يبدو توقيت الإعلان عن توقيع صفقة استيراد الغاز من «إسرائيل» ذكيًّا ولئيمًا في آنٍ معًا، فهو يأتي في غمرة انشغال قسم واسع من الرأي العام المحلي بنتائج الانتخابات وتداعياتها الهزليّة والتراجيدية: من شغب وحرق أشجار، مرورًا بتصفية حسابات بين المرشحين الذين «باقوا» بعضهم بعضًا، والدور غير المسبوق لشراء الأصوات في تحديد الفائزين، وصولًا إلى مقتل أبرياء برصاص المُحتفلين؛ وانشغال قسم آخر باغتيال ناهض حتّر، وبقضايا تغيير المناهج، والحرب الكرتونيّة بين «إسلاميين» و«علمانيين»، واعتقال زين كرزون؛ بينما لا يوجد برلمان منعقد في البلد، والحكومة مُنحلّة والرئيس المكلّف لم يشكّل حكومته بعد، فلا أحد ليعترض، ولا أحد ليتحمّل المسؤوليّة.
السلطة لا ترى أحدًا سواها: غاز العدو «خاوة» دون أي مسوّغات
هي ضربةُ مُعلّمٍ جديدة من السُّلطة السياسيّة تصفق عرض الحائط بالاعتراضات الشعبيّة الواسعة، والرّفض النيابيّ الكاسح الذي سجّله مجلس النواب السابع عشر المنحلّ لرسالة النوايا التي وقّعتها شركة الكهرباء الوطنيّة لاستيراد الغاز من «إسرائيل»، وكأنّه لا أحد في هذه الجغرافيا السياسيّة المسمّاة «الأردن» سواها، وسوى مصالحها الصغيرة، وإرادتها المطلقة التي عزّزتها التعديلات الدستوريّة الأخيرة، وشرعنتها انتخابات 2016 الفاترة شعبيًّا، والتي لم تُقاطعها أيٌّ من قوى المُعارضة، وحال السلطة يقول: إلى الجحيم بكلّ شيء آخر سواي.
نحن هنا لا نتحدّث فقط عن الاعتراضات الأخلاقية الوازنة من قبيل أن هذه الصفقة ستُساهم في دعم الإرهاب الصهيوني ودعم جيشه العدوانيّ ومستوطناته وحروبه المستقبليّة بعشرة مليارات دولار من أموال دافعي الضرائب الأردنيين، أو أن هذا الفعل سيساهم أكثر وأكثر في إضفاء الشرعيّة على مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في المنطقة العربيّة، وعلى نهبها للأراضي والموارد العربيّة المسلوبة والمسروقة، ومنها طبعًا ثروات الغاز الطبيعي في المياه المُشاطئة لفلسطين المُحتلّة، أو أن هذا الفعل سيُحوّل المواطنين جميعًا بلا استثناء إلى مُطبّعين غصبًا عنهم ورغمًا عن إرادتهم، فهم سيستعملون الكهرباء (إحدى حاجاتهم الأساسية اليومية التي لا غنى عنها) التي سيولّدها هذا الغاز، وسيدفعون الفواتير من جيوبهم للعدو، دون أن يشاورهم أحد.
بل نحن نتحدّث أيضًا عن مصائب تتعلّق بالجانبين الاستراتيجي والاقتصادي، تجعل من توقيع هذه الصفقة (بالمعنى النفعيّ المُباشر) ضربًا من الجنون.
في الجانب الاستراتيجي: تمويل إخضاع الأردن من جيوب مواطنيه
تعتبر الطاقة سلاحًا مؤثّرًا وفعّالًا في العلاقات البين-دُوليّة، يعطي الأفضليّة للمُصدِّر على حساب المُصدَّر إليه. هذه الصفقة ستعطي اليد العليا للعدو الصهيوني في مجال الطاقة، وهو أمر سيضع الأردن ومواطنيه تحت رحمة الابتزاز الصهيوني عند أي محكّ أو مفصل. وكثيرًا ما يُستعمل سلاح الطاقة هذا دوليًا، بل ثمّة حروب قامت للسّيطرة على منابع الطاقة وممرّات مرورها: ففي العلاقات المتوتّرة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، تقوم الأولى دومًا بتهديد الثانية بقطع إمدادات الغاز عنها كلّما تأزّمت العلاقات حول ملفّ من الملفّات، كوسيلة للضغط السياسيّ وتحقيق التنازلات من الطرف الآخر، فيما قطعت روسيا فعليًا الغاز عن أوكرانيا في سياق الخلاف بين البلدين؛ وكانت الطاقة (النفط) أحد الأسباب الرئيسية التي غزت الولايات المتحدة من أجلها العراق عام 2003.
المُضحك المُبكي في هذه الصفقة أن السلطة السياسيّة في الأردن تُموّل إخضاع البلد بأموال المواطنين، وتستثمر في تحويل «إسرائيل» إلى قوّة طاقة إقليميّة وتمويل البنى التحتيّة اللازمة لذلك (لنتذكّر أن حقل ليفاياثان الذي سيُصّدر الغاز لشركة الكهرباء الوطنيّة غير عامل حتى اللحظة، وليس عليه منصّات لاستخراج الغاز، وسيبدأ بالتصدير عام 2020 بحسب التقديرات بعد بناء منصّات الاستخراج بتمويل من الصفقة)، بدلًا من أن تستثمر هذه الأموال الطائلة في مشاريع طاقة محليّة (مثل التي سترد في الفقرة التالية)، تعزّز استقلال الطاقة في الأردن، وتوفّر فرص عمل للمواطنين الذين يعانون من البطالة. هكذا نستنتج أن السلطة السياسيّة في الأردن تُفضّل «إسرائيل» على مواطنيها، وإرهابها على أمنهم، والتبعيّة لها على سيادتهم وكرامتهم.
في الجانب الاقتصادي: لسنا بحاجة، الأردن مكتفي ويُصدّر الطاقة
الأردن ليس بحاجة الغاز الاسرائيلي، بل هو ليس بحاجة أي بديل من أي نوع على المدى القريب، فالتصريحات الحكوميّة تعترف بأن احتياجات الأردن من الطاقة مؤمنّة من خلال ما نستورده عن طريق ميناء الغاز المُسال الذي تم افتتاحه العام الماضي في العقبة. بل إن الميناء يُحقّق فائضًا من الغاز يقوم الأردن بتصديره عبر خط أنابيب الغاز العربي إلى مصر، كما يصدّر الطاقة المتولدة منه إلى العراق ومصر وأريحا. نعم: الأردن اليوم، وبفضل مشروع واحد فقط، صار بلدًا مُصدّرًا للغاز والطاقة!
وفوق هذا، فالأردن من أفضل البلدان فيما يتعلّق بتوفّر الطاقة الشمسيّة، وهناك عدد كبير من المشاريع القائمة في هذا المجال، وأخرى قيد الإنشاء، ولدينا من الخبرات المحليّة المميّزة ما يجعل استثمار العشرة مليارات دولار فيها هي الأمر المنطقي بدلًا من إعطائها للعدو. مؤخّرًا، أعلنت الجامعة الهاشميّة تحوّلها الكامل للاعتماد على الطاقة الشمسيّة، وتحقيقها اكتفاءً للأعوام الثلاثين القادمة، وبالاعتماد على جهودها الذاتية في التصميم والتنفيذ، ما العذر الذي يجعل السلطة السياسيّة تدير وجهها عن مثل هذه المشاريع المحليّة الرائدة، وترفض الاسثمار فيها، وتفضّل الاستثمار في الصهاينة؟
وهناك أيضًا مشاريع طاقة الرياح، ومشاريع الصخر الزيتي، ومشاريع تطوير حقول الغاز المحليّة، والعرض الجزائري بتزويد الأردن بالغاز بأسعار تفضيليّة، ومشروع مد أنابيب نفط وغاز من العراق بمحاذاة الحدود السعودية (بعيدًا عن مناطق داعش) إلى العقبة، كل هذه المشاريع ستوفّر فائضًا إضافيًّا من احتياجات الطاقة في الأردن للاستخدام المحلي، وللتصدير على المديين المتوسّط والطويل. لماذا إذن سنستورد غازًا لسنا بحاجة إليه؟ من هو صاحب الحاجة؟ «إسرائيل» طبعًا.
تعقيدات غاز «إسرائيل»: الأردن هو زبونه الوحيد
ليس غريبًا أن تُعَنون صحيفة اقتصادية خبرها أمس عن توقيع الصفقة: «نوبل إنرجي تجد زبونًا لحقل غاز ليفاياثان» فالبحث عن زبون لهذا الحقل هو أمر صعبٌ جدًا: مصر اكتشفت في مياهها أكبر حقل غاز في المتوسّط، وهي ليست بحاجة الغاز الاسرائيلي، قبرص لديها حقول غاز، سوريا ولبنان لا تجمعهما حتى اللحظة اتفاقيات «سلام» مع الصهاينة، تصديره إلى تركيا أو أوروبا عبر الأنابيب سيرفع كلفه إلى حد كبير (لطول خط الأنابيب ومرورها تحت البحر) وسيجعله غير منافس مع انخفاض سعر النفط والغاز المسال، إضافة إلى مشاكل تتعلّق بالمرور في مياه قبرص الإقليمية التي تتنازعها تركيا واليونان، أما تسييل الغاز وتصديره بالبواخر فيحتاج الاستثمار في منشآت هائلة الكلفة غير متوفّرة في «إسرائيل».
الزبون الوحيد الممكن لهذا الغاز المسروق هو الأردن. لا بديل آخر لـ«إسرائيل». لهذا ضغطت الولايات المتحدة بقوّة منذ عام 2011 لتمرير هذه الصفقة، ونصح آموس هوشستين، موظف الخارجية الأمريكية المكلّف بهذا الملف، الحكومة الإسرائيلية في مؤتمر هرتسيليا العام الماضي بسرعة إنجاز الاتفاقية قبل أن تنخفض الأسعار عالميًا. لكن الأسعار انخفضت فعلًا، وصار الغاز الذي تستخرجه «إسرائيل» أغلى من سعر السوق العالمي، وتكشّفت فضيحة جديدة.
شركة الكهرباء الإسرائيلية تستورد من السوق العالمي، وشركة الكهرباء الأردنية تستورد من «إسرائيل»
في شهر نيسان الماضي، أورد تقرير نُشر في صحيفة هآرتز الاسرائيلية أن شركة الكهرباء الإسرائيلية تبحث مع شركة بريتش بيتروليوم «BP» العالمية استيراد الغاز المسال منها لأنه أرخص من سعر الغاز المستخرج من الحقل العامل في «إسرائيل»، حقل «تامار»، وهو ذات الحقل الذي وقّعت شركة البوتاس العربية عقدًا بقيمة 500 مليون دولار لاستيراد الغاز منه.
بحسب التقرير والمعلومات الصادرة عن شركة الكهرباء الإسرائيلية، فإن سعر شركة BP هو 4.9 دولار لكل مليون وحدة حرارية، بينما سعر حقل «تامار» هو 5.5 دولار لكل مليون وحدة حراريّة. وسعر السوق مرشّح للنزول أكثر نظرًا لزيادة المعروض ودخول مُنتجين جدد. هكذا، وبينما تلجأ شركة الكهرباء الإسرائيلية للسوق العالمي، تقوم الحكومة الأردنية وشركة الكهرباء المملوكة لها بإنقاذ مشاريع الغاز الصهيونية والشراء منها بكلف أعلى من كلف السوق!
للمتأمل في هذا الأمر، تلوح أيضًا شُبهات فساد، فكيف تُفضّل دولةٌ سعرًا أعلى من سعر السُّوق؟ الفساد وتبعاته ليست بعيدة عن مشهد الغاز المتوسّطي، ويكفي أن نذكر الغاز المصري المُصدَّر بتُراب النُّقود لـ«إسرائيل»، وفضائح الفساد المحيطة به، لنعرف أن أمرًا مثل هذا قد لا يكون مستبعدًا في صفقة الغاز الاسرائيليّة الأردنيّة.
ماذا بعد؟ كيف نُسقط اتفاقية العار؟
هذه الاتفاقيّة ليست بروتوكولًا بين النخب الحاكمة مثل اتفاقية وادي عربة. هذه اتفاقية تنفذُ إلى العمق الشعبي دفعةً واحدةً، وتُحوّل المواطنين بالجملة إلى مُطبّعين داعمين للإرهاب الصهيوني، وخاضعين لابتزازه، بعد أن فشلت كلّ المحاولات لإلحاق الأردن الشعبي بالكيان الصهيوني منذ 1994.
السلطة السياسية تقف وحيدة اليوم كلاعب مُطلق، بلا منافسين، وهي غير مضطرّة لشراكة أحد، أو تقديم التسويات لأحد، بعد أن فتّتت المجتمع، وأضعفت أحزابه ونقاباته، وجيّشته في معاركها الجانبيّة، واحتوته بديكوراتها الديمقراطيّة ومؤسساتها الإلحاقيّة، وهي تدفع البلاد دفعًا إلى الهاوية بهذه الاتفاقية، وبحزمة التشريعات الاقتصادية/السياسية المُنتظر أن يُمرّرها البرلمان القادم لتُضاف إلى حزمة تشريعات الإفقار والتبعيّة.
في ظل هذا التفكك، تبرز معارضة هذه الاتفاقية كنقطة اتفاق عابرة للأطياف والتوجّهات، وشكّلت حتى الآن قضيّة جامعة لكل القوى المتنوّعة (بل والمتعارضة في عدّة ملفّات)، مما قد يجعلها ساحة لنقاش اجتماعي سياسيّ موسّع يتم خوضه بنجاح كبير في إطار الحملة الوطنية الأردنيّة لإسقاط اتفاقية الغاز مع الكيان الصهيوني (غاز العدو احتلال). الالتفاف حول الحملة سيشكّل رافعة فعليّة لممارسة الضغط الفعّال من خارج مساحات هيمنة السلطة، من خلال التحرّكات في الشارع (دعت الحملة لمسيرة يوم الجمعة المقبل 30 أيلول، كما دعا الحراك الشبابي الأردني لمظاهرة أمام شركة الكهرباء الوطنية اليوم الثلاثاء)، أو التحرّكات القانونيّة (سترفع الحملة قضايا ضد الحكومة الأردنية وشركتي الكهرباء والبوتاس أمام المحاكم المحليّة والدوليّة لدعمها الإرهاب)، أو غيرها من الأنشطة التي ستنفذها الحملة.