وداعًا فيدرير

الإثنين 17 تشرين الأول 2022
روجر فيديرير
من المباراة الأخيرة لروجر فيدرير، تصوير عرسان حسن

يحلم أعظم الرياضيّين بتوديع الملاعب وهم في القمة، بانتصارٍ أخيرٍ يفوق كل انتصاراتهم السابقة عذوبةً ورمزيةً، بالترجّل لأنهم اختاروا ذلك لا لأن أجسادهم خذلتهم وأملت عليهم قرار الانسحاب. يحلم أعظم الرياضيين بالتحكّم بنهاية الحكاية، أن تكون كما أرادوا لها أن تكون، نهايةً كاملةً أو تكاد، ألا يطالبهم محبّوهم بالاعتزال متحسّرين على ما آلت إليه الأمور، ألا يهمس المعلقون «ليتهم تركوا قبل أن نراهم هكذا، ظلالًا لمن كانوا عليه يومًا ما». 

فقدنا مؤخّرًا -وأقول فقدنا لأن اعتزال رياضي عظيم أو أثير على القلب يثير في النفس مشاعر يولّدها الفقد- اثنين من أعظم لاعبي التنس على الإطلاق، رياضيّيْن أعادا تشكيل الرياضة -الرياضة بالمطلق لا التنس فحسب- وتعريفها كلٌّ بأسلوبه، ليصبح اسم كل منهما مرادفًا لها وعنوانًا لحقبة وجيل، روجر فيدرير اعتزل في الـ41، وسيرينا ويليامز اعتزلت قبل بلوغها الـ41 بثلاثة أسابيع. لا يمكن القول إنهما ودّعا التنس وهما في القمة، أو إنّ النهاية التي كتباها كانت «كاملة» بالمعنى التقليدي والمبتذل للنهايات الكاملة: كان جليًّا ونحن نشاهد آخر مباراة لكل منهما أن النهاية شارفت. وَمَضات من العبقرية، بعض الكرات المذهلة، لحظاتٌ تعيدنا أعوامًا إلى الخلف، لكن قراريْهما الاعتزال كانا مفهوميْن، بل ومتوقّعيْن، ومع ذلك لم يكن بالإمكان تمنّي نهاية أفضل، نهاية تليق بمسيرة امتدّت لأكثر من عقدين ونصف. 

غادرت سيرينا ملعب آرثر آش للمرة الأخيرة في بطولة الولايات المتحدة المفتوحة، بطولة أحرزت لقبها ستّ مرّات، وهي تقاتل وتتحدى المحتوم، تؤجّله مرة واثنتين وخمس: أنقذت خمس نقاط مباراة قبل أن تخسر أمام الأسترالية آيلا تومليانوفيتش بثلاث مجموعات. لو طُلب منّا تعريف سيرينا لمن لم يشاهدها قط لما كان بوسعنا اختيار شوطٍ أبلغ من ذلك الشوط الأخير، ليس لأنه أفضل أشواطها بل لأنه يختصر عظمتها: مع سيرينا لا يمكن أن تضمن المنافِسة الانتصار إلا عندما تُضرب الكرة الأخيرة. ولو طُلب منا تعريف مسيرة سيرينا بجملة واحدة ما كان بوسعنا اختيار جملة أبلغ من تلك التي وجّهتها في خطابها الأخير للجمهور: «ما كانت لتكون سيرينا لولا فينوس»، شقيقتها الكبرى التي مهدت لها الطريق. حين نروي لمن لم يشاهدوا سيرينا أبدًا عن هذه البطلة، سنحكي عن انتصاراتها التاريخية وعن بعض هزائمها المؤلمة، عن 23 بطولة كبرى فازت بها، عن عودتها كل مرة بعد إصابات كان من المفترض أن تنهي مسيرتها وانسداد رئوي هدّد حياتها، ولكنها تعلم -ونحن كذلك- أننا لا يمكن أن نذكر سيرينا دون أن نذكر فينوس والإنجازات التي حقّقتاها في رياضة هيمن عليها البِيض، والأسطورة التي صنعها والدهما ريتشارد وليامز. ولكن الأسطورة لا تكتمل دون استعادة ليلة سيرينا الأخيرة في آرثر آش، ليلة شهدنا فيها قلب بطلة يحاول التحايل على محدودية الجسد واحتضان الجمهور لها بعد سنواتٍ طويلة من الفتور. لم نشهد سيرينا التي لا تُهزم بل سيرينا هشّة وخائفة ومقاتلة في آن، سيرينا التي ليس لديها ما تثبته لأحد ومع ذلك كانت تلعب كما لو كانت المرة الأولى، خرجت من الملعب كما دخلته أول مرة، وهي تقاتل.

روجر فيدرير من مباراته الأخيرة قبل اعتزاله. تصوير عرسان حسن.

وكما بدأنا من النهاية مع سيرينا، نبدأ من النهاية مع فيدرير، ليس لأن بداياته أو ذروته كانت شحيحة بالأحداث، بل لأن النهاية كانت مغدقةً بشاعريّتها. لم يلعب فيدرير مباراة تنس تنافسيّة منذ هزيمته أمام البولندي هوبرت هركاتش في ربع نهائي ويمبلدون في العام الماضي والتي اضطر بعدها للخضوع لعملية جراحية ثالثة لركبته في أقل من عامين. لذلك لم يكن إعلانه الاعتزال مفاجئًا: أراد فيدرير أن ينهي مسيرته في بطولة كأس ليفر التي دشّنها هو في العام 2017 لتكون منافسةً ذات طابع احتفالي بين نجوم أوروبا ونجوم العالم، ولتحمل اسم قدوته ومثله الأعلى الأسترالي رود ليفر. ما كان مفاجئًا ربما هو اختيار فيدرير إنهاء مسيرته بمشاركة صديقه اللدود وخصمه الحميم رافاييل نادال، لا كمنافسيْن بل كلاعبين في فريق واحدٍ في مباراة زوجية. ربما لم تكن المنافسة التي جمعت فيدرير ونادال أهم منافسات هذه الحقبة الذهبية التي لن تتكرر أو أبرزها من حيث جودة المباريات الصرفة، فهذا الشرف يعود للمنافسة التي جمعت نادال بدجوكوفتش، ولكن منافسة نادال وفيدرير كانت بالتأكيد أكثر منافسات تنس الرجال أيقونيّةً: هي المنافسة التي تجاوزت حدود التنس وزاحمت «الكلاسيكو» وديربيّات كرة القدم، تصدّرت الشاشات واحتلت المقاهي وأخذت حصّتها من أحاديث أشخاصٍ لم يهتمّوا بالتنس إلا عندما لعب فيدرير أمام نادال، أمّي التي لم تشاهد مباراة تنس واحدة تسمّرت أمام شاشة التلفاز في نهائي ويمبلدون في العام 2008، لم يكن الملعب مسقوفًا حينها وكان الظلام يحجب رؤية الكرة على اللاعبين ومع ذلك كانا قادريْن على اجتراح إحدى أعظم مباريات التنس. أصبحت هذه المنافسة علامة تجارية: برشلونة-ريـال مدريد، البرازيل-الأرجنتين، سلتكس-ليكرز، وفيدرير-نادال. 

روجر فيدرير يلعب رفقة نادال من مباراته الأخيرة قبل اعتزاله. تصوير عرسان حسن.

مبارياتٌ كثيرة لا تُنسى خاضها الاثنان في روما وباريس ولندن وملبورن. تاريخ مشترك بدأه نادال كمخرّب احتفالات فيدرير ومعكّر نشوة محبيه، تاريخ من المطاردة والمبارزة والاشتباك على أرض الملعب قبل أن ينهيه الاثنان بيديْن متشابكتين، بلمسة امتنان من فيدرير لأن نادال شاركه لحظته الأخيرة، بهتافات الجمهور عرفانًا لكل السعادات الصغيرة التي منحهم إياها فيدرير خلال 24 عامًا، بدموع نادال الحارقة لأن صديقه وخصمه سيفارقه، بعناقٍ بين نادال ووالد فيدرير، بعناقٍ بين نادال وميركا، زوجة فيدرير، بدفء وحبّ تحديا مفهوم الذكورة السامة التي تساهم الرياضة في بثه في أحيان كثيرة. هنا لاعبون ذكور لا يخجلون من إظهار مشاعر سخيّة لأن خصمًا لهم سيعتزل، وربما كانت هذه، أيضًا، من أهم مساهمات فيدرير، فدموعه في الفوز والخسارة وسخاؤه في إظهار مشاعره بعد المباريات وهو الهادئ الرصين خلال المباريات، منح إظهار المشاعر وإبرازها شرعيّةً في المنافسات الرياضية. ومع هذا الفراق، سيفقد نادال، كما قال، جزءًا منه لأن فيدرير كان حاضرًا دائمًا في حياته الرياضية. 

حين تبوّأ فيدرير صدارة تصنيف التنس العالمي في العام 2004 وبدا عصيًّا على الهزيمة، أحاطته هالة لا تحظى بها إلا نخبة مصطفاة من الرياضيّين: لم تكن النتائج وحدها ما ميّزته عن سواه، بل الأسلوب وخاصّة الأسلوب، الأسلوب أكثر من النتائج مع تميّز الأخيرة. أسلوب جعل بعض مشجّعيه، ومنهم الروائي وعاشق التنس ديفيد فوستر وَلَس، يقدّسونه بشيء من المغالاة ربما، ولكن حين نشاهد فيدرير في قمّته تظهر هذه المبالغة منطقيّةً. أناقته وسلاسته على الملعب، خاصة حين ينساب على عشب ويمبلدون الأخضر. السهولة التي كان يسحق بها اللاعبين دون أن يبذل أي مجهود، أو هكذا كان يُخيّل لنا، تحويله الإعجازي لشيء اعتيادي، السلايس -الكرة المنخفضة التي يغرسها بالباكهاند والتي وخزت قلوبًا كثيرة ومنها قلب آندي رودك، لاعبي المفضل. الإرسالات التي لم تمتز بقوتها وسرعتها بقدر ما امتازت بدقّتها وتنوّعها، قدرته على قراءة المباراة كما لو أنه يرى الضربة التي سيختارها خصمه حتى قبل أن يسدّدها، الانسجام بين العين والمرفق، سرعة التفكير والتنفيذ، والموهبة الفطرية. ثمّة ما يكسر الروح والإرادة عندما رؤية لاعبك المفضل يبذل أقصى ما في وسعه، يتجاوز حدود قدراته، ومع ذلك يعجز مرة تلو الأخرى عن مجاراة لاعب آخر، بينما هذا «الآخر» يكاد لا يبذل مجهودًا في كسره مرة بعد مرة، مباراةً بعد مباراة. لم يكن رودك ضحية فيدرير الوحيدة بالطبع، ولكنه كان ضحيته المفضلة. ما ميز فيدرير كذلك أنه كسب احترام ضحاياه، اختصرها رودك حين قال في إحدى مقابلاته إنه ود لو يكره فيدرير فهو الذي انتزع منه حلم الفوز بويمبلدون في ثلاثة نهائيّات ولكنه لم ينجح. بخلاف غيره من رياضيّين فرضوا سيطرتهم، نجح فيدرير في كسب احترام منافسيه ومحبّتهم. 

احترم نادال فيدرير أكثر من أي لاعب آخر ولكنه لم يهبه، وحوّل من ضرباته الأمامية بالفورهاند المرتفعة شديدة الدوران سلاحًا فتّاكًا، على الملاعب الترابية تحديدًا، كانت تعرّي نقاط ضعف فيدرير، وهذا الاختلاف الظاهر في أسلوب اللاعبيْن وقدرة نادال على تجاهل هالة فيدرير جعل هذه المنافسة فريدة واستثنائية. فيدرير كان سيصبح أحد أعظم لاعبي التنس حتى لو لم يأت نادال، ولكن نادال، نفسه الذي حرم فيدرير من الفوز في بطولة فرنسا المفتوحة مرارًا وتكرارًا، هو من أجبر فيدرير على تحدّي نفسه واستخدام أدواتٍ لم يعهدها كي يهزمه. كان نادال سيصبح أحد أعظم لاعبي التنس بصرف النظر عن فيدرير، ولكن فيدرير هو من أجبر نادال على ابتكار أساليب جديدة. لكي يزيح نادال فيدرير من قمّة التصنيف كان عليه أن يحسّن مستواه باستمرار وأن يتفوّق على كل الأرضيات كالعشب والملاعب الصلبة، لأن فيدرير احتكر صدارة التصنيف العالمي لأربعة أعوام متتالية، من 2004 حتى صيف 2008. والأمر نفسه ينطبق على نوفاك دجوكوفتش، ثالث أضلاع هذا المثلّث الذهبي: لم يكن بحاجة لفيدرير أو نادال كي يصبح أحد أعظم للاعبين في التاريخ، ولكن وجودهما أجبره على بلوغ مستويات لم نعرف لها مثيلًا كي ينهي سيطرتهما. هي المنافسة بين هؤلاء الثلاثة التي منحتنا مبارياتٍ لا تنسى في جودتها وجمالها وحدّتها، وكل هذا لم يكن ليحصل لولا شاب سويسري من بازل جعل التنس فنًّا عاليًا ومتعة خالصةً.

المايسترو الذي لم يحسن استخدام موهبته وأدواته في بداية مسيرته بسبب هشاشته وانفعاله أعاد خلق نفسه في بداية العام 2003، مدفوعًا ربما بوفاة مدربه ومرشده الأسترالي بيتر كارتر الذي قضى في حادث في العام 2002. قرر أن يغير مساره فتحول من لاعب ذي موهبة فطرية نادرة غير قادر على استثمارها وتجييرها، إلى لاعب يجمع بين الموهبة الفطرية والقوة الذهنية والإرادة، مترجمًا هذه الخلطة إلى انتصاراتٍ متتابعة. 

روجر فيدرير يتوسط نجوم العالم في التنس من مباراته الأخيرة قبل اعتزاله. تصوير عرسان حسن.

سنقص للأجيال القادمة عن هذه الموهبة ونعزّز قصصنا بالأدلة المرئية. سنشاهد فيديوهاتٍ لأعظم الضربات التي سددها فيدرير ونحبس أنفاسنا ونحن نتساءل كيف تمكن من فعل هذا، أي لاعب خارق هو، ولكن من المجحف اختزال فيدرير بالموهبة وجمال الأسلوب. كان فيدرير محاربًا أيضًا ولولا تلك الروح القتالية لما كان فاز في بطولة فرنسا المفتوحة للمرة الأولى والوحيدة في العام 2009، ولولاها لما كان انتصر على نادال في نهائي أستراليا المفتوحة في العام 2017، ولما استل الفوز من أنياب الهزيمة في مناسباتٍ لا تُحصى. وهذه الروح القتالية لم تحظَ بالتقدير الذي تستحقه لأن المظاهر تخدع: نرى هذا اللاعب الذي يجعل كل شيء يبدو سهلًا ونحسب أنه لا يبذل جهدًا وأنه مجرد فنان خارق الموهبة، ولكن سنوات فيدرير الطويلة والمباريات التي فاز فيها حتى حين لم يكن في أفضل أحواله حطمت هذه الخرافة. 

مع فراق فيدرير، سنفتقد هذه الروح كما سنفتقد تلك الموهبة وتلك الضربات وذاك الشعور بالمفاجأة والدهشة. يقال إن اللاعبين الذين ينتصرون دائمًا مملّون، ومعظمهم مملّون حقًّا لأن النتيجة مضمونة، ولكن لمسات فيدرير السحرية كانت تضفي على تلك البديهية متعة ودهشة. سنفتقد سفيرًا مثّل الرياضة وأعطاها بقدر ما أعطته، وربما، أكثر من أي شيء آخر، سنفقد التاريخ المشترك الذي خطه فيدرير برفقة نادال، وسنتفقد الرحلة التي كان لنا شرف خوضها معهما بصرف النظر عمّن كنّا نشجّع. وسنبقى ممتنّين للذكريات، ولتلك النهاية التي أعادت تذكيرنا بأن للرياضة وجهًا مشرقًا رغم كل جوانبها المظلمة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية