ما الجديد في عودة «خدمة العلم» في الأردن؟

الأحد 13 أيلول 2020
عودة خدمة العلم
جندي أردني يحرس الحدود مع سوريا. تصوير محمد أبازيد. أ ف ب

في كلمته الأسبوعية المتلفزة يوم الأحد الماضي، السادس من أيلول، قال رئيس الوزراء عمر الرزاز: «إن الحكومة -وفي إطار سعيها لمواجهة تحديات الفقر والبطالة والاستثمار في قدرات الشباب- ستعمل على إعادة تدريجيّة لخدمة العلم، بشكل وقالب جديد ومختلف عما كانت عليه في سنين مضت»، ثم أوضح: «لطالما كانت هناك مطالبات مستمرة من الأردنيين في السنوات الماضية بإعادة خدمة العلم لصقل الهوية الوطنية للشباب، وتعزيز ثقافة الانضباط والالتزام بما يخدم مستقبلهم ووطنهم، تلك التجربة التي ارتبطت بحب الفوتيك وشعار الجيش الذي طالما كان رمزًا للوطنية والإنجاز».

قد يفسر هذا الاقتباس جانبًا من مجريات النقاش العام الذي دار حول إعلان عودة خدمة العلم بعد ذلك، وهو -كما سيتضح- نقاشٌ ساده قدر من التشوّش.

في اليوم التالي لكلمة رئيس الوزراء، نشرت صحيفة «الرأي» متابعة صحفية للخطوة الحكومية، أوردت فيها بعض التفاصيل. وقد نسبت الصحيفة المعلومات إلى مصدر حكومي مطّلع، وجاء فيها أن مدة الخدمة ستكون سنة كاملة، منها ثلاثة شهور في التدريب العسكري، يتلقى فيها الملتحق مبلغ 90 دينارًا شهريًا، تليها تسعة شهور يجري فيها إشراك الملتحقين في برامج تدريبية وتشغيلية في القطاع الخاص، يتلقى خلالها الملتحقون راتبًا مجموعه 220 دينارًا شهريًا (وهي قيمة الحد الأدنى للأجور)، تَدفع منه الحكومة 90 دينارًا، فيما يَدفع المشغّل الخاص 130 دينارًا. 

قُدمت الخطة يوم الأربعاء الماضي في حفل توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة العمل والقوات المسلحة، وقد اتضحت، وفق ما نشر رسميًا، تفاصيل أخرى أبرزها؛ أن الخدمة ستكون إلزامية لمن هم في أعمار تتراوح بين 25 إلى 29 عامًا، وستكون للذكور فقط، ووفق شروط أهمها:

«أن يكون الشخص بدون عمل، فلا تكون له اشتراكات فعلية بالضمان الاجتماعي خلال السنة الأخيرة التي تسبق تاريخ استدعائه لخدمة العلم، أو أن لا يكون قادرًا على إثبات عمله بانتظام خلال السنة الأخيرة التي تسبق تاريخ الاستدعاء بغض النظر عن الاشتراك بالضمان الاجتماعي، ولا يكون شريكًا في شركة مسجلة أو مالكًا لمؤسسة فردية، مسجلة لدى الجهات المختصة، فعالة خلال السنة الأخيرة التي تسبق تاريخ الاستدعاء».

وفي الجوانب الأخرى، أُعلِن في الحفل أن الملتحِق بالخدمة سيتلقى مبلغ 100 دينار شهريًا طيلة فترة الخدمة، لا 90 دينارًا كما سبق وأُعلن، وأن الملتحق خلال هذه الفترة سيكون خاضعًا لقوانين القوات المسلحة من حيث الالتزام والانضباط، سواء خلال فترة التدريب العسكري الأولى (ثلاثة شهور)، أو خلال بقية المدة التي سيقضيها في أحد مسارين؛ المسار الأول، وأطلق عليه «التدريب التحضيري» وهو مخصص للذين لا يملكون مهارات أو يحملون شهادات جامعية، والمسار الثاني هو التدريب المهني أو التقني، بالإضافة إلى التدريب في مواقع العمل، وهو مخصص لحملة الشهادات. ومدة كل من المسارين تسعة أشهر.

غموض وتساؤلات

قبيل الإعلان عن تلك التفاصيل، ساد قدر من الغموض مسألة العودة التدريجية لخدمة العلم، وطرحت بعض الأسئلة حولها؛ فلماذا يُستهدف هذا العمر تحديدًا؟ ولماذا تقوم الحكومة بتزويد القطاع الخاص بعمالة رخيصة مجبرة على العمل؟ وقد بلغت التساؤلات حدّ أن شكّك رئيس ديوان الرأي والتشريع الأسبق، نوفان العجارمة، بمدى قانونية توقيع مذكرات التفاهم بين مؤسسات حكومية تتبع قانونيًا إلى جسم واحد، لكن دون الإشارة المباشرة إلى مذكرة التفاهم الحالية قيد النقاش.

لم تقدم مجريات حفل التوقيع إجابات واضحة، وبالمقابل جرى التركيز على الجانب المتعلق بخدمة العلم ذاتها، وفي ذلك استفادة من أجواء الترحيب أو الاحترام العام، سابقًا وحاليًا، الذي تحظى به الفكرة. غير أن محتوى الفكرة المطروحة حاليًا يبدو غريبًا بعض الشيء مقارنة بالفكرة المعروفة عن خدمة العلم في التجربة الأردنية وفي أغلب التجارب الأخرى، إذ لم يسبق أن كانت الفئة المستهدفة جزئية بهذا الشكل. هذا يجعل الصيغة الحالية تتناقض أو على الأقل تختلف عن جوهر فكرة التجنيد الإلزامي، التي تعني أن يعطي الشاب فترة من حياته لوطنه، ولجيش وطنه، (في الحالة الأردنية سنتين)، مقابل راتب شهري رمزي (كان المكلف بأداء خدمة العلم يتلقى حوالي 15 دينارًا شهريًا). وكان الجميع يخضع لخدمة العلم دون تمييز، مع إمكانية التأجيل فقط، ولكن بشروط محددة بدقة.

في حلقة تلفزيونية لاحقة من برنامج «ستون دقيقة» الإخباري، بُثت مساء الجمعة 10 أيلول، أي بعد يومين من إشهار المشروع، أفصح وزير العمل، نضال البطاينة، عن المجريات التي أوصلت إلى هذا الشكل من تطبيق خدمة العلم، وإلى الأهداف الحقيقية وراءها.

قال الوزير بوضوح إن قضية البطالة هي الأساس، وإن تجربة برنامج «خدمة وطن» الذي طبقته الحكومة مستهدفةً تدريب وتشغيل الشباب الذكور والإناث، يشبه إلى حدٍّ كبير المشروع الحالي، باستثناء أن الأول كان اختياريًا، وبإشراف مدنيّ من قبل وزارة العمل. ولكن الوزارة رأت أثناء التطبيق أن نقطة الضعف الأساسية في تجربة «خدمة وطن» كانت في عدم التزام وانتظام الملتحقين بمراكز العمل والتدريب، وفق البطاينة، وهو ما دفع الوزارة إلى اللجوء إلى القوات المسلحة سعيًا لتحقيق الانضباط المطلوب، وجعلت الالتحاق إلزاميًا للفئة المستهدفة، حيث يعامل الملتحق وفق قانون خدمة العلم لعام 1986 وتعديلاته، وهو ما يعني أنه مجند في الجيش، ويخضع خلال سنة الخدمة لشروط الجندية، بما في ذلك أنظمة العقوبات على التخلف عن الالتحاق أو التغيّب والفرار من الخدمة.

نظرةٌ سريعةٌ على تاريخ خدمة العلم في الأردن 

بالعودة قليلًا إلى الوراء، فقد صدر في عام 1966 قانون للتجنيد الإجباري، شمل الشباب غير العاملين. ثم بعد حرب حزيران 1967، صدر قانون جديد للتجنيد الإجباري ألغى القانون الأول، ثم توقف العمل به، واقتصر على جعل التدريب العسكري جزءًا من الدروس التي يتلقاها الطلبة في الصفوف النهائية من المدرسة. ثم ألغي هذا القانون ليسنّ قانون مؤقت لخدمة العلم الإلزامي، بدأ تطبيقه عام 1976، حيث استدعي للخدمة كل شاب (من الذكور) بلغ الـ18، ابتداء من مواليد عام 1958. وفي عام 1986، صدر قانون خدمة العلم والخدمة الاحتياطية رقم (23) ليحل محل القانون المؤقت. 

لم يكن لطرح فكرة خدمة العلم الإلزامية علاقة بمسألة التشغيل والبطالة أبدًا. بل إن الحالة في عام 1976 كانت معاكسة تمامًا للوضع الحالي من زاوية العمل والبطالة. ففي منتصف السبعينيات، انخفضت البطالة في الأردن، وفي الواقع لم تكن هناك بطالة وفق التعريف العلمي (السعي الحثيث للعمل وعدم الحصول عليه)، بل إن إعلانات توفر فرص العمل لم تكن تجد من يستجيب لها. كانت الاقتصادات الخليجية جاذبة للعمالة إلى درجة أثرت على سوق العمل، كما كان الاقتصاد يشهد نموًا بنسب عالية، بلغت عام 1974 مثلًا 27%.

كما شهد الجيش -وفق أرقام رسمية- نقصًا في أعداد الملتحقين به، وخاصة من الاختصاصيين كالأطباء والمهندسين. ومن هنا جاء التفكير بخدمة العلم بهدف رفد الجيش بالكوادر، بل وفتحت فرصة خدمة العلم لأربع سنوات، مقابل رواتب كاملة، كتشجيع للشباب، بدل خدمة السنتين براتب رمزي.

من بين الأسئلة التي أثارها الإعلان عن عودة خدمة العلم بصيغته الحالية سؤال لماذا تقوم الحكومة بتزويد القطاع الخاص بعمالة رخيصة مجبرة على العمل؟

أعيد طرح هذا النقاش عندما تقرر وقف العمل بقانون خدمة العلم عام 1992، في عهد حكومة رئيس الوزراء زيد بن شاكر، الذي ذكّر النواب حينها بالفرق ما بين الأحوال في منتصف السبعينيات وأوائل التسعينيات من حيث الحاجة والنظرة للتجنيد.

من الواضح اليوم أن الاستعانة بخدمة العلم وبالقوات المسلحة عمومًا جاءت لأهداف مختلفة، ولا علاقة لها بالتجنيد في الجيش، الذي تجري عمليات الالتحاق به وفق برامج أخرى لا علاقة لها بوزارة العمل، أو بقضية التعطل عن العمل، مع التذكير، بأن الجيش لعب تاريخيًا أدوارًا تنموية متنوعة، وفي بعض الحالات يشغّل الجيش مستخدمين مدنيين، ولكن وفق عملية لا تتشابه مع مسألة التشغيل التي نناقشها هنا والتي أعلن عنها مؤخرًا.

يدفعنا هذا إلى نقاش الفكرة بصفتها بالأساس فكرة حكومية مدنية، ومن الواضح وفق تصريحات وزير العمل، أن التشغيل والتدريب بعد الشهور الثلاثة الأولى، سيكون بتنظيم وزارة العمل وفي مواقع تحددها وتنسق بشأنها الوزارة، ولكن بإشراف عسكري وأمني، ضمانًا للالتزام.

التدريب والقطاع الخاص

في النقاش العام اللاحق للإعلان عن المشروع، لوحظ أن حضور القطاع الخاص كموقع لتشغيل وتدريب الملتحقين بخدمة العلم قد تراجع قليلًا، ولم تتم الإشارة إليه بالوضوح الذي جرى في الأيام التي سبقت الإعلان الرسمي وتوقيع مذكرة التفاهم المشار إليها. إلا أن رئيس الوزراء قال في كلمته في حفل التوقيع ذاته، وفق ما نشره موقع وزارة العمل، إن التنفيذ سيكون بالشراكة مع القطاع الخاص. وبالطبع فإن هذا أمر منطقي، نظرًا إلى أن وزارة العمل لا تملك شركات للتشغيل أو التدريب التشغيلي، وأنها تلعب حاليًا دور الوسيط بين قوة العمل والقطاع الخاص.

الواقع أن فكرة التدريب المصمم مركزيًا بعيدًا عن الاحتياجات والمعطيات والإمكانيات الفعلية في الميدان، لم تثبت نجاحًا يُذكر. وقد تشكلت في الأردن خبرة معقولة في ذلك، تدل بوضوح على عدم جدوى الفكرة، وهي بالمناسبة فكرة دولية جاءت كجزء من توصيات المؤسسات المالية الدولية، وخاصة البنك الدولي الذي يولي مسألة التدريب أهمية كبيرة. 

في الأردن، رغم وجود مؤسسة عريقة رسمية اسمها «مؤسسة التدريب المهني» لعبت دورًا تنمويًا مهمًا خاصةً في سنواتها الأولى، إلا أنها أخذت في السنوات الأخيرة تخضع لهجوم وتشكيك. وفي شباط الماضي، أثيرت موجة نقاش حادة عندما طالب وزير العمل في جلسة رسمية بخصخصة التدريب المهني، بعد أن قال إن التدريب تراجع لأنه حكومي، وفي زلة لسان تشير إلى محتوى اجتماعي أكثر حدة، تحدث عن «طفرة» حدثت في الأردن بحيث أن «ابن المزارع أصبح دكتورًا وابن الفران أصبح مهندسًا».

فكرة التدريب المصمم مركزيًا بعيدًا عن الاحتياجات والمعطيات والإمكانيات الفعلية في الميدان، لم تثبت نجاحًا يُذكر

سبق لي أن عاينت تجربتين من تجارب التدريب، واحدة ناجحة والثانية فاشلة، ولعل كل واحدة منهما تشكل نموذجًا على عوامل النجاح وعوامل الفشل، لا سيما وأنهما طُبقتا في المنطقة ذاتها، وهي محافظة معان جنوب الأردن؛ المنطقة التي تشكل ميدانًا للعديد من التجارب. وقد تكفي دراستها التفصيلية للخروج بدروس أكثر فائدة من مواصلة التخطيط المركزي المكتبي البعيد عن الواقع.

التجربة الأولى كانت عام 1998، عندما تم تدريب 200 شاب من معان والمنطقة المحيطة، بالاتفاق مع شركة الفوسفات «الشيدية»، مع وجود هدف واضح وواقعي وحقيقي لكل من الشركة والمتدربين؛ حيث اتُفق على أن تضمن الشركة التوظيف للمتدرب الجيد والمنضبط، أي أن الشركة دربت وفق احتياجاتها، وبالفعل تم توظيف أغلب المتدربين. وعند لحظة المتابعة عام 2016 كان 180 منهم ما يزالون على رأس عملهم في شتى المجالات في الشركة. وقد حظيت تجربة التدريب هذه باحترام الأهالي الذين أخذوا «يتوسطون» لدى إدارة الشركة لقبول أبنائهم كمتدربين فيها.

التجربة الثانية كانت عام 2012، حيث طُلب رسميًا من الشركات العاملة في المنطقة توظيف 800 عامل من أبنائها، وكانت حصة مدينة معان من هذا الرقم 160 وظيفة. تم التعامل مع المتدربين وفق منطق غريب؛ إذ يستلم المتدرب مبلغ 250 دينارًا شهريًا، لمدة سنة تدريب كاملة، مع توفير طاقم تدريب متكامل ومعدات تدريب وتجهيزات مختلفة، بعضها لم يفتح ولم يستخدم نهائيًا، ثم جرى اختيار المتدربين وفق تقسيم بين أبناء العشائر في معان.

بحسب المشاهدات والمقابلات التي أجريتها حول هذه الحالة، لم يكن التعامل جديًا باستثناء أن الالتزام بدفع «رواتب المتدربين» كان منتظمًا، ولم يكن هناك أي تدريب في الواقع. وتمثّلت النتيجة باختصار باستيعاب مجموعات من العاطلين عن العمل لمدة سنة، مقابل رواتب شهرية، إضافة إلى تحمّل كلفة إدارة عملية التدريب ومجموعات المنتدبين والمفوضين بالمتابعة، وإنفاق مبالغ غير معروفة الحجم بدقة. وبعد انتهاء السنة توقفَ التدريب الشكلي وتوقفت الرواتب، دون أثر واضح، وبالنتيجة وضعت جهات التدريب اللوم على ثقافة عيب متوهمة.

خدمة علم لغايات التدريب 

رغم أن فلسفة خدمة العلم تقوم أصلًا على العدالة الاجتماعية والمساواة، وعدم الالتفات إلى الفروقات الطبقية والاجتماعية -وهي تحظى بدرجة عالية من الاحترام في الحيز العام على هذا الأساس-، إلّا أن مشروع وزارة العمل هذا ينطوي على عناصر تمييزية اجتماعية كبيرة، من حيث الفئات المستهدفة. إذ تستهدف الدفعة الأولى خمسة آلاف شاب، من مواليد عام 1995، ولكن شروط الشمول سوف تواجه في التطبيق صعوبات كبيرة وفق المعطيات الميدانية الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، كيف يستطيع العاملون في قطاع كبير مثل البيع المتجول وإعادة التدوير، والعاملون في مهن هامشية في العتالة والتحميل وعلى البسطات، وقد أمضوا فيها سنوات عديدة، وبعضها تحول إلى عمل أسري، أسهم في أحيان كثيرة بخروجهم من دائرة الفقر المالي على الأقل؛ كيف يستطيع هؤلاء إثبات أنهم على رأس عملهم؟

من المقرر أن يبدأ استدعاء الدفعة الأولى مطلع تشرين الثاني القادم، قد لا يكون هذا سهلًا نظرًا لقصر المدة المتبقية، خاصةً أن الخطة أعلنت وتقررت نهائيًا على ما يبدو، وهو ما يتطلب تكثيف التفكير بهدف الوصول إليها بأقل خسائر. ولعل أهم ما في الأمر أن تصان فكرة خدمة العلم، لغايات مستقبلية، قد لا تكون لها علاقة بوزارة العمل ومشاريعها وخططها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية