«اليوم التالي» في غزة: السلطة الفلسطينية تطلّ برأسها

الأربعاء 20 كانون الأول 2023
وزير الخارجية الأمريكي وأمين سر منظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ في رام الله. 5 تشرين الثاني 2023. تصوير جوناثان إرنست. فرانس برس.

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كان انخراط الإدارة الأمريكية مباشرًا وواضحًا. لكن على المستوى السياسي، وبينما وفرت للعدوان «الشرعية الدولية»، وأسست لـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» عالميًا، وعطلت أي قرار دولي لوقف العدوان، فقد انشغلت واشنطن بقضية «اليوم التالي» أو «ما بعد حماس» أكثر من انشغال تل أبيب في هذا النقاش.

يتعلق انشغال إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يتمثل في زيارة شبه أسبوعية لأحد أعضائها إلى «إسرائيل»، بمحاولة «إنقاذ» الأخيرة من الغرق الطويل أو الدائم في قطاع غزة، وهو «قلق» على دولة الاحتلال تعبر عنه تصريحات بايدن الذي يخشى «الفراغ في غزة، الذي سيعيد حماس». من هنا، فإن التصور الأمريكي لـ«اليوم التالي»، يفترض هزيمة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وتفكيك حركة حماس، بالإضافة إلى إعادة السلطة الفلسطينية «المتجددة» إلى قطاع غزة، وهو ما كان محط خلاف -ظاهري على الأقل- مع الحكومة الإسرائيلية. 

طيلة أيام العدوان على غزة، كانت السلطة الفلسطينية تقف في موقع المراقب، تترقب نتائج العملية العسكرية، وتنتظر مآلات الحرب في غزة، وفضلت الصمت في كثير من الأحيان، دون الالتفات للإبادة الجارية، مع تصدير موقف رسمي تحدثت فيه حول «رفض العودة إلى غزة على دبابة إسرائيلية، واشتراط انطلاق عملية سياسية لتحقيق ذلك». لكن مع تجدد الحراك الأمريكي بين تل أبيب ورام الله في الآونة الأخيرة، عادت قيادات السلطة لإطلاق المواقف من جديد، وإرسال رسائل إيجابية تجاه الإدارة الأمريكية تعبر عن اهتمامها بلعب الدور المطلوب منها.

«أفضل الخيارات السيئة»

تسعى واشنطن إلى ترتيب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بحيث ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول تمثل في حملة قصف عنيفة، دعمتها بشكلٍ مطلق سواء بالذخيرة أو بمنحها الشرعية، ومن ثم توسيعها للعدوان البري، قبل الانتقال إلى وتيرة أقل حدة تشبه نمط العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية، كما توصف إسرائيليًا، ثم الوصول إلى «اليوم التالي» أو «ما بعد حماس».

منذ البداية، تولت الولايات المتحدة ملف «اليوم التالي»، ووضع بايدن معالم التصور الأمريكي الأساسي له في مقالة في «الواشنطن بوست»، بعد حوالي 40 يومًا من بداية العدوان، بالقول: «يجب ألا تُستخدم غزة مرة أخرى كمنصة للإرهاب. ويجب ألا يكون هناك تهجير قسري للفلسطينيين من غزة، ولا إعادة احتلال، ولا حصار، ولا تقليص في الأراضي. وبعد انتهاء هذه الحرب، يجب أن تكون أصوات الشعب الفلسطيني وتطلعاته في قلب الحكم بعد الأزمة في غزة. وفي سعينا الحثيث من أجل السلام، لا بد من إعادة توحيد غزة والضفة الغربية في هيكل حكم واحد، في نهاية المطاف في ظل سلطة فلسطينية متجددة، بينما نعمل جميعًا نحو حل الدولتين».

إلى جانب ما عبّر عنه بايدن، عرضت صحيفة «بوليتيكو» الأمريكية، جزءًا من تصور «اليوم التالي» كما تفكر به واشنطن بما يرتبط بالسلطة الفلسطينية، إذ يدور التصور الأمريكي حول إعادة إعمار غزة على مراحل متعددة بمجرد انتهاء الحرب، مع الحاجة إلى قوة دولية لتحقيق الاستقرار في أعقاب ذلك مباشرة، تليها سلطة فلسطينية «متجددة» تتولى السلطة على المدى الطويل. وفي الجزء الأهم من الخطة، قال الموقع الأمريكي، إنها «تشمل زيادة المساعدات المتعلقة بالأمن وإنفاذ القانون للسلطة الفلسطينية، والسماح بدور أكبر للمنسّق الأمني ​​الأمريكي». وفي السياق نفسه، قال مسؤول كبير في إدارة بايدن: «في النهاية، نريد أن يكون لدينا هيكل أمني فلسطيني في غزة بعد الصراع». ونقلت الصحيفة الأمريكية، عن مصادرها، أنه «حل غير مثالي، لكن المسؤولين الأمريكيين يعتبرونه أفضل الخيارات السيئة». 

ويأتي الخلاف بين واشنطن وتل أبيب مع رفض إدارة بايدن إعادة احتلال قطاع غزة بشكلٍ كامل، وفي محاولة لمنع غرق الجيش الإسرائيلي في غزة، والدخول في متاهة عسكرية طويلة. ولكنه يبقى هامشًا في متن الدعم الأمريكي المفتوح، فالتوافق على الأهداف قائم ومتواصل، ولكن الولايات المتحدة، تطلب صورة أوضح للفترة القادمة.

وفي سياق الحديث عن الخطة الأمريكية، قال مسؤول إسرائيلي إن «الفجوة بين الولايات المتحدة وإسرائيل أصغر بكثير مما تراه العين. تتفق الإدارتان على أن السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي لا يمكنها أن تحكم غزة. قد يكون بوسع الجسم الذي تم تنشيطه وإصلاحه قادرًا على القيام بذلك. لكننا لم نُجرِ بعد مناقشات حول الشكل الذي يجب أن يبدو عليه هذا الإصلاح بالضبط».

لكن رغم محاولتها التأكيد على أن السلطة هي أقرب ما يكون إلى هذا «الجسم الفلسطيني»، فإن لدى الولايات المتحدة مخاوفها. فوفق صحيفة «صنداي تلغراف»، تخشى الإدارة الأمريكية «من أن محمود عباس لن يتمكن من قيادة غزة بعد الحرب، رغم استمرار جو بايدن في دعم سيطرة السلطة الفلسطينية المتجددة»، مشيرة إلى أن هذه القضية سيطرت على النقاشات التي جرت في البيت الأبيض. 

وأضافت صنداي تلغراف: «لا يقول مسؤولو البيت الأبيض صراحة إن عباس لا يمكنه البقاء في منصبه. لكن مصادر الأمن القومي أشارت إلى أن الولايات المتحدة تواجه خلف الكواليس الواقع البيولوجي». وعلق على ذلك المسؤول السابق في البنتاغون مايكل روبين: «إذا كان هدفك هو الاستقرار والأمن، فمن السيئ دائمًا المراهنة على مدخن يبلغ من العمر 88 عامًا».

إسرائيليًا، بدأ الحديث عن «اليوم التالي» في بداية كانون الأول، حيث كُشف عن وجود فريق إسرائيلي «يستعد من وراء الكواليس لليوم التالي»، ويقوده رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، بالإضافة إلى أفراد من المؤسسة الأمنية والشاباك والموساد.

وخلال مناقشات الفريق الإسرائيلي، قال ديرمر: «يجب أن يكون هناك تغيير جذري في السلطة الفلسطينية ونظامها التعليمي، وبدون هذه التغييرات الثقافية ستجد إسرائيل نفسها في مواجهة سكان معادين». وقال هنغبي: «من المحتمل جدًا أن يشمل اليوم التالي التعاون بين السعودية والإمارات لإنشاء البنية التحتية، والتعاون لمنع حرب مستقبلية». كما تتحدث مصادر إسرائيلية، عن وجود فريق شبيه لدى وزارة الأمن الإسرائيلية، مع حديث عن رغبة جيش الاحتلال بوجود تصور لـ«اليوم التالي».

وتحدثت القناة 12 الإسرائيلية، عن وثيقة تُعدّها وزارة الخارجية الإسرائيلية، تشتمل على التصور الإسرائيلي لـ«اليوم التالي» الذي يتحدث عن سيطرة أمنية، وإدارة فلسطينية تدير الشؤون المدنية، مع محاولة لتقريب التصور مما تطلبه الولايات المتحدة. وتقترح الخطة أيضًا إجراءات طويلة الأمد، تشمل تغييرًا أساسيًا في المناهج الدراسية، ودورًا للأمم المتحدة في إدارة الإغاثة في قطاع غزة، مع «حرية عمل للجيش الإسرائيلي»، وهي تفاصيل نفاها مكتب نتنياهو.

«إسرائيل» تضع السقف: سلطة تحتنا

رغم الاستمرار في دعم «إسرائيل» عسكريًا والمشاركة الفعلية في إدارة العدوان على قطاع غزة، انتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن، «إسرائيل» لأول مرة في 13 كانون الأول بسبب «القصف العشوائي» على غزة، وإمكانية تقلص الدعم أو تغيير الرأي العام، وهي تصريحات قلل منسق السياسات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي من أهميتها في وقت لاحق. 

جاءت هذه التصريحات بعد يوم من تأكيد بايدن على التزامه بدعم «إسرائيل»، بالقول: «نحن مستمرون في تقديم المساعدة العسكرية حتى يتخلصوا من حماس»، وكرر كلمته السابقة «ليس من الضروري أن تكون يهوديًا لكي تكون صهيونيًا. أنا صهيوني».

ولربما كانت أكثر زيارة أمريكية جدية في مناقشة «اليوم التالي» هي وصول مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان إلى تل أبيب يوم الجمعة الماضي، والتي قال قبلها إنه سيبحث «الجداول الزمنية للحرب»، بالإضافة إلى مناقشة تصريحات نتنياهو عن «احتفاظ الجيش الإسرائيلي بسيطرة أمنية مفتوحة على غزة بعد نهاية الحرب».

وفي أعقاب زيارته، أجرى سوليفان مقابلة مع القناة 12 الإسرائيلية شرح فيها التصور الأمريكي بالقول: «يمكنني أن أشرح نيابة عن الرئيس بايدن موقفنا بشأن هذه القضية. وكما نرى، في نهاية المطاف، يجب توحيد الحكم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا يتطلب اتصالات نحافظ عليها مع الفلسطينيين وكذلك مع الإسرائيليين. ماذا يعني ذلك بالضبط؟ إنه سؤال جيد، وهو أمر يتطلب مناقشات ومشاورات مكثفة مع الفلسطينيين أولًا، وأيضًا مع الحكومة الإسرائيلية. لكن ذلك سيتطلب إصلاحًا وتغييرًا في موقف الفلسطينيين في ما يتعلق بالحكم، وسيتطلب تعاونًا من الدول الأخرى في المنطقة حتى تساهم بالوسائل الاقتصادية وأشكال المساعدة الأخرى».

استبق نتنياهو، زيارة سوليفان بالحديث عن خلافات بين واشنطن وتل أبيب، انطلاقًا من الحديث عن «اليوم التالي» للحرب في غزة، قائلًا: «أريد أن أوضح موقفي: لن أسمح لإسرائيل أن تكرر خطأ أوسلو». وجاء حديث نتنياهو، بعد تصريحات في جلسة لجنة الشؤون الخارجية والأمنية في الكنيست الإسرائيلي والتي ربط فيها بين عدد القتلى الإسرائيليين في أعقاب اتفاقية أوسلو، وفي 7 أكتوبر. 

وقال نتنياهو: «إنني أقدر حقًا الدعم الأمريكي لتدمير حماس وعودة مختطفينا (..) لن أسمح بعد التضحيات الهائلة التي قدمها مواطنونا ومقاتلونا، بأن نجلب إلى غزة أولئك الذين يقومون بتعليم الإرهاب، ودعم الإرهاب، وتمويل الإرهاب. غزة لن تكون حماسستان ولا فتحستان. وسنذكر أن فتح هي المكون الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، المنظمة التي كانت وراء إنشاء السلطة الفلسطينية».

واستمر نتنياهو بالقول: «علينا أن نبني شيئًا مختلفًا بمجرد انتهاء الحرب، إسرائيل ستكون لديها سيطرة عامة على المنطقة، بما في ذلك الأمن، لكن الحكم الداخلي سيكون فلسطينيًا»، وهذا يتحقق من خلال جسم «فلسطيني حديث الإنشاء، وليس السلطة الفلسطينية».

وترى التقديرات في «إسرائيل»، أن نتنياهو يحاول المناورة مع بايدن، كما يحاول الترويج لنفسه في حملة انتخابية مبكرة، من ناحية عدم خضوعه للضغوط الخارجية، خاصةً مع الحديث عن أن الدعم الأمريكي المفتوح لـ«إسرائيل» في حربها على قطاع غزة سيجبر نتنياهو على الخضوع لتصور واشنطن، بالإضافة إلى الحفاظ على الكتلة التصويتية المتأرجحة بين الليكود والصهيونية الدينية.

ومع استمرار التنسيق الأمني فإن نتنياهو، ورغم «هجومه» العلني على السلطة الفلسطينية، لم يتخلَ عن تصوراته المرتبطة بضرورة وجود السلطة، ويظهر ذلك من خلال دعمه عودة عمال الضفة الغربية للعمل في «إسرائيل»، بما يتماشى مع موقف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بالإضافة إلى دعم قرار تحويل أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية، وإمكانية إيجاد آلية من أجل تحويل هذه الأموال.

وبعد خلافات مع نتنياهو ارتبطت في خطة التعديلات القضائية في «إسرائيل»، تم تجاوزها خلال العدوان على غزة، عاد بايدن إلى انتقاد الحكومة الإسرائيلية، وتحدث تحديدًا عن تيار الصهيونية الدينية في الحكومة الإسرائيلية، الذي يمثله إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، داعيًا نتنياهو إلى تغيير الحكومة التي «تجعل من الصعب عليه التحرك».

تقترب «إسرائيل» قليلًا من الموقف الأمريكي مع التصريح برغبتها بسيطرة أمنية على غزة، مع شراكة «عربية معتدلة» في إدارة القطاع، ووجود كيان فلسطيني يساهم في هذه العملية.

هذه النقطة حاسمة في تصور الإدارة الأمريكية، خاصةً مع ارتفاع شعبية الوزير في حكومة الحرب بيني غانتس، والذي تشير استطلاعات الرأي إلى تفوقه الكبير على نتنياهو. وغانتس الذي لم يتحدث عن إمكانية حل الدولتين منذ دخوله إلى المجال السياسي في «إسرائيل»، وتجنب أي نقاشات مرتبطة باليوم التالي، تحدث مباشرةً بعد تصريحات نتنياهو السابقة، وهاجمه فيها قائلًا: «هناك من يخلق خلافات وهمية، ويضر بالعلاقات مع الولايات المتحدة». وأضاف: «في هذه الحرب ليس هناك اليوم التالي، هناك عملية طويلة وصعبة وضرورية، بدرجات متفاوتة من الشدة. أيامًا وشهورًا وسنوات»، فيما قال إن اليوم التالي سيكون موضعًا للنقاش في المجتمع الإسرائيلي ومع الولايات المتحدة، كما تحدث عن أنه سيتم من خلال «تعزيز العلاقات مع الدول العربية المعتدلة، وبناء واقع إقليمي مختلف يتضمن إطارًا للحل في غزة». كما تحدث عن «الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية، ولكن في الجانب المدني، سيكون من الصحيح العثور على كيانات محلية تعتني بالصرف الصحي والصحة والقضايا المدنية، مدعومة عربيًا».

أما زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد، فقدم تصورًا لـ«اليوم التالي»، منتقدًا تهرب نتنياهو من هذا النقاش، قائلًا: «إنه يتجادل مع نفسه. لا أحد، ولا حتى الأمريكيين، يعتقد أن غزة يجب أن تُسلم لأبو مازن، فقط أن جهاز السلطة الفلسطينية سيكون جزءًا من الإدارة المدنية لغزة في النهاية، لكن نتنياهو يبحث عن قتال عندما لا أحد يريد القتال». وأضاف: «فكرة الدولتين لشعبين أصبحت بعيدة جدًا عنا. الفلسطينيون يكرهوننا ويريدون أن نختفي. إن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تقبل أبدًا وجودنا، وبالتالي فإن أي حل لدينا مع الفلسطينيين سيكون حلًا من موقع القوة والشدة».

وكان لبيد قد وضع خطة لـ«اليوم التالي»، فصّلها في مقابلة مع «يديعوت أحرونوت»، وقال: «السلطة الفلسطينية يجب أن تكون جزءًا من المرحلة الثانية، وليس المرحلة الأولى. ومن أجل خلق آلية مراقبة تتكون بشكل أساسي من الدول العربية، مع السعودية والإمارات، فإن ذلك لن يتحقق دون مشاركة السلطة الفلسطينية. هذه الآلية يجب أن تخدم غزة من الناحية المدنية، بينما من الناحية الأمنية فإن إسرائيل وحدها هي التي ستتولى إدارة غزة في السنوات المقبلة، لأننا لن نسمح لحماس بالعودة. هناك 26 ألف موظف للسلطة الفلسطينية داخل غزة، ويجب أن يكونوا جزءًا من العنصر المدني في الآلية».

هنا، يتفق كل من لبيد ونتنياهو وبايدن على أن إعادة الإعمار وحتى إدارة المرحلة التالية ترتبط بحضور سعودي وإماراتي، وهو ما ذهبت نحوه تصريحات إماراتية كذلك. ويرتبط ذلك باعتبار أن بايدن لم يتنازل عن خطة التطبيع بين السعودية و«إسرائيل»، وما يعيقه هو استمرار العدوان الدموي على قطاع غزة. هذا بالإضافة إلى محاولة طمأنة دول الطوق، من ناحية عدم حصول نكبة جديدة. ووفق صحيفة «هآرتس» فإن هذا يظهر من ترتيبات بين مصر و«إسرائيل»، حول المنطقة الحدودية، وإمكانية التعاون في إنشاء جدار على محور فيلادلفيا ومعبر رفح.

وفي الواقع، فإن «إسرائيل» تقترب قليلًا من الموقف الأمريكي مع التصريح بعدم الرغبة بحكم غزة والاحتفاظ بسيطرة أمنية من ناحية، والحديث عن وجود شراكة مع دول «عربية معتدلة» في إدارة القطاع، بالإضافة إلى وجود كيان فلسطيني يساهم في هذه العملية. 

والحديث الإسرائيلي عن وجود إدارة مدنية مقابل سيطرة أمنية هو أقرب للنموذج القائم حاليًا في الضفة الغربية، إذ تسيطر «إسرائيل» أمنيًا بشكلٍ كامل على الضفة، وهو ما تجلى بشكلٍ واضح، على مدار الأسابيع الماضية.

أين السلطة من كل ذلك؟

منذ 7 أكتوبر، لم تكن السلطة الفلسطينية حاضرةً بشكلٍ جدي في سياق العدوان. وجاء خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الأول منذ بداية العدوان، في أعقاب مجزرة المستشفى المعمداني، وكان مجموع أحاديث عباس العلنية ثمانية خطابات، كرر فيها اللازمة التي جاءت في الخطاب الأول، وهي رفض التهجير، والمطالبة بوقف إطلاق النار، وإطلاق مسار سياسي (أو ما يعبر عنه بعدم القبول بالحلول الأمنية)، والتأكيد على أن السلطة ومنظمة التحرير، هي الممثل «الشرعي والوحيد للفلسطينيين».

أمّا كلمة عباس الأبرز، فهي التي جاءت أمام القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية التي انعقدت في الرياض، والتي حملت موافقة ضمنيةً على تصور الولايات المتحدة، بالقول: «نؤكد أننا سنواصل برامج الإصلاح في مؤسساتنا ونحن جاهزون للذهاب لانتخابات عامة تشمل كل الوطن الفلسطيني وبما فيها القدس».

وبعد أحاديث متقطعة وموقف أقرب للمراقب من عموم السلطة، جاءت بداية كانون الأول مليئةً بالأحاديث من قبل المسؤولين في السلطة الفلسطينية، وهي الفترة التي بدأت فيها الولايات المتحدة تضغط أكثر على «إسرائيل»، باتجاه تقديم تصور لـ«اليوم التالي».

كان من بين التصريحات، حديث رئيس وزراء السلطة الفلسطينية محمد اشتية، الذي تحدث عن إمكانية قبول حماس كـ«شريك صغير في الحكومة»، وأضاف: «لن نذهب إلى هناك وفق خطة عسكرية إسرائيلية. شعبنا هناك. نحن بحاجة إلى وضع آلية، وهو أمر نعمل عليه مع المجتمع الدولي. ستكون هناك احتياجات ضخمة من حيث الإغاثة وإعادة الإعمار لعلاج الجروح. كل ما نحتاجه الآن هو ما يمكن أن نطلق عليه الهندسة العكسية: دعونا نبني السقف أولًا والسقف هو دولة فلسطين التي يجب أن يعترف بها المجتمع الدولي. وبعد ذلك يجب على مجلس الأمن أن يشكل فريقًا يجمعنا ويقول: دعونا نعمل على الحدود، وماذا نفعل بالمستوطنات».

بينما تناقش تل أبيب وواشنطن مرحلة «اليوم التالي»، فإن المقاومة الفلسطينية ما تزال قادرة على الصمود والاشتباك في شمال غزة.

جاء التعبير الأكثر تفاعلًا مع التصورات الأمريكية على لسان عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد مجدلاني، الذي قال إن السلطة ستقبل «اقتراح إدارة بايدن بإعادة توحيد غزة والضفة الغربية تحت سيطرة السلطة إذا دعم المجتمع الدولي إعادة إعمار غزة ودفع إسرائيل للموافقة على حل الدولتين». كما تحدث مجدلاني عن قبول إجراء انتخابات كجزء من الترتيبات، وأجندة سياسية إصلاحية، موضحًا: «السلطة الفلسطينية يمكن أن تبدأ حكم غزة بمجرد انتهاء الصراع الحالي، ويمكن أن تجري انتخابات بعد فترة انتقالية، من سنة إلى سنتين».

وفي رد على نتنياهو، الذي عزا جزءًا من انتقاداته للسلطة الفلسطينية لعدم إدانتها عملية «طوفان الأقصى»، قال مستشار رئيس السلطة الفلسطينية محمود الهباش: «إن محمود عباس يدين حماس في كل مكالمة واجتماع، لكنه لن يفعل ذلك علنًا في ظل استمرار الحرب في غزة». كما اعتبر أن إمكانية إقامة الانتخابات واردة لولا «رفض إسرائيل عقدها في شرق القدس». مضيفًا: أن «الحديث عن تجديد السلطة الفلسطينية عقيم طالما استمرت إسرائيل في تعزيز السياسات التي تهدف إلى تقويضها».

وفي المقابلة التي أجراها الهباش مع موقع «تايمز أوف إسرائيل»، علق على حديث مسؤول أمريكي عن «نجاح قوات أمن السلطة الفلسطينية في الحفاظ على هدوء نسبي في الضفة الغربية، في ظل الحرب على غزة»، بالقول: «هذا دليل على أن بإمكاننا القيام بالشيء نفسه في غزة». وتحدث عن الحاجة إلى فترة انتقالية مدتها ستة أشهر على الأقل حتى تتمكن السلطة الفلسطينية من «إعادة تأهيل» نفسها قبل أن تتمكن من حكم غزة. كما تحدث عن الموافقة على وجود قوة دولية أو عربية للمساعدة في إدارة الشؤون المدنية والأمنية في غزة حتى تصبح السلطة الفلسطينية جاهزة لتولي المسؤولية، مضيفًا: «نحن نسعى إلى حل سياسي، وليس إلى حل أمني فقط، نحن على استعداد لتولي المسؤولية الكاملة عن غزة، ولكن فقط إذا كان ذلك جنبًا إلى جنب مع الضفة الغربية وليس كمقاولين لإسرائيل».

كما تحدث عضو اللجنة المركزية لحركة فتح صبري صيدم عن إعداد السلطة الفلسطينية وفتح «بيان رؤية حول ما سيأتي بعد الحرب»، وتحدث عن وجود 40 ألف شخص يتبعون للسلطة الفلسطينية في غزة «يمكن إعادة تنشيطهم للقيام بمهام أمنية». وهي خطة تحدثت مصادر إسرائيلية عن تقديمها لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.

من جانبه، قال أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير حسين الشيخ إن «المطلوب من الولايات المتحدة الأمريكية، أن تحوّل الأقوال إلى أفعال جدية، المطلوب حاليًا وقف الحرب، وثانيًا خطة سياسية تؤدي إلى نهاية الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية». أمّا عن اعتراف حماس بـ«برنامج منظمة التحرير الفلسطينية والشرعية الدولية والقانون»، فقال إنه أمر يجب أن يحصل «بدون أدنى شك. الشرعية والقانون الدولي ما يحمينا». وكرر اللازمة الدائمة في حديث مسؤولي السلطة عن «الحل الشامل، ورفض الحلول الأمنية والعسكرية».

وفي مقابلة أخرى، مع «رويترز»، كان الشيخ أكثر صراحة في إدانة حماس والاستعداد لإدارة غزة، بالقول: «من غير المقبول أن يعتقد البعض أن أسلوبهم ونهجهم في إدارة الصراع مع إسرائيل كان الأمثل والأفضل»، مضيفًا أن «السلطة الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني وستكون مستعدة للسيطرة على غزة بعد الحرب». وكرر الشيخ اللازمة التي تحدثت عن رغبة السلطة في وجود مشروع سياسي، لكنه قال إن وظيفته هي العمل مع «إسرائيل» لـ«تخفيف معاناة الفلسطينيين».

تجديد «الشرعية»

حملت كل التصريحات التي صدرت من السلطة الفلسطينية إدانة ضمنية لحركة حماس، بما يتوافق مع الطلب الأمريكي. كما أنها لا تظهر أي اختلاف فعلي عن التصور الأمريكي المطروح لـ«اليوم التالي»، فهناك موافقة على إدانة المقاومة، وإقرار بإمكانية تجديد السلطة الفلسطينية، بما يتوافق مع الحديث الأمريكي عن الحاجة إلى «سلطة متجددة».

الأهم هو إبداء الاستعداد للعودة إلى حكم قطاع غزة، وصولًا للحديث عن مناقشات تفصيلية حول إعادة التواصل مع موظفي السلطة وعناصر الأمن في قطاع غزة، الذين توقفوا عن العمل منذ عام 2007، وهو المقترح الذي قدمته الإدارة الأمريكية، للسلطة الفلسطينية بحسب موقع «أكسيوس»، وعبرت السلطة عن قبولها بها، معتبرةً أن ما يعيقها عن العمل في غزة هو حكومة نتنياهو.

قبل العدوان الإسرائيلي على غزة، دارت بعض النقاشات الإسرائيلية حول مصير أبو مازن، والخليفة المحتمل له، وهو نقاش لم تغب عنه واشنطن. فيما تظهر اللحظة الحالية كفرصة، لإمكانية إعادة ترتيب «حالة السلطة» بشكلٍ كامل، واستعادة شرعية لها.

تحولت استعادة الشرعية إلى خطوة دورية في السلوك الأمريكي والإسرائيلي مع السلطة الفلسطينية. ففي أثناء الانتفاضة الثانية، كان هناك محاولات جزئية لإعادة ترتيب ومنح شرعية إسرائيلية وأمريكية للسلطة، مثل الإصلاحات المالية واستحداث منصب رئيس الوزراء. فيما كانت العملية الأكبر، بعد رحيل ياسر عرفات، وإعادة تنظيم السلطة الفلسطينية، ضمن عملية تفاوض جديدة مع «إسرائيل»، ضمن ترتيب أمني أكثر وضوحًا ومتانة.

اليوم، تناقش الإدارة الأمريكية تنازل عباس عن جزء من «سيطرته على السلطة»، من خلال حصوله على منصب فخري وتعيين نائب له أو زيادة صلاحيات رئيس الوزراء. وهو تصور يوافق عليه عباس، وفق مقابلة مع وكالة «رويترز» قال فيها إنه مستعد لتجديد السلطة الفلسطينية بزعماء جدد وإجراء الانتخابات، بشرط وجود اتفاق دولي ملزم من شأنه أن يؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية.

تنظر «إسرائيل» والولايات للحظة الحالية، كفرصة لإعادة ترتيب الوضع على أساس أمني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولإعادة السلطة الفلسطينية إلى مسار استكمال دورها الوظيفي بشكلٍ كامل. وبينما تناقش تل أبيب وواشنطن مرحلة «اليوم التالي»، فإن المقاومة الفلسطينية ما تزال قادرة على الصمود والاشتباك في شمال غزة، بعد شهرين من التوغل البري، ويقر الجيش الإسرائيلي بأن «الإعلان عن أن تدمير حماس سيحدث قريبًا، منفصل عن الواقع».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية