قتل وقمع واعتقالات: السلطة تحاول تكبيل الضفة الغربية

الثلاثاء 24 تشرين الأول 2023
اشتباكات خلال قمع قوات الأمن الفلسطينية مسيرة تضامنية مع غزة في رام الله في 17 تشرين الأول 2023. تصوير جعفر اشتية. أ ف ب.

في ردة فعل غاضبة على مجزرة مستشفى المعمداني التي ارتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة في 17 تشرين الأول وراح ضحيتها 471 شهيدًا، اجتاحت المظاهرات مناطق عدة بالضفة الغربية كرام الله، وجنين، والخليل، ونابلس، وطوباس. أمام هذه الجموع الغاضبة التي توجهت لمقرات السلطة الفلسطينية رافعة شعار «الشعب يريد إسقاط الرئيس» المتواجد في عمًان استعدادًا للمشاركة في القمة الرباعية مع الرئيس الأمريكي بايدن، استشعرت السلطة الخطر. بادرت الأجهزة الأمنية وعناصر باللباس المدني بإطلاق الرصاص الحي في رام الله وملاحقة المتظاهرين بالمركبات المصفحة -التي استلمتها السلطة مؤخرًا من «إسرائيل»- وحاولت دهسهم، مما أدى إلى إصابة اثنين منهم، أحدهما في حالة خطيرة. أما في جنين، فقد استشهد فلسطينيان برصاص السلطة، أحدهما طفلة. 

في ليلة واحدة، انتقلت السلطة من القمع الناعم الذي تمثل باستخدام الإضراب كأداة لفرض حالة الهدوء وشل الحياة بجميع جوانبها، وتحويل التعليم المدرسي والجامعي إلى إلكتروني وضبط الجوامع، إلى القمع بالرصاص الحي والاعتقالات.

منذ بداية معركة طوفان الأقصى، شهدت الضفة الغربية تصاعدًا للفعل المقاوم سواء على نقاط المواجهة أو بتنفيذ العمليات. فرغم كل الإجراءات التي اتخذها جيش الاحتلال من ترهيب وإغلاقات واعتقالات واسعة ساهمت فيها السلطة الفلسطينية، نُفذت في الضفة أكثر من عملية 370 عملية إطلاق نار و871 مواجهة بحسب مركز المعلومات الفلسطيني (مُعطى)، أدت إلى استشهاد 101 فلسطينيًا منذ السابع من تشرين الأول، وجرح 1400 آخرين، في حين أوقعت قتيلين في صفوف جيش الاحتلال و33 إصابة. فيما رصد المركز 1380 حالة اعتقال بين الفلسطينيين.

قمع بالنار: شهداء وإصابات واعتقالات 

أسفر قمع السلطة للمتظاهرين في جنين عن استشهاد الطفلة رزان تركمان (تسعة أعوام) في 17 تشرين الأول، وبعد ثلاثة أيام أعلن عن استشهاد الشاب فراس تركمان كذلك برصاص الأجهزة الأمنية. أما في طوباس، أصيب ستة شبان بالرصاص الحي، بينهم ثلاثة وصفت إصابتهم بالخطيرة، وأحدهم في حالة موت سريري. وحسبما قال مصدر مقرب من العائلة لـ«حبر»، فإن المصاب المتوفى سريريًا نُقل من طوباس، وهناك مماطلة بإزالة أجهزة الإنعاش عنه، بهدف ضبط الوضع ومنع تفاقم الغضب الشعبي. 

وفي حادثة نادرة الوقوع في القرى التي يوجد فيها مراكز للأجهزة الأمنية، خرجت تظاهرة جابت بلدة سلواد شرق رام الله، قبل أن يتوجه المتظاهرون بمركباتهم إلى قرية دير جرير المجاورة ويهاجموا مقرًا للأجهزة الأمنية هناك بالحجارة والهتافات الغاضبة. حينها خرج عناصر الأجهزة بلباسهم المدني وأطلقوا النار تجاه المتظاهرين. وفي اليوم التالي، خرجت الأجهزة تتوعد بملاحقة المتظاهرين.

انتقلت السلطة من القمع الناعم الذي تمثل باستخدام الإضراب كأداة لفرض حالة الهدوء وشل الحياة بجميع جوانبها، وتحويل التعليم المدرسي والجامعي إلى إلكتروني وضبط الجوامع، إلى القمع بالرصاص الحي والاعتقالات.

إطلاق النار لم يتوقف في رام الله على مدار ثلاثة أيام، ففي 18 تشرين الأول، لاحقت عناصر أمنية بلباس مدني المتظاهرين وأطلقوا عليهم النار. كما بدأت السلطة حملة إعلامية ضد المتظاهرين وهددت بالاستمرار بملاحقتهم، واتهامهم بتخريب ممتلكات عامة والتجمهر غير المشروع. 

ترافق هذا القمع المباشر مع عودة نشطة للاعتقالات السياسية التي تنفذها الأجهزة الأمنية، بعدما بدت وتيرتها منخفضة خلال الأيام الأولى لمعركة طوفان الأقصى. ففي أول يومين، اعتقلت السلطة ثلاثة أسرى محررين، وهم: مصعب زلوم، ومنتصر سقف الحيط، ومحمد العزيزي. إلا أن هذه الاعتقالات بدأت تتزايد أكثر في الأيام اللاحقة، خاصة بعد تظاهرات 17 تشرين الأول. ففي رام الله، وفي ليلة واحدة وثقت مجموعة «محامون من أجل العدالة» أكثر من 50 اعتقالًا.

يقول المحامي مهند كراجة، مدير مجموعة محامون من أجل العدالة، لـ«حبر» إن الأجهزة الأمنية لم تتوقف عن الاعتقالات السياسية منذ بدء معركة طوفان الأقصى، وقد يصعب أحيانًا رصدها بسبب عدم إحالة المعتقلين إلى المحاكم، خاصة خارج رام الله، مؤكدًا أن الحالات التي حولت للمحاكم وجهت لها تهم مثل: إثارة النعرات الطائفية، وحيازة السلاح، وذم السلطات. 

يبين كراجة، الذي كان شاهدًا أيضًا على قمع تظاهرة 17 تشرين الأول في رام الله، أن الاعتقالات كانت لمتظاهرين حاولوا الوصول إلى المقاطعة وتعرضوا للضرب. وأشار إلى أن المعطيات الأولية رصدت اعتقال 50 شخصًا، إلا أن بعض شهادات المعتقلين التي خرجت صباح اليوم التالي تؤكد أن العدد كان أكبر من ذلك. كما واصلت أجهزة السلطة اعتقال عددًا من المعتقلين السياسيين والمقاومين رغم صدور قرارات إفراج عنهم من المحاكم، أبرزهم المقاومون: مصعب اشتية، ومراد ملايشة، ومحمد دراغمة. 

وفي 20 تشرين الأول، واصلت الأجهزة الأمنية ملاحقة النشطاء والمتظاهرين، واعتقلت كل من: شادي عميرة، منسق الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، وأحمد الخاروف، منسق القطب الطلابي في جامعة بيرزيت، الذي تعرض للضرب وأصيب بجروح وكدمات في وجهه ورأسه. كما اعتقلت الأسير المحرر هيثم سياج، وأفرجت عنه بعد عدة ساعات، بعدما تعرض للضرب كذلك.

امتدت الملاحقة لمنشورات النشطاء على منصات مواقع التواصل الاجتماعي. إذ اعتقل الأمن الوقائي الطبيب الطبيب رامي بولص وأخضعه للتحقيق إثر كتابته منشور على صفحته على فيسبوك تضمن رفضه استقبال الأجهزة الأمنية كمرضى في عيادته. وقال شقيقه رياض بولص لـ«حبر» إن الأجهزة الأمنية أرسلت تهديدات لشقيقه بأنها ستطلق النار على عيادته وتحرقها، فقرر تسليم نفسه وقد أخضع للتحقيق مدة 10 ساعات قبل الإفراج عنه. فيما تلقى رياض أيضًا تهديدات بالاعتقال على خلفية كتابة منشورات على فيسبوك.

الإضراب: من أداة نضالية إلى أداة ضبط

تلجأ السلطة إلى توظيف الإضراب كوسيلة لتسكين الضفة عند كل اعتداء كبير من قوات الاحتلال، وهو ما تكثف مع معركة طوفان الأقصى، بإعلان الإضراب العام الذي شمل الحركة التجارية والتعليم في المدارس والجامعات والمواصلات العامة. ما عمل على تفريغ الميدان من حركة الناس الطبيعية، وخاصة مراكز المدن، حيث تنظم عادة التظاهرات المركزية التي تتحرك نحو الحواجز الرئيسة على مداخل المدن. وقد أعلنت السلطة الإضراب العام ليومين بعد مجزرة المعمداني.

يأتي ذلك كله تزامنًا مع فرض جيش الاحتلال إغلاقًا على الضفة الغربية من اليوم الأول للمعركة، إذا أغلق الحواجز الرئيسة ومداخل بعض المدن، وفرض حصارًا على بعض البلدات التي تشهد حالات مواجهة. فجاء الإضراب العام الذي تفرضه السلطة، إضافة لإجراء تحويل الدوام التعليمي إلى إلكتروني، مكملًا لإغلاق الضفة. 

استخدام السلطة الإضراب أداة لاحتواء الحالة النضالية يعيدنا إلى تجربة الانتفاضة الأولى التي برز فيها الإضراب كأداة صمود واشتباك. تبين الأستاذة في جامعة بيرزيت، رلى أبو دحو لـ«حبر» أن القيادة الموحدة للانتفاضة انتبهت في لحظة ما أن الحياة توقفت، وبدأت بتصحيح استخدام أداة الإضراب بفتح المحال حتى الساعة 12 ظهرًا وإتاحة المجال للناس حتى تعمل، وتستطيع الصمود تحت الاحتلال. وبعد ذلك يُفرض الإضراب مجددًا ويُحشد الناس لنقاط المواجهة والاشتباك. تقول أبو دحو «استطاع الناس في الانتفاضة الأولى المحافظة على مقومات صمودهم الأساسية بما يضمن استمرار في الاشتباك اليومي مع الاحتلال».

كان الإضراب العام حينها كان واضح المعالم، أي يهدف لضرب منظومة المحتل التي تسيطر على كافة مناحي الحياة. لكن اليوم وفي ظل وجود السلطة الفلسطينية المسؤولة عن إدارة حياة الفلسطينيين في الضفة، لم يعد الإضراب فعالًا. تقول أبو دحو «الإضراب أصبح غير مرتبط ومتبوع بحالة اشتباك، وأصبحت فعاليته اليوم قائمة على تحييد الناس عن الانخراط في الفعل المقاوم والمشتبك». 

تكبيل الجامعات والجوامع

تضمن الإضراب أيضًا تحويل الدوام الجامعي والمدرسي إلى إلكتروني، وهو ما تقول أبو دحو إنه يهدف إلى «تحييد جيل كامل عن كل ما يجري في غزة، ووضع هذا الجيل في المنزل وإشغاله بمحاضرات عن بعد طوال اليوم». وتضيف: «اليوم بات مطلبنا أن تقف الجامعات عن مسؤوليتها وتفتح أبوابها حتى يستعيد الطلبة فاعليتهم بالميدان، إضافة لإعادة ترتيب العملية التعليمية لتخدم الحالة الوطنية السائدة». 

انعكس تحويل التعليم إلى إلكتروني بشكل واضح على النشاط الطلابي، ذ٫ لم تتحول ساحات الجامعات إلى ميدان للانطلاق التظاهرات كما جرت العادة، ولم تستطع الكتل الطلابية حشد الطلبة. وترجع الكتل الطلابية السبب الرئيس لذلك إلى الإغلاقات التي يفرضها الاحتلال على الضفة. وحسب ربى عاصي، وهي أسيرة محررة وإحدى الطالبات الناشطات في جامعة بيرزيت، فإن الكتل الطلابية نقلت عملها من داخل أسوار الجامعة إلى الميدان، وباتت تنشر دعوات شبه يومية لمسيرات ودعوات للاشتباك على الحواجز بالتعاون مع مجموعات شبابية وفصائل أخرى. إلا أن هذه التظاهرات حتى الآن لم ترتق لحجم المجزرة في غزة. 

«السلطة تسعى بشكل واضح لعدم تحول الضفة إلى صدام مباشر مع الاحتلال، وأن تفرض حالة من الهدوء عليها»

وتشير عاصي في حديثها لـ«حبر» إلى أن هناك طوال الوقت محاولات من السلطة لإعادة توجيه هذه التظاهرات في الميدان ومحاولة إبقائها لأطول وقت ممكن في مركز المدينة وعدم توجهها لنقاط الاشتباك، إضافة للمحاولات المستمرة لضبط الهتافات. «السلطة تسعى بشكل واضح لعدم تحول الضفة إلى صدام مباشر مع الاحتلال، وأن تفرض حالة من الهدوء عليها»، تقول عاصي. 

يتفق مع ذلك أيضًا الناشط في الكتلة الإسلامية معتصم زلوم، إذ يقول إن «هناك محاولات حثيثة لتغيب الجامعة عن الشارع، وذلك في ظل العمل على إنتاج جيل جديد مُغيب عن قضيته، وخلق انشغالات جديدة له». ويضيف زلوم لـ«حبر» أن الإضراب هدفه تفريغ ميدان العمل المقاوم، وهو بات يلقي على الكتل الطلابية والفصائل مسؤولية البحث عن أدوات نضالية جديدة. 

محاولات السلطة المستمرة لقمع وضبط منبع أي فعل مقاوم في الضفة طالت المساجد أيضًا، وإن كان ذلك ليس جديدًا، بل هو فعل ممتد منذ نهاية الانتفاضة الثانية، بهدف محاصرة فصائل المقاومة الإسلامية. فقد أُبعد الخطباء واستبدلوا بآخرين يخضعون لعمليات توجيه طوال الوقت. وإن لم تبادر السلطة بتحديد عناوين خطبة الجمعة الأولى التي تلت معركة طوفان الأقصى، فقد التزم معظم الخطباء بخطب تدين العدوان على غزة وتدعو الناس «للتضامن»، دون إشادة بالفعل المقاوم. 

وواصلت السلطة إغلاق المساجد الرئيسة بعد الصلوات ومنع إلقاء الدروس، وإغلاق سماعات المسجد. وبثت في الأيام الأولى دروس وأدعية عبر الآذان الموحد حملت مضمونًا بكائيًا على غزة. ورغم ذلك، فإن عددًا من الخطباء قدموا خطب تشيد بالفعل المقاوم، مثل خطبة الشيخ عيسى وادي في مسجد الحتو في بلدة بيتونيا في 20 تشرين الأول. 

عمال غزة يحرجون السلطة 

في الأيام الأولى لبدء معركة طوفان الأقصى، وجدت السلطة نفسها في مأزق كبير أمام توافد مئات العمال الغزيين إلى الضفة بعد أن أبعدهم جيش الاحتلال من الداخل المحتل. تخبطت السلطة التي تنأى بنفسها طوال الوقت عن غزة، ووجدت نفسها مرغمة على التعامل مع العمال، من منطلق واحد وهو الضبط الأمني، قبل أن يعاود الجيش شن حملات اعتقال بصفوفهم على الحواجز وباقتحام بعض أماكن تواجدهم

وقد وصل نحو ألفي عامل إلى الضفة بعد ترحيلهم من مستوطنات غلاف غزة ومدن الداخل المحتل، وذلك من أصل نحو 18,500 عامل، حسب وزارة العمل الفلسطينية. فيما كشفت القناة 12 الإسرائيلية أن سلطات الاحتلال تحتجز نحو أربعة آلاف عامل من غزة. 

حال الضفة اليوم هو انعكاس لما مارسته السلطة عليها من قمع، لكن تجارب السنوات الماضية وخاصة ما بعد معركة سيف القدس، وما شهدته حالة المقاومة من تجدد ونهوض، أثبتت أن هذا الحال بالعادة لا يطول.

في الأسبوع الأول، فتحت السلطة عددًا من مراكز المؤسسات الأهلية وبدأت باستقبالهم فيها في عدد من المدن، وكانت معظمها أماكن مكتظة وغير مؤهلة. ففي رام الله، وضع العمال في ملاعب داخلية في مؤسسة سرية رام الله، والمركز الترويحي، وهي أماكن لا تتوفر فيها مراحيض وأماكن استحمام كافية. أما توفير الحاجات الأساسية من الدواء والطعام والملابس وغيرها، فقد وقعت كلها على مسؤولة المتطوعين والمتبرعين والمؤسسات المجتمعية. 

وفي 15 تشرين الأول، بدأت السلطة بنقل العمال من رام الله إلى مباني تتبع لجامعة الاستقلال العسكرية، ومبان أخرى تتبع لمقارها الأمنية، في محاولة لإبعاد العمال عن واجهتها المتمثلة برام الله، والحد من التفاعل المجتمعي معهم. يقول خالد، وهو أحد هؤلاء العمال، لـ«حبر» إنه فور وصول العمال إلى أريحا، جمعت هوياتهم بهدف ضمان عدم خروجهم من المكان، مؤكدًا على أنه معزول عن مركز المدينة، ولا يوجد حوله حتى بقالات قريبة. وينقل عن أحد زملائه، أنه تم إبلاغهم بأن الأجهزة الأمنية ستقوم بتشغيلهم لاحقًا في مقارها، وهو ما يرفضه العمال. 

ورغم أن السلطة روجت أنها وضعت العمال في مباني مؤهلة لاستقبالهم، إلا أن وضعهم في مقار ومساكن تتبع لمنظومتها الأمنية تمنع العمال من التنقل الحر، وخاصة أن مكوثهم في الضفة ربما يطول. 

إن كل الإجراءات التي فرضتها السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية على الضفة منذ بدء معركة طوفان الأقصى، ربما لا تبدو جديدة، فهي تأتي ضمن عملية مستمرة تقوم بها السلطة هدفها بالأساس القضاء على الفعل المقاوم في الضفة. وهو ما اتخذ صورًا أكثر وضوحًا منذ بداية عام 2023، باعتقال المقاومين ومحاصرة المجموعات المسلحة، تحديدًا في جنين وطوباس ونابلس.

حال الضفة اليوم هو انعكاس لما مارسته السلطة عليها من قمع، لكن تجارب السنوات الماضية وخاصة ما بعد معركة سيف القدس، وما شهدته حالة المقاومة من تجدد ونهوض، أثبتت أن هذا الحال بالعادة لا يطول.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية