«قد أكون فقيرة وأمّيّة ولكنني أعلم أن البحيرات والجبال هي كنزنا الحقيقي وسأناضل كي لا يدمّرها المنجم» مكسيما أكونيا دي تشاوبي، (45 عامًا).
في الوقت الذي يفتح فيه القادة والرؤساء قناني الشمبانيا احتفالًا بمعاهدات بيئية لن يتم تطبيقها واحترامها، تقوم الحراكات الاجتماعية في أميركا اللاتينية، والتي تشارك فيها هذه المزارعة البيروفية المعروفة بـ«سيدة البحيرة الزّرقاء»، بحماية الكوكب نيابة عنا جميعًا.
فمكسيما تملك مع أسرتها مزرعة تحتل موقعًا استراتيجيًا قرب البحيرة الزّرقاء في شمال البيرو، وهي بحيرة غنيّة بالذّهب والنحاس. ولكن هذا الغنى انقلب من نعمة إلى نقمة على العائلة التي تعيش على زراعة الكفاف وتعتمد على البحيرة لبقائها والمحافظة على أسلوب حياتها، بعد أن دخلت الشركات متعددة الجنسيات على الخط، محاولةً الاستحواذ على المنطقة لبناء منجم كان مقرّرًا أن يصبح أكبر منجم ذهب في أميركا اللاتينية، وثاني أكبر منجم في العالم.
اجتياح التعدين
شهد العقد الماضي طفرةً في نشاط التعدين في أميركا اللاتينية لم تكن الأولى من نوعها إلا أنها كانت غير مسبوقة من حيث وتيرتها ومدّتها وامتدادها الجغرافي. تخلّل هذه الطفرة اجتياح القارة من قبل الشركات متعددة الجنسية من الولايات المتحدة وكندا والصين وسهّلها التطور التقني الهائل في هذا المجال.
أثارت طفرة التعدين في أميركا اللاتينية جدلًا واسعًا وانقساماتٍ حادّةً وصلت في بعض الأحيان إلى نزاعات عنيفة وأزمات سياسية في الدول الأكثر تضرّرًا. إذ يرى مؤيّدو التعدين أنه يعود بالتنمية والمنفعة الاقتصادية على الدول والمجتمعات وأصبح يشكّل ركنًا أساسيًا من ناتجها القومي وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية وزيادة فرص العمل. بالمقابل، يشير المعارضون إلى أن التنمية المنبثقة عن التعدين هي محض فقاعة غير مستدامة، وأن الأرباح الفورية والسهلة التي يحققها التعدين تُغفِل الحكومات والمنتفعين عن كوارثه البيئية وعن الفجوات الاجتماعية والغبن والفساد واحتكار الشركات للثروات الطبيعية.
فجّرت طفرة التعدين التاريخية حراكاتٍ اجتماعيّةً وانتفاضاتٍ شعبيّةً في العديد من بلدان أميركا اللاتينية رفضًا لسياسات التعدين وخصخصة الموارد وهيمنة الشركات والنهج النيوليبرالي الذي تكرّسه.
في تحليله للمقاومة الشعبية التي أفرزتها هذه السياسات يعلّق المفكّر والناشط الأوروغوياني راؤول زيبيتشي: «عندما تتحرّك الدول لتسهيل عمل الشركات متعددة الجنسية تاركةً السكان بلا حماية في وجه عمليات التعدين، لا يتبقى أمام السكّان خيار سوى الدفاع عن أنفسهم بأساليبهم الخاصة، من خلال تنظيماتٍ للدفاع عن النفس وحشد الجماعات المتضرّرة أو ابتكار سبل جديدة لمنع انتزاع أملاكهم».
تطرح البيرو نموذجًا هامًّا للتناقضات التي تنتجها مشاريع التعدين الضخمة ولما تلاقيه من كفاح شعبي غير محزّبٍ أو تابع للمنظّمات غير الحكومية. إذ تعتمد البيرو بشكل أساسي على تصدير المعادن التي تشكّل 60% من صادراتها وهي أكبر مصدّر للذهب في أميركا اللاتينية، وقد تضاعفت منح التعدين فيها ثماني مرات بين الأعوام 1992 و2014 وازدادت المساحة المخصصة للتعدين 11 ضعفًا في الفترة نفسها. وتعد مقاطعة كاخاماركا في شمال البيرو من أغنى مناطق البلاد بالمعادن وأكثرها استقطابًا لعمليات التعدين.
توفّر البحيرات الجبلية الأربع في كاخاماركا مياه الري والشرب لآلاف المزارعين الذين يعتاشون على رعي المواشي وتربية الإوز والزّراعة، إضافة إلى رمزية هذه البحيرات وأهميتها الروحية بالنسبة لسكان جبال الآنديز. تخبّئ هذه البحيرات في جوفها الذّهب والفضّة والنّحاس ما جعلها منذ أكثر من عقدين فريسة لشركة ياناكوتشا متعددة الجنسيات، وهي أكبر شركات التعدين والتنقيب عن الذهب في أميركا اللاتينية. تملك شركة نيومونت الأميركية غالبية أسهم ياناكوتشا، فيما تتوزّع بقية الأسهم على المؤسسة الدولية للتمويل التابعة للبنك الدولي وشركة بوينافينتورا من البيرو.
في شباط 2010، قرّرت الشركة بناء منجم كونغا للذهب في كاخاماركا، مقترحةً استثمار 4.8 مليار دولار، وهو أضخم استثمار في تاريخ البيرو.
يلجأ البنك الدّولي والشّركات العاملة في الصناعة الاستخراجية إلى استخدام شعارات التنمية والتطوير والتمكين والمسؤولية الاجتماعية لإضفاء الشّرعية على صناعة تحمل أخطارًا بيئيّةً جسيمةً وتصادر أراضي السكّان الأكثر فقرًا وتهميشًا دون أخذ موافقتهم أو استشارتهم. لكن معظم سكّان كاخاماركا لم ينخدعوا بهذه الشّعارات الرّنانة فمغانم المشروع ظلّت حكرًا على الشّركات والسّلطة، بينما لم يجنِ السكان سوى مغارمه؛ حيث عانوا من انقطاع مستمر للمياه، وطال التلوّث بحيراتهم، وواجهوا خطر التهجير القسري من أراضيهم لتمهيد الطّريق أمام بناء منجم مفتوح.
النضال البيئي في أميركا اللاتينية مكلفٌ يدفع النساء والرجال ثمنه بدمائهم وسلامتهم وأمنهم ويواجهون نظامًا عالميَّا يجرّمهم لدفاعهم عن أرضهم
تعهّد رئيس البيرو أوجانتا أومالا في حملته الانتخابية بالوقوف في وجه المشروع لكنه ما لبث أن فاز بالرئاسة في العام 2011 حتى تملّص من عهده وأصبح من كبار مؤيّدي المشروع. أشعل منجم كونغا فتيل الاحتجاجات الشعبية التي أطلقها مزارعو كاخاماركا وسرعان ما كسبت تضامنًا من مختلف أنحاء البلاد ودعم محافظ كاخاماركا والأحزاب اليسارية في البرلمان. استمرّت المظاهرات والاعتصامات رغم القمع وإعلان حالة الطوارئ وتجنيد الجيش لتفريقها في تشرين الثاني 2011.
يملك فلّاحو كاخاماركا تجربة مميزة في الدفاع عن أرضهم وممتلكاتهم تعود بداياتها إلى سبعينيات القرن الماضي حين شكّل الفلاحون دورياتٍ للدفاع عن مزارعهم ومواشيهم بوجه اللصوص. لم يعوّل السكان حينها على الشرطة لتحمي مملكاتهم فأسسوا لآليات دفاعية مستقلة عن الدولة.
تطوّرت هذه الآليات ومهام دوريات الحراسة مع تغير التحدّيات التي واجهت الفلاحين. فاللصوص لم يعودوا أفرادًا أو مجموعاتٍ صغيرة بل أكبر شركات العالم، مدعومة بالشرطة والجيش. لعب «حراس البحيرات» دورًا مركزيًا في التظاهر ومنع الشركات من دخول أراضيهم والحفاظ على الأمن ونظّموا في شباط 2012 مسيرة على الأقدام انطلقت من كاخاماركا وجابت مدن البيرو وصولًا للعاصمة ليما. أكّد المشاركون على حقّهم بالماء والحياة وكان آلاف المواطنين في استقبالهم في ليما تعبيرًا عن تضامنهم.
يعتبر راؤول زيبيتشي احتجاجات كاخاماركا جزءًا من الدورة الجديدة للنضالات الاجتماعية في أميركا اللاتينية، ويوضح أنها أخذت منحى مشابهًا للحراكات البيئية والاجتماعية في السنوات الخمس الأخيرة. بدأت هذه الانتفاضات بتحرّكات محليّة ضد الشركات الخاصة ثم تطوّرت إلى نسيج من التمرّدات المحلية مع امتداد وطني وقارّي وتحالفات عابرة للحدود.
في كاخاماركا، تمكنت هذه الشبكة من إجبار شركة ياناكوتشا على تجميد بناء المنجم -مؤقّتًا على الأقل- في العام 2012، غير أن ملاحقة معارضي المنجم لا تزال متواصلةً حتى الآن.
الحرب على أهالي البحيرات
تنتمي مكسيما أكونيا دي تشاوبي وعائلتها إلى سكان جبال الآنديز الأصليين وتقيم منذ العام 1994 في بلدة تراغاديرو غراندي بجانب البحيرة الزّرقاء على ارتفاع 4100 متر عن مستوى سطح البحر. في أيار 2011، تلقّت عرضًا مغريًا من شركة ياناكوتشا لبيع أرضها ولكنها رفضت دون تردّد.
هذه المزارعة البسيطة التي تعيش على زراعة البطاطا وتربية الإوز ولا تملك هي وعائلتها سوى كلب حراسة واحد لحماية المزرعة الصغيرة، اختارت مواجهة إحدى أضخم شركات التعدين في العالم في معركة غير متكافئة بدت خاسرة لا محالة. تعرّضت مكسيما منذ العام 2011 إلى أكثر من عشرين اعتداء من قبل الأمن الخاص التابع لشركة ياناكوتشا وحتى من قبل شرطة البيرو، فعوضًا عن حماية مكسيما وعائلتها واعتقال المعتدين عليهم، قامت الشرطة بالتواطؤ والمشاركة في الاعتداء على الأسرة وحرق مزرعتهم وتدمير بيتهم ومحاولة تهجيرهم.
لم تكتفي شركة ياناكوتشا بالاعتداء الجسدي على مكسيما وأبنائها وبالتّشهير بها والتّحريض ضدها وتدمير ممتلكاتها. بل رفعت كذلك دعوى قضائية ضدها بتهمة «الاحتلال غير القانوني» للأرض الواقعة قرب البحيرة الزّرقاء وزعمت الشركة ملكيتها لها، رغم أن مكسيما تمتلك وثيقة تثبت أن الأرض لها.
في 17 كانون الأول 2014، أصدرت محكمة النقض في كاخاماركا حكمًا لصالح مكسيما يعترف بملكيتها على المزرعة ما مثّل انتصارًا لها ولأسرتها ولجميع سكان كاخاماركا والمدافعين عن البيئة في وجه السياسات النيوليبرالية الساعية لخصخصة أنهار وجبال وبحيرات وغابات أميركا اللاتينية تحت الراية التنمية والتطوير.
لكن أربعة أعوام من العذاب والملاحقة والتشهير لم تنته بقرار المحكمة، فشركة ياناكوتشا، رغم تنصّلها من المسؤولية، استمرت بملاحقة مكسيما وأسرتها تحت غطاء من الشرطة. هدم أمن الشركة بمرافقة الشرطة منزل مكسيما بعد شهرين فقط من نصرها القضائي، وفي 30 كانون الثاني من هذا العام تعرّض كلب الحراسة التابع للعائلة للقتل خنقًا من قبل مجهولين، وبعد أيام قليلة أحرق موظّفو أمن شركة ياناكوتشا محاصيل البطاطا التي كانت تنوي العائلة حصادها وبيعها في نيسان. أصدرت الشركة بيانًا تعقيبًا على الحادثة، زعمت فيه أن «عملية إزالة المحاصيل» نفّذت بشكل سلمي لأن المحاصيل زُرعت بشكل غير قانوني وبتعدّ على ممتلكات الشّركة.
ليست مكسيما المرأة الوحيدة التي تقود الخطوط الأمامية للدفاع عن أرضها، فمعظم النضالات الاجتماعية والبيئية في أميركا اللاتينية تقودها النساء، فهنّ الأكثر ارتباطًا بالأرض ماديًّا ومعنويًّا. قد لا تتم دعوة معظمهن لقمم المناخ الباذخة والمؤتمرات الدولية ولكن ما يقمن به يفوق بأهميته كل الاتفاقيات والإعلانات الاحتفالية الصادرة عن هذه المؤتمرات.
تجدد الاعتداء على مكسيما تزامن مع اغتيال المناضلة النسوية والبيئية بيرتا كاسيرس التي وقفت بالمرصاد لمخطط بناء سد على أراضي شعب اللينكا في هندوراس.
يذكر تقرير نشرته مجموعة Global Witness في نيسان 2015 أن 116 مدافعًا بيئيًا قتلوا في العام 2014، ثلاثة أرباعهم سقطوا في أميركا اللاتينية وحدها. ووثّقت المجموعة في التقرير نفسه مقتل سبعة وأربعين من السكان الأصليين في العام 2014 لدفاعهم عن أرضهم.
هذا النضال البيئي في أميركا اللاتينية مكلفٌ يدفع النساء والرجال ثمنه بدمائهم وسلامتهم وأمنهم ويواجهون نظامًا عالميَّا يجرّمهم لدفاعهم عن أرضهم. معارك البقاء والكرامة التي يخوضها السكان الأصليون في البيرو وهندوراس وكولومبيا وغواتيمالا والبرازيل وتشيلي قد لا تتصدّر عناوين الصحف الكبرى لكن مصير الكوكب بأسره متعلّق بها. وهذا يحتّم تضامنًا شعبيًّا كاسرًا للحدود مع هذه المعارك واستعدادًا للتعلّم منها وتعميمها وتسليط الضوء عليها.