هل نقول وداعًا للديمقراطية في السنغال؟

الأربعاء 14 شباط 2024
السنغال
من الاحتجاجات في السنغال، أ ف ب

مرحلة مفصلية تواجهها السنغال اليوم، إذ وبينما كانت البلاد تستعدّ لإجراء الانتخابات الرئاسية الثانية عشر في تاريخها لانتخاب الرئيس الخامس للبلاد، أعلن الرئيس إرجاء الانتخابات، في إجراء هو الأوّل من نوعه في البلد التي تمتعت حتى اليوم بسجل انتخابات ديمقراطية، ما يدفع للتساؤل حول مصير الديمقراطية في البلاد، خاصة في ظلّ ما يشهده محيطها من أزمات حكم، انعكست اضطرابات وانقلابات. 

يتميز تاريخ الرئاسة في السنغال باستقرار فريد، من عهد الرئيس الأول ليوبولد سنغور (1960-1980) وخلفه عبدو ضيوف (1981-2000)، إلى الرئيس عبد الله واد (2000-2012) الذي أجرى تعديلًا لمدة الرئاسة إلى سبع سنوات، وصولًا إلى الرئيس الحالي ماكي سال، والذي يحكم البلاد من 2012 حتى اليوم، وقد عاد بمدة الرئاسة إلى خمس سنوات. 

منذ العام 1963 تعيش السنغال تعددية سياسية، وتمثّل نموذجًا ديمقراطيًا في غرب أفريقيا، ولذا جاء القرار الرئاسي صادمًا، ويشي بنزعات سلطوية، تحديدًا إذا ما نظرنا للشكل الذي تم عبره تأجيل الانتخابات. وقد برّر الرئيس هذا التأجيل بوجود خلاف بين المجلس الدستوري والبرلمان، ودعا إلى حوار وطني شامل، رغم أن البلاد قد شهدت هذا الحوار قبيل تأجيله للانتخابات. 

الطريق إلى تأجيل الانتخابات

ينص الدستور السنغالي على منع تأجيل الانتخابات أو إلغائها، وأنّ ذلك من اختصاصات المحكمة الدستورية فحسب. وهو ما تعززه الأنظمة الصادرة عن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «الإيكواس»، التي تحظر أي تغيير في مواعيد الانتخابات خلال الأشهر الستة السابقة على موعدها المحدد. مع ذلك، تجاوز الرئيس ماكي سال هذه القيود بإصداره مرسومًا رئاسيًا يتيح له طرح فكرة تأجيل الانتخابات على الجمعية الوطنية (البرلمان). وتُوّج هذا الإجراء بتصويت البرلمان لصالح التأجيل حتى 15 كانون الأول 2024، وذلك عقب دخول الدرك لحرم البرلمان، وإخلائه من قوى المعارضة بالقوة. 

تتجلى الأسباب الكامنة وراء قرار إلغاء الانتخابات في رغبة الرئيس ماكي سال، في الحيلولة دون وصول منافسه القوي، ائتلاف عثمان سونكو المناهض لفرنسا والمرشح عن حزبه «باستيف» إلى سدة الحكم. يعد الرئيس سال حليفًا قويًا لفرنسا، وقد أظهر ذلك مرارًا، خصوصًا مع تزايد توجه بعض دول غرب أفريقيا نحو روسيا. قبل نهاية ولايته، عين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس سال في لجنة متابعة اتفاق باريس للكوكب والشعوب، الأمر الذي قوبل بالرفض من قِبل المعارضة باعتباره تدخلًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

اختار حزب الرئيس «أحمدو باه» للانتخابات الرئاسية، لكنه أظهر نقصًا واضحًا في الشعبية والكاريزما، ولذا اختارت كتلة الاغلبية الرئاسية «كريم واد»، ابن الرئيس السابق والثالث للجمهورية عبد الله واد، وهو الآخر حليف لفرنسا، ومدعوم من قبل نخبتها، ويرى على أنه الخليفة المثالي للرئيس الحالي. لكنه واجه تحدي الجنسية المزدوجة التي تنافي الدستور السنغالي الذي يمنع ترشح من يحملها. ولمواجهة هذا التحدي، تنازل كريم عن جنسيته الفرنسية في مرسوم صدر تاريخ 16 كانون الثاني الماضي.

في المقابل، وبعد منع سونكو من الترشح إذ وجهت له تهم الاغتصاب وإفساد الشباب ووضع في السجن، اختار تحالفه ترشيح «بشيرو ديوماي فاي» والذي أظهر تفوقًا ملحوظًا في استطلاعات الرأي مقارنةً بمرشح الحزب الحاكم.

لكن المشهد تعقّد عندما أعلن المجلس الدستوري في 20 كانون الثاني عن قائمة نهائية للمرشحين لم تشمل اسم كريم واد، بدعوى تأخر وصول ملف التنازل عن الجنسية الفرنسية. وفي ظل هذه الظروف، تقدم حزب كريم واد بدعوى ضد المجلس الدستوري، متهمين إياه بالفساد.

برّرت الحكومة الدعوة لتأجيل الانتخابات بالأزمة الحاصلة بين الجمعية الوطنية والمجلس الدستوري حول مزاعم فسادٍ لقضاة دستوريين، فأُنشِئت لجنة تحقيق برلمانية للتحقيق في صحة الترشيحات التي يفحصها المجلس الدستوري، كما ردّت قرار التأجيل للمخاوف من تأثير النزاعات الانتخابية على الاستقرار السياسي في البلاد. لذا قالت الحكومة إنه وبناء على طلب ممثلي الشعب ولتفادي قلاقل ما بعد الانتخابات، فإن تأجيل الرئيس للانتخابات عمل دستوري.

ومع تأجيل الانتخابات، يعود بإمكان كريم واد الترشح من جديد. ورغم أن واد لا ينتمي لحزب الرئيس، إلّا أنه يمكن القول إن من مصلحة الرئيس تكمن في وصول مرشح مؤيد للعلاقات مع فرنسا لسدّة الرئاسة. خاصة إذا أُخذت في الاعتبار الادعاءات القائلة بأن أعضاء حزب الرئيس لا يثقون في قدرة مرشحهم الحالي أحمدو باه على الفوز. الأمر الذي يتطلب اتخاذ تدابير ملائمة لمنع وصول كتلة سونكو إلى السلطة.

الحراك السياسي في السنغال قبل «الانقلاب الدستوري»

في ظلّ الأحداث السياسية المفاجئة التي شهدتها دول منطقة الساحل من انقلابات عسكرية كالنيجر ومالي وبوركينا فاسو، والتي غالبًا ما كانت موجّهة نحو حكومات موالية لفرنسا، يبرز الحراك السياسي في السنغال بصورة مختلفة، حيث تعود جذوره إلى ما يزيد عن خمسة عشر عامًا، مستهدفًا تحويل الواقع السياسي الذي نشأ ما بعد الاستقلال، في مسعى لتغيير ديناميكية النظام القائم الذي فرضته الأيادي الكولونيالية قبل الرحيل. 

تعدّ السنغال محورًا رئيسيًا للنفوذ الفرنسي في المنطقة، حيث كانت مركزًا لبناء البنى التحتية الاستعمارية الفرنسية، بما في ذلك مؤسسات مثل الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA). هذا الاتحاد يدير العملة الموحدة للمستعمرات الفرنسية السابقة، مترابطًا مع البنك المركزي الفرنسي. كما تُعد السنغال مركزًا ثقافيًا للغة الفرنسية، حيث تُفضل على اللغات المحلية. وفي كلّ مناسبة، يؤكد الرئيس ماكي سال على دوره كحامٍ لهذه العلاقات ولما نجم عنها من مؤسسات. 

بدأت شرارة الحراك السنغالي في كانون الثاني من العام 2011، مع ظهور حركة «يانا مار» التي تعني بالفرنسية «لقد اكتفينا»، وهي تعبير عن الرفض للفساد السياسي والاقتصادي السائد. تتخذ الحركة من العبارة «ليس هناك مصير محتوم، هناك فقط مسؤوليات مهجورة» شعارًا لها، مُعرِّفة نفسها كحركة مواطنة سنغالية شعبية، غير سياسية، تهدف لمواجهة الفساد والإدارة الفاسدة وتدهور الأوضاع الاجتماعية والخدمات، مطورةً أساليبها لتشمل التظاهرات الشعبية والمؤتمرات ذات التأثير العارم، ومعبّرة عن سخط الشباب السنغالي.

يُبرِز سخط الشباب السنغالي التباين الجيلي، حيث يتمرد جيل الشباب الذي لم يعاصر الكولونيالية، على الجيل التليد الذي تأقلم مع الاستعمار وأدواته، رافضًا أن تُولي القيادة السنغالية اهتمامها لمصالح طبقة حاكمة فقط أو لقوى أجنبية على حساب هموم المواطنين.

يعكس هذا التغيير في الديناميكية السياسية والتحول من البنية القديمة إلى الجديدة؛ جوهر الأزمة السياسية في السنغال. إذ برز نجم عثمان سونكو، النقابي السياسي الشاب، بفضل حراك «يانا مار»، إذ مثّل وقوفًا في وجه زمرة الرئيس ماكي سال، الذين تجاوزوا الستين والسبعين من عمرهم ويمثلون تراث الاستعمار الفرنسي في البلاد.

بدأ سونكو مشواره المهني عام 2001 كمفتش للمالية والضرائب، حيث أظهر بمهارة العديد من التجاوزات المالية وسوء الإدارة في القطاعات الحكومية السنغالية، وكانت خطاباته الشعبية تنبض بدعوات جادة لتعزيز الشفافية في الحكومة والإدارة ومحاربة الفساد المستشري في الاقتصاد السنغالي.

في عام 2014، أسس سونكو حزب «الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة»، الذي يُعرف اختصارًا بـ«باستيف»، وسرعان ما نال الحزب دعمًا واسعًا من الشباب ومن بينهم حركة «يانا مار». وبحلول عام 2017، كان سونكو قد حقق إنجازًا بالغ الأهمية بفوزه بمقعد في البرلمان السنغالي، وبدأ يرسم لنفسه خطة طموحة للوصول إلى قمة هرم السلطة. في انتخابات عام 2019، تقدم سونكو كمرشح للرئاسة تحت راية ائتلاف «سونكو بريزيدانت»، واستطاع أن يحصد المركز الثالث بنسبة 15٪ من الأصوات. كانت شعارات حملته الانتخابية التي ركزت على محاربة الفساد ومواجهة اختلاس أموال الدولة، قد أثارت المخاوف في أوساط خصومه السياسيين.

في آذار 2021، اُعتقل سونكو بسبب الاتهامات السابقة بالاغتصاب وتهديد بالقتل، والتي نفاها معتبرًا إياها محاولة سياسية لإقصائه عن السباق الرئاسي في 2024، وهو ما نفته الحكومة. رغم النفي الرسمي، ارتأت جموع من المراقبين أن القضية كانت محاولة لمنع ترشحه، متوقعين أن وراءها دوافع تتعلق بتأمين ولاية ثالثة للرئيس أو دعم مرشحه.

تلا الاعتقال احتجاجات دامية استمرت أسابيع، سقط فيها قرابة مئة ضحية واعتقل ما يزيد عن ألف متظاهر. المظاهرات التي بدأت دعمًا لسونكو تحولت إلى تعبير عن عمق الأزمة الاقتصادية والسياسية بالبلاد، معتبرة التجاوزات تهديدًا للديمقراطية السنغالية مع تزايد التشكيك في الطبقة السياسية الحاكمة.

مستقبل الديمقراطية في السنغال

عليو ممادو ديا، واحد من عشرين مرشحًا تم قبولهم من قبل المجلس الدستوري قبل انهيار عملية الانتخابات، أعرب مثل آخرين عن قلقه مما سماه «انقلابًا دستوريًا»، ووصف الوضع بأنه «احتجاز البلاد كرهينة». كما عبّر مواطنون سنغاليون من مختلف الشرائح الاجتماعية عن عدم ثقتهم بالمؤسسات الرسمية بسبب تأجيل الانتخابات، مما يعكس شعورًا واسع الانتشار بالإحباط والقنوط إزاء مستقبل الديمقراطية في البلاد.

وقد شكّل 13 مرشحًا رئاسيًا تحالفًا معارضًا لتأجيل الانتخابات وقدموا طعنًا أمام المحكمة العليا بهدف إلغاء المرسوم الرئاسي الذي أبطل الدعوة للانتخابات. 

الخطة المقبلة -بحسب بيان التحالف- تتضمن التعاون مع النقابات والمجتمع المدني وعموم الشعب السنغالي، لدعوة المؤسسات المجتمعية للمشاركة في التعبئة ضد قرار الإرجاء. تُظهِر هذه الخطوات أن استراتيجية الاعتراض على قرار التأجيل ستكون عبر القنوات القانونية والمؤسساتية، بدلًا من اللجوء إلى الاحتجاجات الشعبية في الشوارع، على الأقل في الوقت الراهن.

وفي هذا السياق، قد تساعد المعارضةَ حملة الانشقاقات الجديدة التي ظهرت في ائتلاف النظام الحاكم بعد قرار التأجيل. عبرت وزيرة الدولة حواء ماري كول سيك عن خلافها مع الرئيس ماكي سال بقولها: «تستحق السنغال احترام تقويمها الجمهوري» وقدمت استقالتها، ويعيش المرشح الرئاسي نفسه خلافًا مع الرئيس نتيجة اعتراضه على التأجيل. وعلى إثر التأجيل تشهد السنغال حاليًا موجة من الاحتجاجات العنيفة التي اتسمت بدرجة عالية من العنف، أسفرت حتى الآن عن وفاة ثلاثة أشخاص ولا تزال مستمرة.

الدور الخارجي في الأزمة السنغالية

في إطار العلاقة مع الغرب ودوره في الأزمة، يمكن القول إنّ تأجيل الانتخابات السنغالية مدفوع ولو جزئيًا بدوافع استراتيجية، أبرزها حماية الاستثمارات الفرنسية في السنغال عبر الحفاظ على المؤسسة الرئاسية من وصول شخصية معارضة لفرنسا مثل عثمان سونكو للسلطة. 

في 2021، أثار اعتقال سونكو تداعيات جسيمة، إذ اعتبر أنصاره الاعتقال محاولة سياسية لإعاقة ترشحه، وأدى إلى موجة من الهجمات نفذها أنصاره ضد المؤسسات الفرنسية في السنغال، تضمنت شركة أورانج ومحطات توتال وشركة أوشان.

لا يدعو سانكو، على خلاف ما حصل في باقي دول غرب أفريقيا، إلى قطع العلاقات مع فرنسا بل إلى إعادة تقييمها بما يخدم مصالح السنغال أولًا، خاصة فيما يتعلق بالعملة الفرنسية، وهي المسألة التي تشكل مصدر إزعاج لفرنسا. 

مصدر المخاوف الأخرى يكمن في ميول سونكو السياسية نحو التقارب مع دول الساحل البعيدة عن النفوذ الفرنسي والقريبة من روسيا. تعهد سونكو بدعم مالي ضد الإرهاب وبإرسال قوات سنغالية إليها إن لزم الأمر، مما يشير إلى إمكانية تغيير في سياسة السنغال الخارجية تحت إدارته. هذا التوجه يمثّل تحديًا للمصالح الفرنسية، خاصة مع تقرب مالي من روسيا ومجموعة فاغنر، وانسحاب تلك الدول من منظمة «إيكواس» التي يرون أنها تحت هيمنة باريس.

يدعم هذه الرؤية حول احتمالات تأثر الحضور الفرنسي في حال انتخاب رئيس معارض للمسار الحالي للبلاد، التقارير التي تشير إلى زيارة برنارد إيميي رئيس الاستخبارات الفرنسية السابق، إلى السنغال، أي قبل أربعة أيام من إعلان ماكي سال تأجيل الانتخابات.

اللقاء الذي جرى في قصر روما، القصر الرئاسي السنغالي، كان تحت ستار من التكتم الشديد، حيث ناقش إيميي مع الرئيس سال قضايا حساسة، مركزًا بشكل خاص على ضرورة تأمين الاستثمارات الفرنسية بعد الانتخابات، وهو ما يعكس قلق الإليزيه. هذه الزيارة التي كشف الغطاء عنها بعد يومين من مغادرته، تُعدّ دليلًا على العلاقة المعقدة بين السنغال وفرنسا والتأثير الفرنسي القوي في السياسة السنغالية، والذي يُظهر كيف يمكن للمصالح الجيوستراتيجية الأجنبية أن تشكل التغييرات السياسية في البلاد. 

بعد تأجيل الانتخابات في السنغال، اتخذت فرنسا موقفًا يدعم إعادة تحديد موعد سريع للانتخابات، مما يتماشى مع مصالح المؤيدين للتأجيل. وهو ما يتعارض مع الموقف الأمريكي الذي وصف التأجيل بأنه غير شرعي. موقف لقي ترحيبًا واسعًا من قبل الشعب وقوى المعارضة.

وترتيبًا على ما سبق، تلوح في الأفق السياسي السنغالي الآن مجموعة من الاحتمالات المتباينة. إما أن يتحدى الرئيس كل القواعد ويتجاوز المجلس الدستوري ليفرض بالقوة اسم مرشحه ومرشح فرنسا، كريم واد، أو يستغل الاضطرابات السياسية الناشئة عن هذا المرسوم المثير للجدل للبقاء في السلطة باسم الأمن، أو حتى يبرر لنفسه ولاية ثالثة بتلاعب محكم. ورغم تأكيداته المتكررة بعدم السعي لولاية ثالثة، فإن الأمثلة لا تبعد كثيرًا، كما في حالة الحسن وتارا في ساحل العاج، حليف فرنسا الآخر، الذي اتبع نفس النهج وترشح لولاية ثالثة.

مع التشكيك في أسباب تأجيل الانتخابات، إلّا أنه من المبكر الحسم حول المسار الذي يمكن للبلاد أن تدخله، خاصة إذا ما نظرنا إلى أن تاريخ السنغال منذ 1963 يشهد على تداول السلطة بشكل سلمي، ولا يبدو أن الشعب سيسمح بتقويض الديمقراطية أو اغتيالها كليًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية