للقلوب، وإذ به يفتح الباب لتحولات جديدة في حماس وتجربتها.

«الطوفان»

فجر الجمعة 11 كانون الأول 1992 استشهد قائد مجموعات «عشاق الشهادة» عصام عزيز براهمة في بلدة عنزة جنوب جنين، بعد معركة طويلة قتل خلالها قائد قوة الاقتحام الخاصة وجرح أربعة من جنودها. لم يكن هذا الاشتباك غريبًا في  ذاك الشهر ولا في بقية أيام العام 1992، إذ كانت الانتفاضة تشهد موجة جديدة تسيد فيها السلاح وأهله، وبرزت عمليات مطاردي تنظيمات «المعارضة»، خصوصًا الإسلامية منها، وعلى رأسها العمليات التي نسبت لكتائب الشهيد عز الدين القسام احتفاءً بذكرى انطلاقة «حماس»، ومنها عملية نفذها المطارد عماد عقل، قتل فيها ضابط وجنديان على طريق بيت لاهيا-الشجاعية (في السابع من كانون الأول)، وعملية «الحاووز» في مدينة الخليل التي قتل فيها ضابط وأصيب فيها ضابط آخر وجندي (في 13 كانون الأول).

هذا النشاط العسكري دفع الصهاينة لتنفيذ حملة اعتقالات واسعة لهذه القوى، إذ وجه رابين في الربع الأخير من العام 1992 لبدء حملة أمنية لـ«خفض مستوى العنف في المناطق، والسماح لمحادثات السلام بأن تجري بهدوء»، فغاية رابين كما نقل كانت عدم توجيه الأضواء نحو الأراضي المحتلة. وفي الرابع من كانون الأول، كانت مصادر العدو الأمنية تتحدث عن أنه «يمكن الإحساس بنتيجة موجة الاعتقالات على الأرض، فقد ضعف نشاط الحركة في الضفة مؤخرًا». وإحصائيًا، تحدث العدو عن اعتقال ثلاثة آلاف ناشط في حماس، بينهم زعيمها الروحي أحمد ياسين.

أخبار الشيخ ياسين كانت تتصدر الصحف والمجلات تلك الفترة، خصوصًا وأن وضعه الصحي لم يكن على ما يرام. وفي خلفية هذه الأخبار والعمليات العسكرية، وجد حراك مفاوضات، بمسارات علنية وأخرى -كما تبين لاحقًا- سرية، احتفى في الأسبوع الأول من كانون الأول 1992 وأشاد بقرار الكنيست الذي يسمح بإجراء اتصالات بين الإسرائيليين وأعضاء منظمة التحرير. واعتبرت الناطقة باسم الوفد الفلسطيني لمحادثات السلام، حنان عشراوي، ذلك «اعترافًا ضمنيًا بمنظمة التحرير».

في ظلال هذا كان «الطوفان» كما وصفه المبعد إلى مرج الزهور فتحي القرعاوي في كتابه «مرج الزهور بعد 25 عامًا: معركة المبعدين الإعلامية». إذ فوجئ موظفو الصليب الأحمر في رام الله بملثمين يسلمونهم رسالة وصورة لهوية جندي صهيوني أسر في اللد، في حوالي الساعة 11 من صباح يوم الأحد 13 كانون الأول 1992. كانت تلك عملية أسر الجندي نسيم توليدانو، التي طالبت كتائب القسام فيها بإطلاق سراح الشيخ ياسين وعدد من الأسرى، مهددين بإعدام الجندي في حال عدم تحقيق المطالب خلال 10 ساعات، وهو ما نفذوه بالفعل. بدأ العدو بعد ذلك إجراءات مختلفة كان أبرزها حملة اعتقالات شاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد إعلانه أن «عملية مكافحة الإرهاب تدخل عهدًا جديدًا» لاستثنائية العملية.

صورة عن البيان الرسمي الصادر عن كتائب القسام وفيه مطالب آسري توليدانو. من أرشيف الباحث.

مساء الخميس 17 كانون الأول، بدأت حافلات صهيونية بدخول منطقة الحزام الأمني المحتلة جنوبي لبنان، لتستقر الحافلات المحملة بـ415 مبعدًا داخل معبر زمريّا ويدفع المبعدون إلى داخل الحدود اللبنانية، وبعد أخذ وردّ قرر المبعدون الذين شكلوا قيادة ميدانية أن يستقروا في موقع بين بلدتي مَيْمِس ومرج الزهور رافضين قرار الإبعاد، ومعلنين «معركة» العودة.

بعد تسعة شهور، أعلن عن قرار سلطات العدو إعادة دفعة أولى من المبعدين في 17 أيلول 1993 على أن يعود البقية حتى نهاية كانون الأول من العام نفسه. فأعلن المبعدون على لسان الناطق الرسمي باسمهم، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، موافقتهم على العرض المقدم، مع «إيماننا الكامل بحق كل مبعد في العودة إلى وطنه وسنعمل إن شاء الله على عودة أربعة ملايين من أبناء شعبنا إلى وطنهم فلسطين».

تمت العودة الأولى، واستمرت المعركة لعودة البقية، وخلال ذلك أعلن توقيع ما سمي اتفاق أوسلو، ثم اشتدت المقاومة في الأرض المحتلة، واستشهد المطارد الأبرز عماد عقل. ثم كانت عودة البقية يوم 17 كانون الأول 1993.

الإبعاد يبرز نموذجًا مغايرًا

خلال العقدين الماضيين، أرّخت الأدبيات الصادرة لجزء أساسي من كيفية تحول الإخوان المسلمين في فلسطين إلى المواجهة، وهو كما ظهر مسار متعدد الأبعاد، قادته وجوه الجماعة المختلفة داخل الأرض المحتلة وخارجها، بعد مسار نقد داخلي طويل، وانقلابات ناعمة. ومع انطلاقة الانتفاضة الأولى، كان الإعلان عن هذا التحول بتأسيس حركة المقاومة الإسلامية، التي عرفت لاحقًا باسم حماس. 

لم يكن هذا التحول طارئًا ولا مفاجئًا، واستند إلى بنية تنظيمية راسخة، ذات هرمية محددة، تربع على رأسها داخل الأرض المحتلة المكتبُ الإداري العام للإخوان المسلمين في الضفة والقطاع. ورغم اشتغال الإخوان المسلمين خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات على توسيع القاعدة التنظيمية، والتحول التدريجي للعمل الجماهيري، إلا أنه يمكن الخلوص في ضوء القراءة المجهرية لهذه التجربة إلى أن تحول هذا البناء التنظيمي إلى حركة جماهيرية كبرى لم يكن وليد لحظة إعلان حماس. 

وفقًا لشهادة أحد الكوادر الأولى للإخوان المسلمين في منطقة رام الله، ولاحقًا أحد كوادر جهاز الدعوة البارزين في منطقته، فإن انفتاح الحركة على الجماهيرية ارتبط بفعلها العسكري وتفاعل سلطات العدو معه. وبرأيه، فإن المحطة الأولى باتجاه التحول نحو «الجماهيرية» ارتبطت بحملة الاعتقالات التالية لعملية أشرف البعلوجي (الذي انتظم في صفوف حماس متأثرًا باعتقال الشيخ أحمد ياسين وقيادة الحركة في القطاع عام 1989) ومروان الزايغ، التي نفذت بالسكاكين في ذكرى انطلاقة حماس الرابعة في كانون الأول 1990.

بدل أن تقود عملية «الإبعاد» إلى تفكيك البنية التنظيمية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي داخل الأرض المحتلة، فإنها أسهمت سريعًا في تعزيز نفوذهما، وحضورهما الموازي لتيار قوى المفاوضات.

نفذ البعلوجي والزايغ عمليتهما في مصنع داخل يافا المحتلة، وبعد قتلهما ثلاثة أشخاص، وقّعا تبنيًا للهجوم داخل المصنع، قائلين إن «حماس تعلن مسؤوليتها عن عملية القتل بمناسبة الانطلاقة الرابعة لحركة حماس، تحية إجلال وإكبار إلى شيخ الانتفاضة الشيخ أحمد ياسين». وبدأت عملية ملاحقة ومطاردة لهما، حيث انتقل أشرف لرام الله ومروان لغزة. وعن الحملة، كتب يحيى السنوار في كتابه عن أشرف البعلوجي وعمليته: «جن جنون العدو وطارت عقولهم من وقع الحدث وبدأت إذاعتهم تنقل الأخبار المتتالية عن ضربة قاصمة حسب تعبيرهم للحركة وكل من يفترض أن له بها أدنى علاقة، وبدأ عدد المعتقلين يرتفع تدريجيًا ليصل خلال يومين أو ثلاثة إلى 1600».

أما الحدث التالي فكان «الإبعاد» إلى مرج الزهور، إذ إن حملة الاعتقالات والإبعاد طالت قيادة معظم أعضاء المكتب الإداري العام المسير لعمل حماس في الضفة والقطاع، كما طالت معظم كوادر جهاز الدعوة القيادية في مختلف المناطق، وبعض الكوادر التي فرزت للعمل مطلع التسعينيات في الجهاز العسكري. تحدث رابين إثر عملية أسر توليدانو فأشار إلى أن هدف عمليات حماس والجهاد يتمثل في إحباط عملية السلام في أوساط الشعب الفلسطيني للدفع باتجاه معارضة المسيرة السلمية. وبهذا، أظهرت هذه المواجهة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بوصفهما رأس حرب المعارضة الأبرز لمسار التفاوض. 

وبدلًا من أن تقود عملية «الإبعاد» إلى تفكيك البنية التنظيمية للحركتين في داخل الأرض المحتلة، فإنها أسهمت سريعًا في تعزيز نفوذهما، وحضورهما الموازي لتيار قوى المفاوضات. وأسهم في ذلك المسار أمرين، الأول مرتبط بالمبعدين وقراراتهم، والثاني متصل بكادر «حماس» داخل الأرض المحتلة. إذ بعد لحظات من الإبعاد اجتمعت قيادتهم، وأسهم في سهولة الاجتماع أن قيادة حماس الرئيسية القائدة لمسارها داخل الأرض المحتلة كانت من ضمن المبعدين، وانعكس ذلك في التشكيل القيادي الأول المختار لقيادة المبعدين، والذي شكل انعكاسًا لبنى القيادة في المكتب الإداري العام للضفة والقطاع ولقيادة المناطق. وإثر الاجتماع -كما ينقل أحد أعضاء المكتب الإداري العام للمبعدين حماد الحسنات- تقرر أنه «لو عض كل واحد منا على صخرة فلن نغادر هذا المكان، فإما العودة إلى ديارنا أو الموت». كما تقرر الطلب من حكومة لبنان عدم استقبال المبعدين أو السماح لهم بدخول لبنان. ورفض أن تكون قضية الإبعاد قضية إنسانية تحتاج إلى المساعدات والطعام، وإنما قضية سياسية لا حل لها إلا العودة. 

من اعتصام نفذه مبعدو مرج الزهور.

قاد هذا الصمود السريع، وغير المتوقع صهيونيًا كما أظهرت القراءات الصهيونية التالية، إلى إبراز نموذج لشخصيات مغايرة، وإبراز كادر حماس والجهاد -كما عبر الحسنات- كمجموعة متجانسة، تجمع على القرار الصحيح في أسرع وقت وتلتزم بالرأي الواحد، وثقتها ببعضها كبيرة. وسرعان ما تفاعل الجميع مع النموذج المغاير، الذي وجد احتضانًا فوريًا من معارضي المسار التفاوضي من أهل فلسطين -خصوصًا الجبهتين الشعبية والشعبية القيادة العامة- ومن قوى بارزة حاضرة في لبنان آنذاك -الدولة السورية والحرس الثوري الإيراني وحزب الله-. كما وجد احتضانًا إسلاميًا وعالميًا كبيرًا، انعكس في حضور إعلامي يومي أبرزَ مغايرة نموذج المبعدين ومغايرة رجاله. 

داخل الأرض المحتلة، وكما كان لحملة الاعتقالات التالية لعملية البعلوجي–الزايغ أثرها الفوري في جماهيرية حماس، فإن عملية الإبعاد التي أتت في ذروة عمليات حماس العسكرية الجريئة، التي تسيدها عماد عقل ورفاقه، أرفدت حماس بكادر جديد، وأنصار جدد، بدأوا يتفاعلون مع رسالة المبعدين اليومية، ويسدون الثغرات في بنيتها التنظيمية، وينطلقون بفعلها العسكري نحو مسارات جديدة. وتحول «الإبعاد» ومعركته، إلى ساحة مواجهة جديدة اشترك فيها مقاتلو حماس، الذين لم يتأثروا كثيرًا بعملية الإبعاد. فالبناء العسكري لحماس كان في بواكيره، وأبعد عدد محدود من كوادره، أما الكادر الأساسي فكان مطاردًا أو مجهولًا.

وكما كان اعتقال الشيخ ياسين دافعًا رئيسًا لعدد من عمليات «حماس»، ومنها عملية البعلوجي–الزايغ، كذلك أصبحت معركة الإبعاد، التي تزامنت مع معركة رفض مسار التفاوض والانحراف عن مطلب التحرير. وعبر عن ذلك أولًا بيان للقسام في أواخر العام 1992 جاء فيه أن «الإرهاب لن يزحزح ثقتنا بأن العاقبة لنا بإذن الله، ونقول لزعيم عصابة الإجرام رابين ردًا على خطابه: الأرض لمن يدفع ثمنها من دمه، ونحن لها». وأعلنت كتائب القسام عن بداية مرحلة جديدة ضد عدو لا يفهم إلا لغة القوة. ثم عبّر عن ذلك فعل القسام التي صعدت من عملياتها في العام 1993، فنفذت عملية احتجاز رهائن شعارها «هكذا التفاوض.. وإلا فلا» (تموز 1993)، وسلسلة عمليات إطلاق نار مختلفة. وبلغت ذروتها بالعملية الاستشهادية الأولى التي أشرف عليها المهندس يحيى عياش في نيسان 1993 ونفذت بالتزامن مع مسيرة الأكفان التي نظمها مبعدو مرج الزهور، وقدمت العملية كهدية للمبعدين. 

صورة عن بيان للقسام صادر في 17 كانون الأول 1992. من أرشيف الباحث.

تتالت العمليات تحت شعار الخيار العسكري أولًا، وازدادت وتيرة المعركة داخل الأرض المحتلة، وقدمت القسام عددًا من خيرة مقاتليها في العام 1993، وبدأ نجم عياش بالصعود. وترافق مع ذلك استمرار معركة مرج الزهور حتى كانت أولى موجات العودة بعد أيام من توقيع اتفاق أوسلو، بعد مؤتمر صحفي تحدث فيه الرنتيسي قائلًا: «نحمد الله عز وجل أن أكرمنا حيث كان للمبعدين شرف هدم أول مخيم أقيم للفلسطينيين وهذا فأل خير بقرب هدم كل مخيمات اللجوء». وعلى الحدود سئل الرنتيسي كيف تعلق على الواقع الجديد بعد اتفاق غزة أريحا، فأجاب أن الواقع لم يستقر بعد والمباحثات لا زالت متعثرة. وسئل أنتم ماذا ستفعلون هل ستزيدون في تعثير هذه المفاوضات أم ماذا، ليجيب «باختصار، فلسطين كل فلسطين أرض عربية إسلامية من نهرها حتى بحرها، ولن نتنازل عن ذرة من ترابها».

وكأن الرنتيسي كان يرد على خطاب رابين الأول. أما كتائب القسام داخل الأرض المحتلة، فكانت رسالتها يوم الثامن من تشرين الأول 1993 بتوقيع يحيى عياش، بعملية استشهادية ثانية نفذها الشهيد سليمان غيظان أحد الكوادر الرئيسة في الجهاز العسكري لحماس في المنطقة الغربية لرام الله، وكانت رسالة بيان الكتائب:

«لقد عمد رابين وزبانيته المجرمون في الآونة الأخيرة إلى ممارسة سياسة إعلامية مبرمجة هدفها إشعار الشعب الفلسطيني أن قواه المجاهدة، وعلى رأسها حركة حماس المجاهدة وكتائب عز الدين القسام قد منيت بضربة قاصمة لا تستطيع بعدها مواصلة الجهاد والوقوف في وجه المؤامرة، ولكننا نقول له يا هذا لا عيب في الشمس إن لم يرها العميان، ولا عيب في البركان إن لم يسمع به الأصم، فهذه هدية أولى لك يا رابين وسيتبعها هدايا أخرى..
وإن غدًا لناظره قريب».

مساحات جديدة

بروز حماس إلى المشهد العام كوجه المعارضة الأبرز، الذي تجسد بتفاعل مقاتليها مع معركة المبعدين، لم يكن الانعكاس الأوحد لتجربة الإبعاد على حماس وجندها. إذ إن الإبعاد أيضًا شكل فرصة استثنائية لنشاط حماس على جبهات مختلفة، وفتح نوافذ جديدة، وعزز أخرى. 

على المستوى الداخلي، كانت جماعة الإخوان المسلمين ثم حماس تحرص على التواصل الدائم بين كوادرها في ملتقيات مختلفة، كان أبرزها المؤتمرات الطلابية والاعتكافات العامة في المساجد عمومًا، ثم في المسجد الأقصى خلال سنوات الثمانينيات. بالإضافة إلى لقاءات المستويات القيادية العليا الدورية والتي استمرت لسنين تالية بعد اندلاع الانتفاضة الأولى وإطلاق حماس. لكن كما تبرز مراجعة يوميات المبعدين، فإنهم حولوا الإبعاد إلى مدرسة مكثفة في مستويات مختلفة، وصار المبعدون ورموزهم وجوهًا مألوفة حاضرة في كل خبر. 

مجموعة من المبعدين يصلون في مرج الزهور.

أما على المستوى العام، فرغم وجود تواصل دائم بين كادر حماس، داخل وخارج الأرض المحتلة، إلا أن الإبعاد شكل فرصة للقاء الدائم والتواصل المستمر، ولتأسيس شبكات علاقات مختلفة داخل التنظيم، وكذلك بين حماس والحركات السياسية الفلسطينية المعارضة، وبين حماس والحركات العربية والإسلامية الرافضة لخيار المفاوضات. وشكل التواصل الذي ابتدأه المعتقلون فرصة لتعزيز العلاقات مع الحرس الثوري الإيراني خصوصًا والجمهورية الإيرانية عمومًا -مع الإشارة إلى أن العلاقات الرسمية كانت سابقة لذلك- خصوصًا وأن الحرس الثوري وحزب الله شكلا الداعم اللوجستي الأول للمبعدين، واستمر الحضور الرسمي للحرس والحزب حتى نهاية الإبعاد. كما شكل فرصة لفتح علاقات مع الدولة السورية استثمرتها حماس خلال سنوات تالية. 

مستوى آخر من مجالات إفادة حماس، لم تتكشف الكثير من تفاصيله بعد، متصل بتعزيز تجربتها العسكرية. إذ تؤكد الشهادات المتوافرة أن المبعدين حرصوا على استغلال أوقاتهم، والاستفادة من تخصصاتهم المختلفة. من ذلك تعزيز الخبرة العسكرية لبعض كادر الجناح العسكري لحماس، خصوصًا ممن عادوا إلى الأرض المحتلة، إذ إن عددًا من الكوادر العسكرية الذين اكتشفت صلتهم بالعمل العسكري كإسماعيل الحبازي وعز الدين الشيخ خليل ظلوا خارج الأرض المحتلة، وخلال سنوات تالية أشرف الشيخ خليل على قيادة العمل العسكري في الخارج حتى استشهاده في أيلول 2004.

كان أبرز الكوادر الذين تدربوا في لبنان في معسكرات الجبهة الشعبية-القيادة العامة، ومعسكرات حزب الله الشهيد محمود أبو هنود، الذي نشط في كتائب القسام بعد عودته في منطقة شمال الضفة الغربية، وقاد الجهاز العسكري للحركة وصار أبرز مطارديها بعد شهادة عادل وعماد عوض الله في أيلول 1998، حتى شهادته عام 2001. وكذلك الأسير المحرر سليمان خليل القواسمة الذي نشط في كتائب القسام في الجنوب بعد عودته من الإبعاد حتى اعتقاله. 

من أجل كل ذلك، كانت تجربة مرج الزهور رغم مصاعبها رافعًا لحركة حماس، نقلتها من مكان لآخر، سواء على مستوى حضورها العسكري أو شعبيتها فلسطينيًا وعربيًا أو تطور قدراتها وعلاقتها. كل ذلك كان أساسًا ساهم في تشكيل المرحلة القادمة من تاريخ الحركة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية