جشع شركات التكنولوجيا الحيوية يطيل عمر الوباء

الأربعاء 01 أيلول 2021
تحضير جرعة من لقاح أسترازينيكا لحقنها في غواتيمالا. تصوير جوهان اوردونيز . أ ف ب.

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة أندارك، بتاريخ 5 آب 2021.

هل أنقذ الجشع الوضع الراهن؟ هذا ما زعمه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مؤخرًا، حيث قال في مكالمة خاصة لأعضاء البرلمان المحافظين: «سبب نجاح اللقاح هو الرأسمالية، هو الجشع».

رغم محاولات التراجع في وقت لاحق، إلا أن ملاحظة جونسون تعكس وجهة نظر مؤثرة على نطاق واسع، ولكنها غير متماسكة إلى حد بعيد: أن هذا الجشع -السعي غير المقيد لتحقيق الربح قبل كل شيء- هو محرك ضروري للتقدم التكنولوجي. فلنسمها نظرية الحاجة والجشع.

مع ذلك، من بين الدروس العديدة التي علمتنا إياها الجائحة، يمكن للجشع أن يعمل بسهولة ضد الصالح العام. وبينما نحتفي بالتطوير شبه الإعجازي للقاحات الفعالة، التي انتشرت على نطاق واسع في الدول الغنية. لكن الصورة العالمية لا تمت لأي مظهر من مظاهر العدالة بصلة: اعتبارًا من أيار، تلقت الدول منخفضة الدخل 0.3% فقط من إمدادات اللقاحات العالمية. بهذا المعدل، سيستغرق الأمر 57 عامًا حتى تحقيق التلقيح الكامل.

أُطلق على هذا التفاوت اسم «أبارتايد اللقاحات»، وقد استفحل بسبب الجشع. بعد عام من إطلاق منظمة الصحة العالمية «تجمع كوفيد-19 للوصول إلى التكنولوجيا»، وهو برنامج يهدف إلى تشجيع التبادل التعاوني للملكية الفكرية والمعرفة والبيانات، «لم تتبرع أي شركة بمعرفتها التقنية»، بحسب ما قاله سياسيون من الهند وكينيا وبوليفيا في مقال في حزيران لصحيفة الغارديان. بحلول ذلك الشهر، لم تقدم مبادرة «كوفاكس» المدعومة من الأمم المتحدة، وهي خطة لمشاركة اللقاحات أُنشأت لإتاحة الوصول العادل للقاحات للدول النامية، غير حوالي 90 مليونًا فقط من ملياري جرعة وعدت بها. وفي الوقت الحالي، تواصل شركات صناعة الأدوية وجماعات الضغط والمشرّعون المحافظون معارضة المقترحات الخاصة بإعفاءات براءات الاختراع، التي من شأنها أن تسمح لصانعي الأدوية المحليين بتصنيع اللقاحات دون التعرض لخطر قانوني. يزعم هؤلاء أن الإعفاءات ستبطئ الإنتاج الحالي، «وتعزز انتشار اللقاحات المزيفة»، وكما قال السيناتور الجمهوري عن ولاية كارولينا الشمالية ريتشارد بور: «ستقوّض [الإعفاءات] الابتكار ذاته الذي نعتمد عليه لإنهاء هذا الوباء».

كل هذه الآراء تعكس فكرة أن براءات الاختراع وارتفاع أسعار الأدوية هي حوافز ضرورية للابتكار الطبي الحيوي. لكن عند معاينة هذا المنطق عن كثب، سرعان ما يبدأ بالانهيار.

يُنجز قدر كبير من العمل الصعب والمبتكَر في الصناعات والمجالات التي تغيب فيها براءات الاختراع. هل أدى افتقار حماية براءات اختراع الوصفات -على سبيل المثال- إلى أي ندرة في الابتكار في المطاعم؟ المفارقة المزعجة هنا هي أن الاقتصادي الذي يتبنى نظرية الحاجة إلى الجشع هو نفسه من يروج للتفاوت في الدخل.

على سبيل المثال، في عام 2018، كان متوسط دخل الاقتصاديين حوالي 104 آلاف دولار. في نفس الفترة، بلغ متوسط دخل الرؤساء التنفيذيين لشركات الأدوية 5.7 مليون دولار. (المبتكرون ليسوا الطماعين هنا، فقد كان متوسط دخل موظفي الأدوية -بما في ذلك امتيازاتهم- حوالي 177 ألف دولار في عام 2018). حتى في السيليكون فالي، كتب تيم أورايلي، خبير التكنولوجيا ثاقب النظر على الدوام، فإن «فكرة أن رواد الأعمال سيتوقفون عن الابتكار إذا لم يكافئوا بالمليارات هي خيال مريض».

مما لا شك فيه أن الجشع لم يكن جشعًا، بل جهدًا تعاونيًا واسعًا، مُوّل إلى حد كبير بالأموال العامة، وأنتج لقاحات فعالة لفيروس كورونا. استغرقت التقنية الكامنة وراء لقاحات mRNA -مثل تلك التي تنتجها شركتا فايزر وموديرنا- عقودًا من العمل، بواسطة علماء من جامعة بنسلفانيا، لم تسمعوا بهم من قبل على الأرجح. وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، فإن كاتالين كاريكو، إحدى هؤلاء العلماء، «لم تجن أكثر من 60 ألف دولار سنويًا» أثناء إجرائها أبحاثها التأسيسية المبتكرة. بدأ الباحثون في جامعة أكسفورد، الذين طوروا التكنولوجيا وراء لقاح أسترازينيكا، والذي مُوّل من الأموال العامة في الغالب، في البداية بنية الحصول على ترخيص «غير حصري وخالٍ من حقوق الملكية» للقاحهم. تراجعوا عن ذلك فقط بعد ضغوط للعمل مع شركة أدوية متعددة الجنسيات من مؤسسة بيل وميليندا جيتس خصوصًا، ورخصوا التكنولوجيا لشركة أسترازينيكا فقط.

لقد كان مذهلًا، إذن، عندما قال باسكال سوريوت، الرئيس التنفيذي لشركة أسترازينيكا، إن الملكية الفكرية، «جزء أساسي من صناعتنا، وإذا لم نقم بحماية الملكية الفكرية، فلا يوجد حافز لأي شخص للابتكار». علماء أكسفورد، الذين رخّصت أسترازينيكا عملهم، ابتكروا حرفيًا بدون الحوافز التي ادعى سوريوت ضرورتها. لماذا يقدم الصحفيون ادعاءات جشعة، مثل ادعاءات سوريوت، دون تحميل المسؤولية للدور الفارق للسعي وراء الربح؟

لا يخفى على أحد أن المبتكرين (والناس عمومًا) ليسوا بالضرورة مدفوعين بالجشع. على سبيل المثال، كما لاحظ والتر إيزاكسون في كتابه عن عملها، لم تكن عالمة الكيمياء الحيوية الخارقة جينيفر دودنا في تقنية كريسبر للتلاعب الجيني مدفوعة بالمال أبدًا. في الواقع، روى إيزاكسون أن مناورات الشركة حول عملها جعلتها «مريضة جسديًا». تُظهر حالات لا حصر لها مثل حالتها، أن الابتكارات في العلوم والتكنولوجيا لا تنتج عادةً عن ضربات عبقرية، بل عن جهود ميدانية مع فرق متعددة تدور حول نفس الهدف. إذا انسحب أي شخص بسبب نقص الحوافز التي تشبع الجشع، فلا مشكلة: فهم مدعوون لاستثناء أنفسهم من التاريخ. سوف يدرك الآخرون المجد بسرور. ونحن، العامة، لن نخسر شيئًا.

ربما كان سوريوت يعني، بشكل عام، أن انخفاض الإيرادات من شأنه أن يقلل من إنفاق أسترازينيكا على البحث والتطوير (R&D). لكن حتى هذا الادعاء مشكوك فيه بشكل واضح. عندما يزعم صانعو الأدوية أن الأسعار المرتفعة ضرورية للابتكار، فإنهم «كاذبون تمامًا»، كما كتب الخبير المالي إيف سميث في عام 2019. واستشهد سميث بالبيانات المنشورة مع معهد التفكير الاقتصادي الجديد والتي تظهر أنه بين عامي 2009 و2018، أنفقت 18 شركة لتصنيع الأدوية، مدرجة في «إس وبي 500»، على عمليات إعادة شراء الأسهم وأرباح المساهمين أكثر بـ14% مما أنفقوه على البحث والتطوير. كتب المؤلفون أن هذه الشركات يمكنها بسهولة زيادة الاستثمارات في ابتكار الأدوية، وذلك ببساطة عن طريق كبح مكافآت المساهمين. (لا يجب أن ننسى أن عمليات إعادة شراء الأسهم صُنفت فعليًا على أنها تلاعب غير قانوني بالسوق، حتى خففت لجنة الأوراق المالية والبورصات في عهد ريغان هذه القواعد، في عام 1982).

من بين الأموال التي تستثمرها شركات صناعة الأدوية في البحث والتطوير، يذهب مبلغ كبير «لإيجاد طرق لقمع المنافسة العامة والبدائل الحيوية، مع الاستمرار في رفع الأسعار»، بدلًا من البحوث الابتكارية.

من بين الأموال التي تستثمرها شركات صناعة الأدوية في البحث والتطوير، يذهب مبلغ كبير، برأي كثيرين، «لإيجاد طرق لقمع المنافسة العامة والبدائل الحيوية، مع الاستمرار في رفع الأسعار»، بدلًا من البحوث الابتكارية، وفقًا لتقرير حديث صادر عن لجنة الرقابة والإصلاح في مجلس النواب الأمريكي. في هذه الحالات، من الواضح أن جشع المديرين التنفيذيين والمستثمرين يعيق الابتكار. أثارت جلسة استماع حديثة للكونغرس هذه القضية، عندما استجوبت النائبة كاتي بورتر، وهي ديمقراطية من كاليفورنيا، الرئيس التنفيذي لشركة «أبفي» (AbbVie)، وهي شركة أدوية بيولوجية قالت إنها أنفقت 2.45 مليار دولار على البحث والتطوير، و4.71 مليار دولار سنويًا على التسويق والإعلان، و50 مليار دولار على دفعات المساهمين بين عامي 2013 و2018. ووصفت النائبة فكرة أن البحث والتطوير يبرر الأسعار الفلكية على أنها «قصة خيالية ابتدعتها شركات صناعة الأدوية الكبرى».

حتى لو كان الجشع منطقيًا بالنسبة لبعض المشاريع الربحية، فلن يكون من الحكمة أن نعتمد فقط على المشاريع الربحية لتسخير الابتكار لتحقيق أهداف اجتماعية. هناك العديد من الأشياء التي يجب علينا القيام بها، سواء أكانت مربحة أم لا، وقد أظهر لنا الفشل الذريع حول براءات اختراع اللقاحات، أن المدراء التنفيذيين في مجال التكنولوجيا الحيوية وغيرهم من الأعضاء «المفكرين» ليسوا فوق تقديم الأرباح على إنقاذ الأرواح. وكما أشار مستشار البيت الأبيض أنتوني فوسي لصحيفة «ذا هيل» في وقت سابق من هذا العام، فإن أمريكا عليها «التزام أخلاقي» بـ«التأكد من أن بقية العالم لا يعاني ويموت» من شيء يمكن المساعدة في منعه. تفشل الحكومة في أداء واجبها للعمل من أجل المصلحة العامة إذا سمحت «المال أو الحياة» بالمرور كنموذج أعمال مقبول.

تضمنت رسالة مفتوحة موقّعة من قبل أكثر من مئة من علماء الملكية الفكرية مؤخرًا، أن حقوق الملكية الفكرية (التي تشمل براءات الاختراع) «ليست ولم تكن أبدًا حقوقًا مطلقة، بل تُمنح ويُعترف بها بشرط أنها تخدم المصلحة العامة». ذكر العلماء سوابق مثل استخدام قانون الإنتاج الدفاعي لزيادة إنتاج الإمدادات الطبية العام الماضي، وسيطرة الولايات المتحدة على إنتاج البنسلين خلال الحرب العالمية الثانية. إذا رفض صانعو لقاحات كوفيد-19 إتاحة التكنولوجيا المنقذة للحياة للجمهور، فيجب على الحكومات أن تسن ترخيصًا إلزاميًا أو تدابير مماثلة.

هناك أيضًا أسباب مقنعة لتطوير قدرة تصنيع لقاحات سريعة الاستجابة دائمة، تعمل علنًا. اقترح المدير المالي لشركة فايزر أن أسعار اللقاحات سترتفع بمجرد خروجنا من «بيئة تسعير الوباء»، مشيرًا إلى أن الشركة يمكن أن تتقاضى ما يقرب من تسعة أضعاف ما تتقاضاه الآن («150 إلى 175 دولارًا لكل جرعة»، بدل مبلغ 19.50 دولارًا تتقاضاه الآن شركة فايزر من الولايات المتحدة في صفقة توريد واحدة). حتى إذا لم يحصل أولئك الذين لم يتلقوا جرعة واحدة من اللقاح عليه مطلقًا، فقد يعني ذلك زيادة قدرها 30 مليار دولار تقريبًا من الجرعات المعززة في الولايات المتحدة وحدها. يُقدّر المدافعون عن براءات الاختراع أن إنشاء عملية بين القطاعين العام والخاص قادرة على تصنيع ما يكفي من لقاحات mRNA لتحصين الكوكب بأسره سيكلف الولايات المتحدة 4 مليارات دولار فقط، مع تكلفة تبلغ دولارين لكل جرعة. ستكون هذه طريقة رائعة لأمريكا لإظهار القيادة العالمية، وستكون بالتأكيد أرخص بكثير، على الصعيدين الفردي والجماعي، من الدفع لفايزر سنويًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن فائدة مثل هذه المنشأة ستدوم لفترة طويلة بعد الجائحة الحالية، مع تغير المناخ الذي يجعل الأمراض حيوانية المصدر أكثر احتمالية (ناهيك عن مخاطر الفيروسات المسلحة). كان كوفيد-19 «وباءنا الأول»، كما أطلق عليه إد يونغ.

إذا فشلت الشركات التي يقودها الجشع في ممارسة سلطاتها بمسؤولية، فيجب أن تواجه منافسة من القطاع العام. أفشى بايدن بالسر عندما قال إن «الرأسمالية بدون منافسة ليست رأسمالية، بل استغلال». بينما صفق كثير من الناس لمشاعره، توقفْ وفكّر في المعنى الضمني: كان الرئيس، في جوهره، يقول إننا نتوقع من الشركات أن تستغلنا إذا أُعطيت نصف فرصة.

نحن ندفع ثمنًا باهظًا من الدم والأموال عندما نطلق للجشعين العنان للكذب على الجمهور واستغلاله، بحصانة من العقاب. يجب أن نكون على دراية متى يمكن للجشع أن يساعد مصالحنا الجماعية، ومتى يعيقها. خلال أزمة رهيبة مثل جائحة عالمية، لن ينقذنا الجشع.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية