«إسرائيل» والحرب الطويلة: الاحتلال يبحث عن ترميم ردعه

الثلاثاء 28 تشرين الثاني 2023
جنود الاحتلال متجهين إلى الحدود مع قطاع غزة في 16 تشرين الأول 2023. تصوير مناحيم كاهانا. أ ف ب.

«أخطأتُ في تقديري عندما قلت إنّ حركة حماس مردوعة ولن تجرؤ على التحرك ضدنا لسنوات».
تساحي هنغبي رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي 

نهاية الشهر الفائت، أعلن الوزير الإسرائيلي في كابنيت الحرب، بيني غانتس، أن الحرب على قطاع غزة «قد تستمر لسنوات»، مؤكدًا أن «إسرائيل» تمر بلحظات صعبة في هذه المرحلة. تصريح انضم عبره غانتس إلى عدد من المسؤولين الإسرائيليين الذي أكدوا أن تحقيق أهداف الحرب قد يحتاج إلى أشهر طويلة وربما إلى سنوات. وكان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قد أعلن قبلهم أنّ حكومته تتوقع أن تكون هذه الحرب «طويلة ومعقدة».

لاحقًا تراجعت حدة التصريحات الإسرائيلية مع ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية بضرورة وضع خطة لـ«اليوم التالي» من انتهاء الحرب، إذ ترى واشنطن أن من المهم رسم صورة لشكل السيطرة على القطاع بعد انتهاء المعارك، في حال تمكنت «إسرائيل» من القضاء على حماس. لكن وزير الحرب الإسرائيلي يؤاف غالانت ظهر مرة أخرى، في السابع من تشرين الثاني قائلًا إنّ «إسرائيل» حددت ثلاثة أهداف رئيسة يجب تحقيقها خلال الحرب على غزة، وهي التخلّص من التهديد الأمني الذي يشكّله القطاع على «أمن إسرائيل»، ووقف الأنشطة العسكرية لحركة حماس، وأخيرًا ضمان حرية عمل جيش الاحتلال «دون قيود على استخدام القوة» في القطاع. وهي أهداف اعترف غالانت أنها تحتاج إلى «أيام كثيرة من القتال». كما أن عدة مسؤولين إسرائيليين، شدّدوا على أنهم يرفضون الدخول في وقف كامل لإطلاق النار، وإنما فقط الاتفاق على هدنة مؤقتة، في إشارة أخرى إلى أن «إسرائيل» ترفض إنهاء الحرب دون تحقيق أهدافٍ كبرى.

منذ انسحابها من غزة عام 2005، برزت تخوفات إسرائيلية أمنية من اضطرار الجيش إلى الدخول في حرب تستمرّ لفترات طويلة، لكن افتراض المنظومة الأمنية قدرتها على ضبط القطاع، أو حتى إنهاء أي حالة مقاومة في أيام معدودة، دفعها إلى اتخاذ قرار الانسحاب، بحسب اعترافات ضباط إسرائيليين كانوا جزءًا من هذه الحوارات.

لم يكن النقاش الذي تبع عملية الانسحاب من غزة مختلفًا عن التصور الإسرائيلي حول جزء كبير من حروبها السابقة، إذ عمد الجيش الإسرائيلي منذ فترة طويلة إلى سياسة المواجهات القصيرة التي لا تستغرق أكثر من أيام معدودة، معتقدًا أنه يستطيع استخدام قوته المتفوقة بطريقة مركّزة مكثّفة، قبل أن يتراجع الدعم الدولي الذي يحظى به.[1]

منظومة الردع الإسرائيلية والهجمات الخاطفة

ترتبط فكرة الهجمات القصيرة والمركزة بإحدى أهم ركائز العقيدة الأمنية في «إسرائيل»، وهي منظومة الردع، التي تقوم «إسرائيل» بموجبها باستعراض عالٍ للقوة، لكن في أيام محدودة.

تكمن الفكرة الأساسية في منظومة الردع، في أن تتخذ الدولة، «إسرائيل» في هذه الحالة، إجراءات عسكرية مشدّدة تعتقد أنها تستطيع من خلال استخدامها المتكرر واستعراضها، أن تردعَ أي هجمات مضادة، أو أن تعمد إلى الهجوم قبل أن تحتاج إلى الدفاع، وهي عقيدة انتهجتها «إسرائيل»، بحسب رئيس وزرائها السابق مناحيم بيغن، في عدة حروب خاضتها رغم غياب أي خطر حقيقي يهدد كيان الدولة.[2]

كشفت حرب 2006 أن «إسرائيل» حاولت دائمًا تعزيز قدراتها على الجبهات الحدودية فقط، مع إعطاء اهتمام أقل لجبهتها المدنية، بسبب الاعتقاد بأن جيشها سيكون قادرًا دومًا على بدء هجمات خاطفة وسريعة لن تقود إلى حرب طويلة، وهو ما ثبت فشله.

لكن مع اختلاف المعطيات الميدانية في كل حرب،[3] نشأت داخل الجيش الإسرائيلي توجهات نحو إعادة التفكير في العقيدة الأمنية ككل، التي تشمل عقيدة الردع، إذ شكل وزير الحرب الإسرائيلي إسحاق موردخاي، في عام 1998، ورشة تضم مسؤولين أمنيين وسياسيين إسرائيليين، في محاولة لبحث سُبل تطوير هذه العقيدة، وكُتبت عدة مجلدات في هذا الشأن، لكنها أُهملت ولم تعرض على مجلس الوزراء الأمني المصغر. وفي عام 2006، شكّل وزير إسرائيلي آخر، هو دان مريدور، لجنة مختصة للنظر في تعديل العقيدة الأمنية، وشارك فيها قائد الجيش ومسؤولون أمنيون آخرون، وأصدرت اللجنة حينها توصيات قدمتها إلى وزير الحرب شاؤول موفاز، الذي عرضها بدوره على مجلس الوزراء الأمني عام 2008 لكنها أيضًا لم تُقرّ.[4]

ارتبطت كل هذه المحاولات الإسرائيلية بتطورات الميدان والتحول في شكل الحروب التي تخوضها «إسرائيل»، ولم تسفر عن تغيير العقيدة الأمنية بشكل كامل، وبقيت ثابتة بصورتها الأساسية، خصوصًا أنه لم يقدّم بديل كامل لها.[5]

نشأت العقيدة الأمنية الإسرائيلية في خمسينيات القرن الفائت، ووضع أسسها أول رئيس وزراء للكيان ديفيد بن غوريون، وتتجلّى في عدة أسس أهمها تعزيز قوة الردع وتعزيز الإنذار الاستراتيجي (الذي يتطلب أن تملك «إسرائيل» قدرة استخباراتية متقدمة لكشف أي هجوم مسبق عليها)، بالإضافة إلى «الحسم»، الذي يعتمد على نقل المعركة إلى أرض العدو في حال الحاجة إلى ذلك وحسمها لصالح جيشها.[6]

تجنّب «الحروب الطويلة»

في حرب تموز 2006، والتي استمرّت 33 يومًا، تكبّدت «إسرائيل» رغم قصفها الكبير للبنية التحتية في لبنان خسائر مادية وعسكرية كبيرة، كما أن مدنها تعرضت لقصف مكثف لأول مرّة في حروبها، إذ قُدّرت الصواريخ التي تم إطلاقها من لبنان تجاه مدن إسرائيلية بقرابة الـ100 إلى 150 صاروخًا يوميًا. كانت «إسرائيل» حينها الطرف الذي يريد إنهاء الحرب، وطلبت من حلفائها الدوليين التدخل في هذه المهمة، بلا شروط ودون مكاسب جدية،[7] إذ أدركت أن كل هذه الخسائر العسكرية والمادية لا يمكن أن تستمر لفترات طويلة.

كشفت الحرب حينها، بحسب كلام جنرالات سابقين، أن «إسرائيل» حاولت دائمًا تعزيز قدراتها الهجومية، وكذا قدراتها العسكرية على الجبهات الحدودية فقط، مع إعطاء اهتمام أقل لجبهتها المدنية، وذلك بسبب الاعتقاد بأن جيشها سيكون قادرًا دومًا على بدء هجمات خاطفة وسريعة لن تقود إلى حرب طويلة، وهو ما ثبت فشله.

وبعد نهاية الحرب، احتدمت النقاشات حول ضرورة تغيير العقيدة الأمنية، وخصوصًا تلك المتعلّقة بالحسم، إذ لم تستطع «إسرائيل» نقل المعركة إلى أرض «العدو» كما تفترض تلك العقيدة،[8] ولا استطاعت من خلال تنفيذ هجمات خاطفة وسريعة «ردع» أعدائها. وللتعامل مع هذه الأزمة، بدأت «إسرائيل» بتطوير منظومتها الدفاعية، دون أي تغيير جوهري في شكل العقيدة الأمنية.

صحيح أنها اضطرّت أحيانًا لخوض حروب طويلة، إلّأ أن سياسة تجنّبها كانت سياسة ثابتة لدى «إسرائيل»، وذلك لتفادي مجموعة من التكاليف المرتفعة، وبينها المخاطرة بحياة الإسرائيليين، ولتكاليفها المادية المباشرة وغير المباشرة، وكذلك خوفًا من خسارتها صورة الاستقرار التي كانت تروّج لها على مدار سنوات، خصوصًا الاستقرار الذي يتعلق بمدن المركز، وأهمها «تل أبيب»، التي باتت في السنوات الأخيرة واحدة من أهداف صواريخ الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة.

«طوفان الأقصى» لحظة فارقة

بعد أن استفاق قادة الجيش ومسؤولو الحكومة الإسرائيلية من صدمة «طوفان الأقصى»، ومع إدراكهم أن ما حدث ليس مجرد مناوشات يمكن الرد عليها كما سابقاتها، خرج غالانت بعد ساعات قليلة فقط من العملية، معلنًا أن بلاده دخلت في «حالة حرب»، وهو أول إعلان للحرب منذ حرب أكتوبر 1973.

في السنوات الأخيرة، برزت عدة نقاشات في «إسرائيل» حول تقليص أعداد الجنود، وكذا تحويل الجيش الإسرائيلي من «جيش الشعب» الذي يعتمد على نمط التجنيد الإجباري، إلى «الجيش المحترف» الذي يلغي خدمة جيش الاحتياط ويعتمد على جيش نظاميّ متخصص. لكن تقارير إسرائيلية عدة أشارت إلى أن الخطة الإسرائيلية ما بعد السابع من أكتوبر ستتجلى في زيادة أعداد الجنود في كل من جيش الاحتياط والجيش النظامي، وهو ما يمكن أن يكون ختامًا لكل النقاشات السابقة.

التعويل على «ردع» حركة حماس وحزب الله بات خيارًا غير مطروح على الطاولة، حتى بالنسبة للمستوطنين أنفسهم، إذ تبحث «إسرائيل» الآن، على ما يبدو، عن حل استراتيجي وحاسم ولو كلفها وقتًا أطول.

قبل ستة أيام فقط من عملية «طوفان الأقصى»، قال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، إن حركة حماس «مردوعة للغاية وتدرك عواقب المزيد من التحدي»، وبعد أيام من العملية، خرج هنغبي في مؤتمر صحافي، معتذرًا عن تصريحاته السابقة، مؤكدًا أن ما قاله يعكس «خطأ عوامل التقييم على مدى سنوات طويلة في «إسرائيل»، وبشكل أكبر في الفترة الأخيرة، عندما كنا نعتقد أن حماس تعلمت درسًا من العملية التي أطلقتها «إسرائيل» على غزة في أيار 2021، حيث تلقت وقتها ضربة حاسمة».

تشير تصريحات هنغبي، وتقارير إسرائيلية عديدة، إلى أن الفكرة الرائجة بأنه يمكن ردع حركة حماس تراجعت بشكل كبير في «إسرائيل» بعد عملية طوفان الأقصى، خصوصًا بعد أن أثبتت فشلها في فهم المقاومة الفلسطينية، واعتقادها بأن استعراض القوة المستمر، وشن هجمات متقطعة عليها، قد يحمي «إسرائيل» من أي هجمات مضادة.

من هذا المنطلق تحديدًا، يمكن فهم الدعوات الإسرائيلية بعدم العودة إلى المستوطنات في «غلاف غزة» وعلى الحدود مع لبنان، طالما لم يكن الجيش الإسرائيلي متواجدًا بشكل دائم، وهي إشارة إلى أن التعويل على «ردع» حركة حماس وحزب الله بات خيارًا غير مطروح على الطاولة، حتى بالنسبة للمستوطنين أنفسهم، إذ تبحث «إسرائيل» الآن، على ما يبدو، عن حل استراتيجي وحاسم ولو كلفها وقتًا أطول، خصوصًا أن محللين إسرائيليين يعتقدون أن الحرب مع حزب الله قادمة لا محال، حتى لو كان ذلك بعد انخفاض وتيرة المعارك في قطاع غزة.

 محاولة «إنقاذ الشرف الوطني» للجيش

رغم ذلك، تقول المؤشرات إن التخوفات التي برزت بعد الانسحاب من غزة 2005 هي نفسها التي تواجه الجيش الآن؛ على الصعيد الاقتصادي، تكبدت «إسرائيل» منذ أن بدأت عدوانها على قطاع غزة خسائر مالية كبيرة، خصوصًا مع إعلانها الدخول في «حالة الحرب» واستدعاء عدد كبير من جنود جيش الاحتياط، إذ أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، في اليوم الـ32 للحرب، أن تكلفة الحرب وصلت إلى خمسين مليار شيكل، فيما توقعت وزارته أن تصل مع نهاية العام إلى 80 مليارًا، ومن هذا المنطلق يمكن فهم تسريح الجيش لعدد من جنود الاحتياط إلى سوق العمل. طبعًا يُضاف إلى التكلفة السابقة عوامل أخرى على غرار تراجع سعر الشيكل مقابل الدولار، وتراجع التجارة الإسرائيلية خلال الحرب وبعدها وكذا الحاجة إلى ترميم الأضرار ما بعد الحرب.

الجيش الإسرائيلي، الذي انكسرت صورته أمام المجتمع الإسرائيلي والعالم، يبدو اليوم وكأنه يحاول استرداد «شرفه الوطني»، وفي الطريق نحو هذا الهدف، يتخلى عن كل الخيارات «العقلانية» التي من المفترض أن يتعامل بموجبها وفق عقيدته الأمنية.

أما على صعيد الاستقرار الداخلي وحماية الجبهة المدنية الداخلية والاستعداد العسكري، وهي عوامل كانت حاسمة في قرار «إسرائيل» إنهاء حربها مع حزب الله في عام 2006، فلم تتغير الوقائع كثيرًا، مع الإقرار بأن «إسرائيل» عمِدت إلى تطوير منظومتها الدفاعية، لكن الصواريخ ما زالت تنهال على مدن إسرائيلية عدة، وإن كانت بوتيرة أقل.

كما أن الاستقرار السياسي الداخلي في «إسرائيل» في أسوأ مراحله، وكانت آخر تجليات تلك الأزمة الدعوات في «إسرائيل» إلى إقالة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بسبب «فشله» في إدارة ملف الحرب.

بالإضافة إلى العوامل السابقة، تأخذ هذه الحرب طابعًا جديدًا، إذ تتخوف «إسرائيل» من فتح جبهة جديدة مع حزب الله، الذي يدرك جيش الاحتلال أن تجهيزاته العسكرية أعلى بكثير من تجهيزات حركة حماس، ما يدفعه إلى نقل جزء كبير من جنوده إلى الحدود مع لبنان، لكنه في الوقت ذاته يلوّح بقدرته على بدء معركة جديدة معه.

كل هذه العوامل، بحسب العقيدة الأمنية الإسرائيلية، يجب أن تدفع إلى خيار حسم الحرب أو إنهائها بأسرع وقت ممكن، وعدم الدخول في «حرب طويلة»، خصوصًا أن العقيدة الأمنية التي خطها بن غورين، تشير حرفيًا إلا أن خطوة نقل المعركة إلى أرض «العدو» وحسمها بأسرع وقت ممكن، تأتي بعد «فشل الردع واندلاع الحرب». إلّا أن ما يحصل اليوم، هو أن الجيش الإسرائيلي، الذي انكسرت صورته أمام المجتمع الإسرائيلي وأمام العالم، يبدو وكأنه يحاول استرداد «شرفه الوطني»، وفي الطريق نحو هذا الهدف، يتخلى عن كل الخيارات «العقلانية» التي من المفترض أن يتعامل بموجبها وفق عقيدته الأمنية.

  • الهوامش

    [1] دافيد عبري. 2015. «إدارة العمليات العسكرية في المواجهات المحدودة»، في: «العقيدة الأمنية الإسرائيلية وحروب «إسرائيل» في العقد الأخير»، 149-153. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

    [2] مناحيم بيغن، «الحرب الدفاعية أو الحرب الهجومية»، ترجمة نبيه بشير. رام الله: مجلة قضايا إسرائيلية، العدد 89، 2023.

    [3] على سبيل المثال لم تحتج «إسرائيل» في بعض حروبها إلى الدخول البري، بل اعتمدت على القصف الجوي فقط، وبالتالي فإن شكل المواجهة البرية في جنوب لبنان بعد غزوه في عام 1982 فتح نقاشات كبيرة حول جدوى الدخول البري، وأيضًا كان دخول التكنولوجيا عاملًا فاعلًا في تغير أشكال العمل الاستخباراتي لدى الجيش الإسرائيلي ولدى أي طرف مقابل.

    [4] المرجع السابق، مقدمة أحمد خليفة ص 5

    [5] المرجع السابق ص18

    [6] المرجع السابق، ص 3-4

    [7] المرجع السابق، ص 6-7

    [8] المرجع السابق، ص 7

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية