المشروعات القومية وأحلام التنمية الزائفة في مصر

الإثنين 19 حزيران 2023
العاصمة الإدارية الجديدة في مصر تحت الإنشاء. تصوير خالد دسوقي. أ ف ب.

تتزايد في السنوات الأخيرة، وبالأخص مع اشتداد الأزمة الاقتصادية في مصر، الانتقادات الموجهة لمشروعات البنية التحتية الكبرى، المسماة المشروعات القومية، والتساؤلات حول جدواها الاقتصادية، حتى إن صندوق النقد، في مراجعته الأخيرة للقرض الذي حصلت عليه مصر، طالب الحكومة بإبطاء وتيرة تنفيذ تلك المشروعات من أجل السيطرة على معدلات الدين الخارجي المتضخمة، بل إن مقربين من السلطة الحاكمة في مصر طالبوا بوقف تنفيذ المشروعات لحين عبور الأزمة الاقتصادية. أصبحت هذه المشروعات، التي روّج لها النظام على أنها السبيل الأمثل للخروج من عنق الزجاجة بالنسبة لبلد كثيف السكان مثل مصر، مثارَ انتقاد على المستوى الشعبي، وكثيرًا ما تقابل افتتاحات تلك المشروعات أو الحديث عن الإنجازات بالكثير من التندر والغضب حول مستويات معيشة المصريين التي تدهورت بفعل التخفيضات المتتالية للعملة في السنوات الأخيرة.

تبدو قصة المشروعات القومية الكبرى في مصر مفهومة للمتابعين من خارج مصر إلى حد كبير، فالأنظمة السلطوية غالبًا ما تنفق الأموال على مشروعات كبرى، كناطحات السحاب، والمساجد، والكنائس، والميادين الواسعة، والطرق شديدة الاتساع، التي يبدو أنها صممت من أجل الاستعراضات العسكرية لا من أجل البشر. لكن الجدل حول المشروعات القومية غالبًا ما يكون شديد التعقيد، بين حاجة مصر للاستثمار في البنية التحتية لعدد متزايد من السكان، وطبيعة تلك الاستثمارات التي تقصي الكثير من السكان، وبالأخص في المناطق القديمة المكتظة، لحساب الاستثمار المكثف في البنية التحتية حول أطراف القاهرة والمناطق السكنية الجديدة، بل ومدن كاملة في السنوات الأخيرة، كالعاصمة الإدارية الجديدة.

رغم أن الاستثمار في البنى التحتية أمر مهم بالنسبة للبلدان النامية بشكل خاص، فإن تلك المشروعات القومية تعبر عن رؤية ضيقة لهذا النوع من الاستثمار. فالبنية التحتية ليست فقط شبكات الطرق التي تخدم أطراف وضواحي القاهرة، بل تشمل البنية التحتية الاجتماعية في قطاعات مثل التعليم والصحة، وتطوير البنية التكنولوجية لقطاعات ذات قيمة مضافة مرتفعة كالقطاع الصناعي. تحمل مشروعات البنية التحتية بشكلها الحالي في مصر الكثير من المخاطر على مستوى الجدوى الاقتصادية والتمويل، وقدرتها على خلق نموذج نمو اقتصادي مستدام، خاصة في بلد ليس لديه الكثير من الفوائض الاقتصادية مثل الخليج من أجل الإنفاق ببذخ على مشروعات كبرى من قبيل القطار الكهربائي السريع، والعاصمة الإدارية، والمونوريل وغيرها.

تساهم هذه المشروعات في تعميق أزمة الاقتصاد الهيكلية في مصر، سواء على مستوى الإنتاجية أو جودة النمو الاقتصادي الذي تخلقه تلك الاستثمارات المكثفة والممولة من خلال القروض الداخلية والخارجية. لذا، فمن المهم النظر للمشروعات القومية ليس من خلال عدسة الفشل والنجاح، بل عبر تحليل العلاقات الاقتصادية والسياسية التي أنتجتها.

لنكن مثل دبي

بدأ كل شيء في آب 2014. أحكم السيسي قبضته على الحكم ثم حصل على شرعية صندوق الانتخابات، وأعلن عن مشروعه القومي الأول: قناة سويس جديدة. ذهل الجميع بالطبع، وظن الكثيرون أن هذا مقدمة لتطوير محور قناة السويس، وهو مشروع طالما كان هدفًا لمصر في السنوات الأخيرة، لكنه لم ينطلق بشكل حقيقي حتى الآن. إذ يقتضي تطوير محور القناة تحويل منطقة قناة السويس إلى منطقة لوجستية شبيهة بجبل علي في الإمارات.

قبل ذلك التاريخ بشهور قليلة، أطيح بالإخوان من الحكم تحت ذريعة استقطاب سياسي واسع شهده الشارع المصري، وكان من ضمن المبررات الإعلامية لما حدث هو تفكير الإخوان في بيع قناة السويس للقطريين. منذ عام 2014، وحتى قبل أن تفتتح تفريعة القناة الجديدة التي امتدت لـ35 كيلومترًا، بدأ الكثيرون في الترويج لأرقام غير منطقية عن الدخل المتوقع منها. تحدث وقتها اللواء مهاب مميش، رئيس هيئة قناة السويس، عن إيرادات متوقعة للقناة الجديدة تساوي 100 مليار دولار سنويًا دخل إضافي للقناة، مع أن قناة السويس نفسها لم تكن إيراداتها في ذلك الوقت سوى 5.1 مليار دولار. ارتفعت إيرادات القناة بالطبع مع طفرة العبور فيها بسبب تقليل وقت العبور بثلاث ساعات، لكن الدخل المتحقق منها زاد من خمسة مليارات إلى سبعة مليارات في 2022، بعد ثماني سنوات تقريبًا على افتتاح القناة الجديدة. ربما تكون المبالغة هي السمة الأساسية لكل المشروعات الكبرى التي أنشأتها مصر في السنوات الأخيرة: المبالغة في الجدوى الاقتصادية للمشروعات، والمبالغة في الحديث عنها بوصفها إنجازات ترسخ وصول مصر، البلد كثيف السكان قليل الموارد، إلى مصاف الدول الكبرى.

أنفقت مصر الكثير من المليارات خلال العقد الأخير على مشروعاتها القومية. ثمة مشكلة في حصر الأرقام بدقة نظرًا لكبر حجم المشروعات وعدم وجود بيانات تفصيلية حول أوجه الإنفاق على تلك المشروعات. لكن تصريحات المسؤولين يمكن أن تعطينا لمحة عن الرقم الإجمالي. ففي شباط 2022، صرح السيسي بأن تكلفة المشروعات القومية قاربت 400 مليار دولار (10 تريليون جنيه تقريبًا بسعر الصرف وقتها)، وهو رقم كانت قد صرحت به قبلها وزيرة التخطيط هالة السعيد. وفق هذا الرقم، فقد أنفقت مصر بين 2014 و2022 في المتوسط حوالي 50 مليار دولار سنويًا على المشروعات القومية، ويعد هذا الإنفاق نسبةً معتبرة من الناتج المحلي في السنوات الأخيرة في مصر، إذ يمثل 12.4% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021.

خلال تلك السنوات، زاد الدين الخارجي للبلاد من 45 مليار دولار في 2014 إلى ما يقارب 160 مليار دولار حاليًا، وأدى تمويل تلك المشاريع القومية من خلال الاقتراض إلى أزمة اقتصادية عنيفة جعلت الجنيه المصري يفقد ما يقرب من 78% من قيمته خلال هذه السنوات التسع. طوال العقد الماضي، ساءت الأوضاع الاقتصادية لأغلب المصريين بشكل غير مسبوق، وتجسدت أزمة مستويات المعيشة بشكل يومي لدى أغلب المصريين، حتى الطبقات الوسطى التي لم تعد قادرة على التشبث بمواقعها الطبقية ولا الحفاظ حتى على قدرتها قصيرة المدى على الاستهلاك في ظل التضخم المرتفع.

إعادة هيكلة الاقتصاد والدولة

بعد ثلاث سنوات من السيولة السياسية، من 2011 وحتى 2013، جاء السيسي ومعه الجيش للحكم. كان أحد أول الخطابات الواضحة للنظام الجديد ذي الطابع العسكري الواضح هو عدم كفاءة البيروقراطية المدنية، سواء على المستوى الإداري أو التنفيذي، وتجلى ذلك في محاولات تقليل عدد العاملين في الجهاز الإداري من خلال قانون الخدمة المدنية. ولكن الأهم كان تغيير آلية اتخاذ القرارات الاقتصادية الخاصة بالمشروعات والعقود الحكومية. كانت الفكرة أنه بدلًا من إصلاح الجسد المترهل للدولة المصرية، يجب استبدال البيروقراطية التي عطلت التنمية لسنوات طويلة بالنخبة العسكرية. وذلك ما حدث فعليًا، عبر عملية إحلال للبيروقراطية وتعديل آليات اتخاذ القرارات الاقتصادية والإدارية، من خلال تعديل قوانين مثل قانون المناقصات الحكومية، لتُسند المشروعات بشكل مباشر للهيئة الهندسية للقوات المسلحة، التي ستصبح المشرف على تنفيذ تلك المشروعات. وشيئًا فشيئًا، استبدلت بيروقراطيةُ الجيش بيروقراطيةَ الدولة المدنية، وبالأخص في المستويات الأعلى من إدارة العقود الحكومية، وتحديدًا في الاستثمارات في البنية التحتية.

حشدت الحكومة مواردها ومعها موارد القطاع الخاص الكبير في قطاعات التشييد والبناء من أجل إحداث الطفرة العمرانية المرتقبة، التي يمكن تصويرها بكاميرات الدرونز، لتخرج في نشرات الأخبار على أنها إنجازات.

شملت المشروعات القومية التي أشرفت عليها الهيئة الهندسية كل شيء تقريبًا، من الزراعة والاستزراع السمكي وتبطين الترع، إلى التشييد والبناء وإنشاء الوحدات السكنية والتجارية، وصولًا إلى مشروعات بناء مدن جديدة بالكامل. حشدت الحكومة مواردها ومعها موارد القطاع الخاص الكبير في قطاعات التشييد والبناء من أجل إحداث الطفرة العمرانية المرتقبة، التي يمكن تصويرها بكاميرات الدرونز، لتخرج في نشرات الأخبار على أنها إنجازات.

تركزت الاستثمارات الحكومية والخاصة في ثلاثة قطاعات، أولها قطاع التشييد والبناء، الذي ارتفعت نسبة مساهمته في الناتج المحلي من 4.3% في 2014 إلى 7.6% في 2022. أي أنه في خلال ثماني سنوات، زادت مساهمة القطاع بما يقارب 80% تقريبًا، وبمعدل نمو يقارب 9.5% سنويًا. يعد هذا المعدل شديد الارتفاع في الحالة المصرية، إذ إن الناتج المحلي المصري في نفس الفترة سجل متوسط نمو لا يتعدى 4.5% تقريبًا، في حين نما قطاع التشييد والبناء بما يزيد عن ضعف هذه النسبة.

القطاع الثاني الذي تركزت فيه الاستثمارات الحكومية كان قطاع العقارات، إذ رأت الدولة فيه فرصة لاستخراج الريع وجني الأرباح كما يفعل القطاع الخاص، ووجدت أن لديها الكثير من الأراضي الصحراوية في الظهير العمراني للمدن الكبرى، وتحديدًا القاهرة، وقررت أن تستغلها للبيع للقطاع الخاص أو للقيام بدور المطور العقاري عبر وزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية ولاحقًا شركة العاصمة الإدارية التي تأسست بالشراكة بين الجيش وهيئة المجتمعات العمرانية. ما بين عامي 2014 و2022، نمت مساهمة قطاع الأنشطة العقارية في الناتج المحلي بشكل متسارع، إذ ارتفعت من 9% إلى 11%، أي بزيادة بنسبة 22%، وهو ارتفاع كبير إذا قارنّاه بالتغير في مساهمة قطاع كالصناعات التحويلية غير البترولية في مصر، الذي لم ترتفع مساهمته في تلك الفترة في الناتج المحلي سوي بـ1% تقريبًا.

أما القطاع الثالث، الذي بدأ يكتسب الكثير من الزخم خلال السنوات الماضية، فهو قطاع النقل، تحديدًا مع تعيين اللواء كامل الوزير، الرئيس السابق للهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وزيرًا للنقل. إذ بدأت مشروعات النقل تأخذ حيزًا كبيرًا من الاستثمارات القومية، خاصة المشروعات الكبرى مثل القطار السريع الذي يتوقع أن تصل تكلفته لما يقارب 30 مليار دولار، بالإضافة لمشروعات مثل المونوريل والموانئ الجافة وغيرها.

غيرت تلك الاستثمارات من طبيعة الناتج المحلي في مصر، إذ ارتفعت مساهمة القطاعات الثلاث الماضية إلى ما يقارب ربع الناتج المحلي تقريبًا بأقل التقديرات. غير أن تقديرات النمو تعطينا لمحة أكبر عن سيطرة تلك القطاعات على عملية خلق القيمة الاقتصادية في الاقتصاد المصري، فالقطاعات الثلاثة تساهم بما لا يقل عن نصف معدلات النمو في مصر في الوقت الحالي.

كان ذلك الدفع المستمر من قبل الدولة لقطاعات العقار والتشييد والبناء شديد الصعوبة على بلد مثل مصر، فهي لا تمتلك فوائض النفط، وليست بحاجة لتنويع اقتصادها بشكل يبرر طفرة العقارات كما حدث في الخليج. بل إن الاستثمارات المكثفة في البنية التحتية في مصر لا يمكنها وحدها أن تجلب الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي يعد بمثابة حلم مفقود للحكومة وصندوق النقد. فحتى لو جاءت الشركات الأجنبية للاستثمار في هذا القطاع، فإن طبيعة المشاريع سوف تفرض عليها تقليل حجم أعمالها على المدى الطويل، فلا يمكن أن تستمر الطفرات الإنشائية في البنية التحتية إلى ما لانهاية. بالتالي، فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في ذلك القطاع –ولو جاءت- فستكون استثمارات قصيرة ومتوسطة المدى، على عكس الاستثمار في القطاع الصناعي.

يمثل الاستثمار في البنية التحتية في الحالة المصرية نوعًا من استخراج الريع، يشبه إلى حد كبير الاستثمار في قطاعات مثل التعدين واستخراج البترول، وإن كانت طبيعة الاستثمارات في تلك القطاعات أكثر استدامة إذا تم اكتشاف حقول أو مناجم مثلًا. ففي الحالة المصرية، كانت معظم الاستثمارات في البنية التحتية مدفوعة من قبل الدولة، سواء شمل ذلك تكلفة إنشاء المرافق في مدن كاملة أو مد شبكات الطرق والجسور إليها أو حتى في الوقت الحالي إنشاء وبيع الوحدات السكنية.

اتبع المال

تبدو محاولة تفسير الاستثمار المكثف في البنية التحتية في مصر عصية على الفهم في أحيان كثيرة، ليس فقط لأن مصر لا تملك فوائض مالية كبيرة أو لأنها عانت تاريخيًا من مشكلة كبيرة في عجز الموازنة، بل أيضًا لأن كثافة الاستثمار الحكومي كانت شديدة التوسع لدرجة يصعب معها فهم لماذا يتم الاقتراض بشكل مكثف من أجل بناء تلك المشاريع. دفع هذا الاستثمار الكثيف الكثيرين للقول إن مصر تنفق ببذخ غير مفهوم على تلك المشروعات القومية الكبرى.

تدفع الحكومة بخطاب أن استثماراتها في السنوات الماضية كانت لتعويض غياب القطاع الخاص عن الاستثمار في السنوات التي أعقبت ثورة يناير 2011، وبالتالي كان على الحكومة أن تعوض ذلك الفارق في معدلات الاستثمار من القطاع الخاص. أدت الاستثمارات الحكومية الضخمة في مصر في الإنشاءات والعقارات والصناعات المغذية المرتبطة بها إلى توليد معدلات نمو وتوظيف عالية إلى حدٍّ ما اعتبارًا من العام 2013 فصاعدًالكن الاستثمارات القومية في تلك المشروعات تكلف الكثير، ففي الفترة من 2014 وحتى 2022، قفز الإنفاق على الاستثمارات العامة من 130 مليار جنيه أو 5% من الناتج المحلي إلى ما يقارب تريليون جنيه أو حوالي 11% من الناتج المحلي. حافظ هذا الإنفاق الحكومي المكثف بالفعل على مستوى متدنٍ في معدل البطالة، لكن لا يمكن إغفال مدى جودة التوظيف في قطاعات البنية التحتية.

النظر للبنية التحتية على أنها فقط طرق وجسور وعقارات ومدن جديدة ليس سوى نظرة ضيقة، إذ إن قطاعات مهمة في البنية التحتية في مصر، مثل التعليم والصحة، تعاني من ضعف الاستثمار فيها، وهو ما يؤثر على جودة رأس المال البشري في مصر.

بعيدًا عن ذلك، يبدو أن الاستثمارات المكثفة في البنية التحتية كان لها هدف أهم وهو إعادة بناء شبكات الولاء للنظام الحاكمفمن خلال إشراك الجيش في تلك المشروعات سواء كمقاول مباشر أو كمشرف، غادرت الكثير من الأموال خزينة الدولة نحو تلك الشبكات المعقدة. تمثل حوكمة العقود الحكومية مشكلة كبيرة حتى في الدول الديمقراطية، ويمثل قطاع البنية التحتية مشكلة كبيرة في ذلك، نتيجة لطبيعة القطاع نفسه، الذي تعتمد مشاريعه على التنفيذ على مدد زمنية طويلة.

تمثل الاستثمارات المكثفة في البنية التحتية ثلاث مشكلات، الأولى هي أنها لا تؤثر بشكل كبير على مستويات الإنتاجية في مصر كما يمكن أن نتصور، نتيجة مشكلاتٍ أكثر هيكلية في الاقتصاد ترتبط بمعدلات إنتاجية العمل والقيمة المضافة للصناعة في الاقتصاد. فمن خلال مقارنة نتائج التعداد الاقتصادي بين عامي 2013 و2018 يمكن أن نرى الانخفاض في إنتاجية الاقتصاد بشكل عام في كل القطاعات تقريبًا باستثناء قطاع البترول والطاقة وبعض القطاعات الخدمية، حتى إن مستويات الإنتاجية في قطاع التشييد والبناء المرتبط بالكثافة الاستثمارية في البنية التحتية ظلت ثابتة تقريبًا طوال تلك السنوات. كذلك، يظهر الفاقد في الإنتاجية من خلال النظر للقيمة المضافة لقطاع التصنيع، التي انخفضت من 17% كنسبة من الناتج المحلي في 2014 إلى 15% في 2021، بحسب بيانات البنك الدولي.

ثاني مشكلات المشروعات القومية هي تكلفة التمويل، لأن معظم تلك المشروعات يتم تمويلها من خلال الاقتراض المكثف من أسواق الديون المحلية والدولية. وبحسب خطة الحكومة للتنمية الاقتصادية في العام المالي السابق، فإن ما يقرب من 60% من المشروعات القومية التي تقوم بها الهيئات الاقتصادية كانت ممولة من خلال القروض.

أما المشكلة الثالثة وهي الأعمق، فتتمثل في أن هذه المشروعات لا تنتج النمو الاقتصادي المطلوب، وهو النمو الأكثر شمولًا والذي يمكن أن تتوزع أرباحه وأعباؤه بشكل جيد على فئات واسعة من السكان. فقطاع البنية التحتية بشكل عام والتشييد والبناء بشكل خاص يعتمد في أغلبه على العمالة الموسمية، وبالتالي لا يوفر للعمال أي قدر من التأمين الاجتماعي والحماية الاجتماعية ضد البطالة. وفي العموم، تعاني مصر من مشكلات كبيرة في جودة العمل، وجزء من تلك المشكلات هو انعدام الرسمية في علاقات العمل في مصر، حيث لا يتمتع سوى 30% من المشتغلين في سوق العمل بتغطية تأمينية بحسب آخر الأرقام الرسمية في 2018.

بعد ما يقرب من 10 سنوات على تجربتها كدافع للنمو الاقتصادي، تبدو الاستثمارات في البنية التحتية بشكل واضح كاستراتيجية قاصرةتدفع تلك الاستثمارات المكثفة بالفعل النمو الاقتصادي، لكن جودة هذا النمو متدنية للغاية. يجادل عمرو عادلي أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بأن إعطاء الأولوية لتلك القطاعات من أجل دفع النمو الاقتصادي لا يحقق الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، لأن السلع التي تنتج من الاستثمار في البنية التحتية (طرق، وجسور، وعقارات، إلخ) هي بطبيعتها من السلع غير القابلة للتداول، بمعنى أنها لا يمكن تصديرها بأي شكل من الأشكال ولا يمكن إحلالها محل الواردات، بل على العكس من ذلك. ففي البنية التحتية في قطاع النقل، تستورد مصر بقروض أجنبية كثيفة مدخلات التكنولوجيا للقطارات وأنظمة الإشارة وغيرها. بالتالي، لا تولد تلك القطاعات فائضًا اقتصاديًا جيدًا يمكّن مصر من معالجة الوضع الاقتصادي الخارجي لها سواء على مستوى العجز في الميزان التجاري أو في ميزان المدفوعات، وهي الأزمات التي دفعتها مرارًا خلال السنوات الماضية لتخفيضات متكررة لقيمة العملة المحلية.

في النهاية، لا يمكن القول إن البنية التحتية غير مهمة، فهي تلعب دورًا مهمًا في تحفيز النمو الاقتصادي على المدى الطويل، بل إن مستوى البنية التحتية شرط أساسي للنمو الاقتصادي، لكنه ليس الشرط الوحيد. كما أن النظر للبنية التحتية على أنها فقط طرق وجسور وعقارات ومدن جديدة ليس سوى نظرة ضيقة، إذ إن قطاعات مهمة في البنية التحتية في مصر، مثل التعليم والصحة، تعاني من ضعف الاستثمار فيها، وهو ما يؤثر على جودة رأس المال البشري في مصر.  

يمكن للبنية التحتية أن تلعب دور المحفز الحقيقي لنمو اقتصادي مستدام في مصر من خلال إعادة النظر فيها بشكل أكثر اتساعًا. فالاستثمار في التعليم والصحة يعد شرطًا قبليًا لتطوير البنية التحتية الاجتماعية. ويمكن تحسين كفاءة مؤشرات الإنتاجية ومؤشرات التوظيف وتوفير العمل اللائق لحوالي مليون مصري يدخلون لقوة العمل كل عام، من خلال الاستثمار في التعليم والإنتاج، وربط سوق العمل بشكل حقيقي بالنظام التعليمي، والاستثمار في رأس المال البشري بشكل كفؤ، يتيح توزيع أرباح وأعباء النمو الاقتصادي في مصر بشكل أكثر عدالة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية