هكذا يمكن أن تصاب بفيروس كورونا: ما ثبت علميًا بعد ستة أشهر

الخميس 01 تشرين الأول 2020
متنقلون يرتدون الكمامات في محطة قطار في بانكوك، تايلندا، في 20 آب 2020. تصوير ملادن آنتونوف، أ ف ب.

نُشر هذا المقال بالإنجليزية بتاريخ 16 أيلول 2020، ضمن مدوّنة Elemental على منصة Medium. كما أنّ هذا المقال جزء من السلسلة الأسبوعية «بعد ستة شهور» المتخصصة بتدارس آخر مستجدّات كوفيد-19، وما الذي نعلمه عنه حتى الآن، إضافة إلى ما يحمله مستقبل هذه الجائحة.

في بداية انتشار جائحة كورونا في شهر آذار الفائت، أفزع الطبيب جيفري فانوينغن البشرية وأغضب علماء الغذاء. ففي مقطع فيديو مدّته 13 دقيقة، انتشرَ على نطاقٍ واسع عبر موقع يوتيوب وحظي بـ26 مليون مشاهدة، قرّر طبيب الأسرة المقيم في ميشيغن أن ينصح الناس، عند عودتهم من المتاجر، بأن يتركوا مشترياتهم خارج المنزل لثلاثة أيام، وأن يرشّوها بالمطهّرات، ويغطّسوها بالماء المخلوط مع الصابون. كانت فكرته مبنية على الاعتقاد بأنّ تلك المشتريات قد تحمل فيروس كورونا المستجد، وأنها قد تنقل العدوى إلى الناس من خلال لمسها.

بعد مرور ستة أشهر، تعلّمنا الكثير حول كيفية انتشار سارس-كوف-2، وتبيّن أنّ معظم نصائح فانوينغن غير ضرورية، حتى أن بعضها خطير تمامًا (إذ لا يجدر بك أبدًا أن تنظّف طعامك بالمطهّرات، لكننا نرجو أن تكون قد عرفت ذلك مسبقًا). بدلًا من التوجّس حول خطر الحاجيات والأسطح وقدرتها على نقل العدوى، يقول العلماء اليوم إن أكبر مصدر للعدوى يتمثّل في استنشاق ما يزفره شخص آخر، حتى لو كان ذلك رذاذًا خفيفًا أو قطرات أكبر حجمًا. رغم أنّ فكرة وجود فيروس ينتقل عبر الهواء تبدو مرعبة، فإنّ البشارة تكمن في وجود طريقة آمنة، ورخيصة، وفعّالة لإيقاف انتشاره، تتمثّل في ارتداء الكمامة. نقدّم لكم في هذه المقالة ثلاثة سُبلٍ رئيسة لانتقال العدوى، وماذا يعرف العلماء عنها بعد مرور ستة أشهر على الجائحة.

لم تعد الأسطح خطيرة بالدرجة التي كنا نظنّها في البداية

نظرية الأسطح أو أوعية العدوى (fomite) -والتي تعني أنك قد تصاب من خلال لمس أي شيء يحمل الفيروس، وتسمّى تلك الأشياء في هذه الحالة أوعية عدوى، مثل مقابض الأبواب، وعربات التسوّق، والأكياس- كانت النظرية السائدة في بداية الأمر، لظنّ العلماء ومختصّي الأوبئة أنّ معظم الأمراض التنفسية تنتقل بهذه الطريقة.

من الضروري أن يستمر الناس بغسل أيديهم في جميع الأحوال، لكنّ ما يدعو إليه غولدمان هو التوقّف عن الممارسات المبالغ فيها مثل تطهير المشتريات.

على سبيل المثال، عندما يسعل أو يعطس شخص مريض فإن جزيئات من المخاط واللعاب تخرج من الأنف والفم حاملة الفيروس إلى الأسطح القريبة. إذا لمس أحدهم تلك الأسطح ومن ثم لمس فمه، أو أنفه، أو عينيه، فقد تنتقل العدوى إليه. لذلك يتوجّب علينا غسل أيدينا قبل تناول الطعام أو تحضيره، وبعد ركوب المواصلات العامة، أو لمس مقابض الأبواب، خاصةً في موسم الإنفلونزا والزكام.

في وقت سابق، صدرت دراسة نُشرت في مجلة NEJM تدعم هذه الفكرة، ووجدت أنّ سارس-كوف-2 يبقى على الأسطح لعدة أيام؛ 24 ساعة على الكرتون و72 ساعة على البلاستيك. أوصت منظمات الصحة العامة باستعمال مطهّرات الأيدي بمثابة خط دفاع أول أمام الفيروس، ما أدى إلى سباق على شراء المناديل ومطهّرات الأيدي في المتاجر والصيدليات، سباق لم تتعافَ منه سلاسل التوريد إلى اليوم.

برأي الدكتور إيمانويل غولدمان، أستاذ علم الأحياء الدقيقة والكيمياء الحيوية في جامعة روتغرز، فإنّ المشكلة تكمن في أن التجارب التي بُنيت عليها تلك التوصيات كانت «خاطئة في هذا السياق»، لأنها لم تعكس كيفية احتكاك الناس بفيروس كورونا المستجد على أرض الواقع.

يقول غولدمان: «في بداية التجربة، انطلقوا من استخدام كميات مهولة وغير واقعية من الفيروسات المتواجدة على سطح واحد، ومن ثم، يا للمفاجأة! وجدوا أنها تعيش وتنتقل إلى الآخرين. لقد بدؤوا باستخدام كميات لا يمكن لك أن تحتكّ معها في الحياة الواقعية»، يتابع: «على مئة شخص أن يسعل ويعطس على مساحة صغيرة من السطح حتى تتواجد هذه الكمية من الفيروس التي استُخدمت في الأوراق البحثية التي وجدت أنّ كوفيد-19 يعيش على الأسطح».

تبيّن لاحقًا أنّ فيروس كورونا المستجد، رغم الأذية التي سبّبها، هشٌّ إلى درجة كبيرة، ولا تعجبه الإقامة في الهواء الطلق، حيث احتمالية أن يخمل ويموت مرتفعة. بحسب الورقة البحثية المنشورة في مجلة NEJM، فإنّ نصف دورة حياة كوفيد-19 تبلغ نسبيًّا ستّ ساعات، مما يعني أنّ نصف كمية الفيروس المتواجدة في نقطة ما على السطح تخمل وتفقد قدرتها على العدوى كلّ ست ساعات. وهذا يعني أنّ 100 جزيء من الفيروس في البداية سوف تتحول إلى 50 جزيء بعد ستّ ساعات، وبعد نفس المدة، سوف يتبقّى 25 جزيء، وبعد مرور 24 ساعة يتبقى أقل من 10 جزيئات. إجمالًا، حتى لو كانت كمية جزيئات الفيروس المتواجدة على سطح واحد كبيرة، فإن الكثير منها سينتهي كلّ ست ساعات، لكن سيستغرق انتهاء الفيروس بالكامل عن السطح مدة أطول.

«إذا بدأتَ التجربة بكمية معقولة من جزيئات الفيروس، والتي يبلغ مقدارها من 10 إلى 100 جزيء، وهو المقدار المرجّح وجوده في القطرة الناتجة عن السعال أو العطس، فإنّ الفيروس سيخمل ويختفي عن السطح بعد مرور يوم»، يقول غولدمان ويتابع: «لكنني لا أنفي بتاتًا إمكانية انتقال العدوى عن طريق لمس الأسطح، لكن يجب أن تتوفر عدة معطيات من أجل أن يحدث ذلك».

بغض النظر عما سبق، فإنه من الضروري بمكان أن يغسل الناس أيديهم باستمرار -الأمر الذي علينا اتباعه للحفاظ على نظافتنا الشخصية في جميع الأحوال- لكن ما يدعو إليه غولدمان هو التوقّف عن الممارسات المبالغ فيها مثل تطهير مشترياتك.

النظرية السائدة حاليًّا هي القطرات المنقولة في مدى قريب

في شهر أيار الفائت، عدّل المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) تعليماته ليقول إن أوعية العدوى ليست مصدرًا رئيسًا لنقل العدوى بعد الآن. في حين قال المركز إن مصدر العدوى الأساسي قد يكون القطرات المحمّلة بالفيروس، وهي نفسها قطرات اللعاب والمخاط في نظرية أوعية العدوى، لكن بدلًا من القلق حول قدرتها على نقل العدوى بعد أن تهبط على سطح ما، فإن مصدر القلق الكبير حاليًّا يكمن في الاحتكاك مع هذه القطرات وهي في الهواء.

الاحتكاك عن قرب بشخص ما يرفع احتمالية تعرّضك للقطرات الصغيرة التي يزفرها، ويعتقد الكثير من العلماء حاليًّا أنّ ذلك السيناريو وراء معظم الإصابات بكوفيد-19.

عندما تزفر الهواء -بالعطس، أو السعال، أو التحدّث، أو الغناء، أو الصراخ، أو حتى التنفّس- فإن جزيئات صغيرة من اللعاب تخرج معه، تتراوح في حجمها بين رذاذ دقيق لا يُرى ووصولًا إلى بُصاقٍ مرئيّ. الجزيئات الثقيلة تسقطُ أرضًا بسرعة وتصنّف على أنها قطرات سطحية، بينما تبقى الجزيئات الأخف سابحةً في الهواء فترة أطول. عند التحدّث والتنفّس، فإن المسار المقدّر الذي ستقطعه القطرة الاعتيادية يتراوح بين متر واحد إلى مترين تقريبًا، ومن هنا جاءت التوصية بالتباعد قَدْرَ مترين بين الأشخاص. أما إذا خرجت القطرات بدَفعةٍ أقوى، في حال العطس أو السعال مثلًا، فبإمكانها الانتقال مسافةً أبعد قبل أن تهبط أرضًا.

الاحتكاك عن قرب بشخص ما يرفع احتمالية تعرّضك للقطرات الصغيرة التي يزفرها، ويعتقد الكثير من العلماء حاليًّا أنّ ذلك السيناريو وراء معظم الإصابات بكوفيد-19. السبب الأول لذلك الاعتقاد يكمن في أن احتمالية أن يكون الفيروس حيًّا وقادرًا على نقل العدوى عندما يكون محمّلًا داخل قطرة زُفرتْ حديثًا أعلى من احتمالية ذلك عندما يبقى الفيروس على سطح مقبض الباب لساعات. أما السبب الآخر يتمثّل في أن استنشاق هواء زفرهُ شخص آخر بالقرب منك للتوّ، سوف يعرّضك لكمية أكبر من جزيئات الفيروس -تسمّى لقيحة (inoculum)- مقارنة بالكمية التي ستحتكّ بها عندما تسقط هذه الجزيئات على سطحٍ ما وتتبدّد.

«لا أدّعي عدم إمكانية انتقال العدوى عن طريق الأسطح. الأمر كلّه أن احتمالية ذلك تقلّ مقارنةً بوجود شخص بالقرب منك، يزفر قطرات محمّلة بجزيئات حيّة من الفيروس»، تقول الطبيبة ناهيد باديليا. كما تضيف الطبيبة المختصة في الأمراض المعدية والأستاذة المساعدة في كلية الطب لدى جامعة بوسطن: «في الحالة الثانية تكون اللقيحة أكبر حجمًا، ومن المرجّح أن تحتوي على الكثير من الفيروسات الحية داخلها، ولذلك يضعك هذا السيناريو في خطرٍ أكبر».

نتيجة لما سبق، خرجت توصية التباعد الاجتماعي بمثابتها وسيلة لمنع انتقال الفيروس، والفكرة من وراء التباعد تكمن في أن إبقاء مسافة مترين بين الأشخاص تمنع انتقال معظم القطرات الناتجة عن الزفير. ما يدعم هذه النظرية أن معظم الناس يُصابون بالفيروس من خلال شخص يعيشون معه، ويُفترض أن يكونوا على احتكاك مستمر معه. في دراسة صينية على سبيل المثال، كانت احتمالية أن ينقل شخصٌ مصابٌ العدوى إلى أهل بيته نحو 17.2%، أما احتمالية أن ينقلها إلى شخصٍ في الخارج تهبط إلى 2.6%.

رغم ما سبق، سُجلت حالات انتقال للعدوى لا تتماشى مع نظريتي الأسطح أو استنشاق القطرات، لأنها حصلت رغم التزام الناس بإجراءات السلامة والتباعد. ربما تكون أشهر الأمثلة على هذه الحالة هي البروفة التدريبية التي عقدتها إحدى الجوقات الموسيقية على أطراف سياتل في ولاية واشنطن، حيث أصيب في هذه الفعالية التي حافظت على تباعد كبير 52 شخصًا من أصل 61 شخصًا حضروا التمرين الذي استمر لساعتين ونصف.

خرجت توصية التباعد الاجتماعي بمثابتها وسيلة لمنع انتقال الفيروس، والفكرة من وراء التباعد تكمن في أن إبقاء مسافة مترين بين الأشخاص تمنع انتقال معظم القطرات الناتجة عن الزفير.

ما يسترعي الانتباه في هذه الحالة هو أن المغنين حافظوا على مسافة بينهم واستخدموا الكثير من مطهّرات الأيدي، بناء على إجراءات السلامة المتّبعة في ذلك الوقت. إضافة إلى ما سبق، فإن من نقل العدوى لم تظهر عليه علامات الإصابة (presymptomatic)، مما يعني أنه لم يكن يسعل أو يعطس، وبالتالي لم يكن يرسل قطرات محمّلة بالفيروس إلى مسافات بعيدة. رغم كل ذلك، استطاع شخص واحد أن ينقل العدوى إلى 52 آخرين.

في دراسة أُجريت على هامسترات في مختبر (نعم، لقد تبيّن أن الهامستر هو الحيوان الأنسب لدراسة انتشار فيروس كورونا) ظهرت نفس نتائج تدريب الجوقة لكن في بيئة يمكن التحكّم بها مخبريًّا. أثبت الباحثون إمكانية أن تنقل الحيوانات العدوى لبعضها البعض ليس بمجرّد الاحتكاك المباشر عندما تكون في نفس القفص، وإنما أيضًا عندما تكون مفصولة في أقفاص مختلفة داخل نفس الغرفة. بناء على مثل هذه الدراسات وأدلة أخرى تتراكم مع الوقت، بدأ العديد من العلماء الاعتقاد بأن الفيروس ينتقل عبر القطرات وعبر الرذاذ؛ تلك الجزيئات متناهية الصغر التي باستطاعتها الانتقال إلى مسافات بعيدة ولأوقات طويلة عن طريق تيارات الهواء.

نظرية انتقال العدوى عن طريق الرذاذ تلقى قبولًا تدريجيًّا

رغم تلك الإشارات، فإن بعض خبراء الصحة في البداية عزفوا عن التصريح بأن الفيروس ينتقل عبر الهواء، يعود ذلك جزئيًّا لرغبتهم بتجنب ترويع العامة. هنالك أيضًا سجالات بين علماء الوبائيات وعلماء الفيروسات والمهندسين المختصين في مجال الرذاذ، حول ما تعنيه جملة «ينتقل عبر الهواء» بالضبط؛ أيهما يهمّ أكثر، حجم الجزيئات الحاملة للفيروس أم سلوكها (مدى سرعة سقوطها على الأسطح، وإمكانية أن تُحمَل على هبّة ريح)؟ وما الأسئلة التي علينا إجابتها قبل تصنيف مرض ما على أنه ينتقل عبر الهواء؟

يعود جزء من رفض تصنيف كوفيد-19 مرضًا ينتقل عبر الهواء إلى جذور تاريخية. لقرون، لم يعرف الأطباء والعلماء كيفية انتشار الأمراض. اقترحت إحدى النظريات أن العدوى تنتقل عبر غيوم غير مرئية سُمّيت (Miasma) أو البخار العفن. ظلّ الحال على ما هو عليه حتى ستينيات القرن التاسع عشر، عندما بدأت نظرية لويس باستور عن الجراثيم بحيازة الأفضلية، خصوصًا بعد تدعيمها في تسعينيات القرن نفسه باكتشاف الفيروسات. نتيجةً لذلك، شنَّ العلماء في بداية القرن العشرين حملةً لنزع الأهلية عن فكرة البخار العفن وانتقال الأمراض عبر الهواء، وذلك لدفع العامة إلى اتخاذ الجراثيم -والنظافة الشخصية- على محمل الجدّ.

«شكّلت تلك الفكرة الإطار النظري (البراديغم) لعلم الأوبئة والأمراض المعدية، منذ العام 1910 وحتى يومنا هذا»، يقول الدكتور خوزيه لويس خيمينيز، أستاذ الكيمياء لدى جامعة كولورادو، والمتخصص في الرذاذ المنتقل عبر الهواء. ويتابع قائلًا: «طبيًّا، خلال هذه المدة الزمنية، يُعتبر وجود مرض ينتقل عبر الهواء أمرًا صعب الحدوث. إنه طرحٌ عجيب».

إلى الآن، لم يعرف العلماء القدر اللازم بالضبط من فيروس كورونا المستجد، الذي سوف يسبّب الإصابة، لكن من المرجّح أن تكون الجرعة اللازمة أكبر مقارنة بالفيروسات الاعتيادية المنتقلة عبر الهواء.

بناء على ذلك الإرث، اعتقد خبراء الصحة العامة في البداية بعدم إمكانية انتقال سارس-كوف-2 عبر الهواء، استنادًا للاعتقاد المسبق بعدم وجود مرض -تقريبًا- ينتقل بهذه الطريقة. رغم ذلك، حصلت بعض الاستثناءات عبر السنين، لكنها كانت لفيروسات شديدة العدوى لا يمكن تصوّر أنها تنتقل بطريقة أخرى، ونعني هنا الحصبة وجدري الماء.

«في حالة أمراض مثل الحصبة وجدري، ولأنها شديدة العدوى، صار الدليل واضحًا جدًا»، يقول خيمينيز، ويتابع: «إنها شديدة العدوى وتنتقل عبر الهواء بسهولة لدرجة لا يمكن إنكارها، مما ساهم في قبول حقيقة أنها تنتقل عبر الرذاذ الطائر في الهواء».

من المفاجأة بمكان أن فيروس كورونا المستجد، مقارنة بالحصبة والجدري المائي، ليس شديد العدوى. سوف ينقل كلّ مصاب بسارس-كوف-2 المرض إلى شخصين أو ثلاثة في المتوسط. أما المصاب بالحصبة فسوف ينقل المرض إلى 15 شخصًا. بحسب خيمينيز، اعتمدت منظمة الصحة العالمية على انخفاض معدّلات العدوى لفيروس كورونا نسبيًّا في تفسيرها لعدم إمكانية انتشاره عبر الهواء، ويتابع: «إنهم يخلطون بين الأثر المعرفيّ التاريخيّ والقانون الطبيعي؛ فيعتقدون أنّ القانون الطبيعي يقضي بوجوب أن يكون المرض الذي باستطاعته الانتقال عبر الهواء، شديد العدوى». بقي الأمر على حاله حتى صدر نداء عام من قِبل ما يزيد عن 200 عالم، حدا بمنظمة الصحة العالمية أخيرًا إلى تقبّل إمكانية انتقال الفيروس عبر الرذاذ الجوي في شهر تموز الفائت.

إذًا، بما أن فيروس كورونا المستجد ينتقل عبر الجو، لماذا لا يكون شديد العدوى مثل الحصبة؟ قد يكون أحد الأسباب يتمثّل في أن فيروس الحصبة أصلب (تذكّر أن SARS-CoV-2 هشّ نسبيًّا) ويستطيع البقاء حيًّا لمدة أطول محمّلًا على الرذاذ الجوي متناهي الصغر. كما قد يكون أحد أوجه الاختلاف بين الفيروسين يكمن في جرعة الإصابة، أي الكمية الواجب توافرها من جزيئات الفيروس لتتسبّب بالإصابة. إلى الآن، لم يعرف العلماء القدر اللازم بالضبط من فيروس كورونا المستجد، الذي سوف يسبّب الإصابة، لكن من المرجّح أن تكون الجرعة اللازمة أكبر مقارنة بالفيروسات الاعتيادية المنتقلة عبر الهواء. 

«يمكننا اعتبار عملية تحديد مقدار جرعة العدوى اللازمة لدخول الجهاز التنفسّي القطعة الأخيرة في الأحجية التي لم تُحَلّ بعد»، يقول الدكتور جوشوا سانتاربيا، الأستاذ المساعد في قسم علوم الأمراض والأحياء الدقيقة لدى جامعة نبراسكا. ويتابع قائلًا: «أظن أن لدى الناس فكرة مسبقة تقضي باعتبار أي مرض ينتقل عبر الجو شبيهًا بالحصبة أو جدري الماء، ما يعني مجرّد الاحتكاك مع جزيء واحد من الفيروس يكفي لنقل العدوى، في حين أن الأمر مختلف في حالة فيروس كورونا المستجد. معظم حالات الإصابة بكوفيد-19 تتطلّب الاحتكاك مع مئات الجزيئات في الغالب».

هناك سؤال آخر برسم الإجابة قبل أن يتقبّل العديد من خبراء الصحة العامة أن سارس-كوف-2 ينتقل عبر الهواء، يتمحور هذا السؤال حول إمكانية أن يعيش الفيروس داخل جزيئات الرذاذ متناهية الصغر. بعض الفيروسات لا تستطيع ذلك لأنها تخمل وتموت سريعًا دون تواجد قطرات سائلة حجمها أكبر تساهم في إطالة عمرها. على الجانب الآخر، يظنّ العديد من العلماء أن هذه المسألة قد حُسمت بعد صدور دراستين (بانتظار مراجعتهما من قِبل باحثين آخرين) قدّمتا ما عدّه البعض دليلًا على انتقال كوفيد-19 عبر الرذاذ الجوي: فيروسات حية، قادرة على التكاثر، جُمعت من الهواء المتواجد داخل غرف مصابي كوفيد-19 في المستشفيات.

«ما يمكن أن نقوله باطمئنان، أن ما نعتبره رذاذًا جويًّا، وليس قطرات كبيرة الحجم نسبيًّا، يجب أن يحتوي على الحمض النووي الريبوزي الفيروسي (viral RNA) وفيروسات حية بداخله قادرة على التكاثر (التضاعف) في بيئة خَلَويّة»، يقول سانتاربيا الذي كان مسؤولًا عن إحدى الدراستين. ويتابع قائلًا: «أعتقد، بناءً على الدراستين، أنه يمكننا القول إنّ الرذاذ الجوي متناهي الصغر يمكنه نقل العدوى، مما يعني أننا أمام فيروس ينتقل عبر الهواء».

كيف تحمي نفسك من جميع سبل العدوى؟

إلى الآن، يتفق معظم العلماء وخبراء الصحة العامة على قدرة سارس-كوف-2 الانتشار عبر القطرات والرذاذ معًا، خصوصًا عند الاحتكاك بها في مدى قريب، لكن، لا أحد يعلم أيّ سُبُل العدوى هو المصدر الرئيس للإصابة. «أظنّ أننا نمارس تمييزًا خاطئًا عندما نفكّر بأمر هذا الفيروس على شاكلة إما القطرات أو الرذاذ»، تقول الطبيبة باديليا.

ما يعدّ الأهم حاليًّا هو أن تعرف الناس كيف تحمي نفسها بفعالية من الفيروس. من حسن الحظ، أن إجراءات منع العدوى لمختلف سُبُل العدوى عمومًا هي نفسها؛ أبق على مسافة آمنة من الآخرين، وارتدِ الكمامة. إن الأدلة على أهمية ارتداء الكمامة بالأخص لا تنفكّ عن الظهور. وذلك ليس لمجرّد قدرتها على منع الجزيئات الخارجة مع الزفير من الانتشار عبر الهواء، مما يحمي الآخرين، ولكن لقدرتها أيضًا على منع الجزيئات كبيرة الحجم نسبيًّا من الدخول إلى جسم شخص ما مع عملية الاستنشاق، ما يساهم في حماية مرتدي الكمامة. وحتى إذا نفذت جزيئات فيروسية من خلال الكمامة، فإن جرعة العدوى ستكون أصغر بكثير، مما يقلل احتمالية المرض الشديد. 

«إنّ أهمّ ما على العامة فعله هو العمل على التحكّم في جريان الهواء، وتقليل عدد الأشخاص الموجودين في مساحات مغلقة، إلى جانب الحفاظ على ارتداء الكمامة».

من الأمثلة الواضحة على منافع الكمامة هو انتشار حديثٌ لكوفيد-19 في كوريا الجنوبية، نتج عن وجود سيدة مصابة في أحد فروع ستاربكس نقلت العدوى إلى 27 زبون آخر -يزعم المسؤولون أنهم لم يكونوا يرتدون كماماتهم لأنهم كانوا يشربون ويتناولون الطعام- إلا أن العدوى لم تنتقل لأيّ من الموظفين لأنهم كانوا يرتدون كماماتهم طوال الوقت.

إمكانية انتقال العدوى عبر الرذاذ تزيد من أهمية أحد الإجراءات الوقائية، وهو العمل على توفير تهوية جيدة، إضافة إلى توفير أدواتٍ لتنقية الهواء. إن التحكّم في جريان الهواء، سواءٌ عن طريق إدخال هواء جديد إلى الغرفة أو تنقية الهواء داخلها، من الممكن أن يشتّت ويخفّف جزيئات الرذاذ الحاملة للفيروس، مما يحدّ من احتمالية تعرّض شخص ما لها. تتوافر في التواجد في الهواء الطلق شروط التهوية الأمثل، كما ينصح مسؤولو الصحة العامة الناس، منذ شهور، بممارسة حيواتهم الاجتماعية في الخارج. إلا أنه، مع اقتراب الشتاء وانخفاض درجات الحرارة، سوف تزداد أهمية تنقية الهواء والالتزام بارتداء الكمامات في المساحات المغلقة.

«إنّ أهمّ ما على العامة فعله هو العمل على التحكّم في جريان الهواء، وتقليل عدد الأشخاص الموجودين في مساحات مغلقة، إلى جانب الحفاظ على ارتداء الكمامة»، تقول الطبيبة باديليا، وتضيف: «حقيقة انتقال العدوى عبر الرذاذ تزيد كثيرًا من أهمية إجراءات الوقاية في المساحات المغلقة ومساهمتها في تقليل انتشار العدوى، مقارنة بإجراءات الوقاية في المساحات المفتوحة».

متسلحًا بهذه المعرفة، فكّر بالكيفية التي ستجعل فيها فصل الخريف والشتاء أكثر أمانًا، على الصعيد الجسدي والنفسي. فبدلًا من شراء علبة جديدة من المطهّرات، ربما عليك الاستثمار في شراء أداة تنقية للهواء، وكمامة قماشية مريحة ثنائية الطبقات، أو حتى نصب مرجل نار أو مصدر تدفئة في المساحة الخارجية. كن على استعداد للقاء أصدقائك في الهواء الطلق حتى مع انخفاض درجات الحرارة، أو الإصرار على ارتداء الكمامات حتى داخل المنزل. ما يزال الطريق طويلًا قبل أن نعلن انتصارنا على فيروس كورونا المستجد، لكننا على الأقل نعرف عنه الآن الكثير مما كنا نجهله قبل ستة أشهر. كما يمكنك الآن التوقّف عن تطهير ثمار التفّاح التي تشتريها من الخارج.


*دانا جي سميث: كاتبة حرّة متخصصة في مجال علوم الدماغ، والصحة عمومًا. كما تحمل شهادة الدكتوراه في علم النفس التجريبي من جامعة كامبريدج.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية