موت فيسبوك

الأحد 30 تموز 2023
المصدر: نيويورك تايمز.

منذ عام 2004 حتى السنوات القليلة الماضية، تسيّد فيسبوك منصات التواصل الاجتماعي. كان الملاذ الرقمي لجيل الألفية (1981-1995)، ومركزًا للتواصل أدمنه مستخدموه، وانتظروا رمز الإشعار الأحمر بفارغ الصبر مع كل ما يأتي معه من تدفق للدوبامين. أمضى جيل الألفية سنواته على فيسبوك، ومع الوقت، كبر هؤلاء وهرمت معهم المنصة الزرقاء. أمّا الجيل الجديد، الجيل «زي» (1996-2010)، فولدوا في عالم كان مترابطًا بالفعل، وشاهدوا فيسبوك من منظور مختلف. وُلد هذا الجيل مواطنين رقميين، ونشؤوا مع الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي في متناول أيديهم. بالنسبة لهم، كان فيسبوك مجرد منصة أخرى من بين العديد، ويبدو أنها تفتقر للقدرة على جذبهم.

شهدت المنصة، التي تعمل منذ 19 عامًا، أول انخفاض في الإيرادات على أساس سنوي، وأول انخفاض في عدد المستخدمين اليوميين العالميين، في الربع الأخير من عام 2022. كما انخفضت أرباح الشركة وأسهمها بشكل حاد، مما أدى إلى تبخّر المليارات من الدولارات من قيمتها السوقية. 

وفقًا لدراسة أجراها مركز بيو للدراسات (Pew research center) حول المراهقين والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي العام الماضي، يستخدم الآن حوالي 32% فقط من المراهقين الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عامًا شبكة فيسبوك بانتظام. ويعد هذا انخفاضًا كبيرًا مقارنةً بدراسة 2014-2015 التي وجدت أن 71% من المراهقين يستخدمون فيسبوك. 

وبحسب موقع PureSight فإن 4.7% فقط من مستخدمي فيسبوك عالميًا هم في سن 17 عامًا أو أقل. كذلك، أظهرت دراسة حديثة لتحليل الفئات العمرية لمستخدمي فيسبوك، أن الفئة العمرية التي تضم أكبر عدد من المستخدمين هي من 25 عامًا إلى 34 عامًا. ويقع 30% من جميع مستخدمي فيسبوك النشطين ضمن هذا النطاق، والذي يبلغ إجماليه 596.8 مليون شخص. وتليها الفئة العمرية من 18 إلى 24 عامًا، التي تشكل 21.5% من إجمالي المستخدمين في جميع أنحاء العالم. معًا، تشكل هاتان المجموعتان 51.5% من جميع مستخدمي فيسبوك النشطين. وتظهر تلك الأرقام بدقة، أن جيل الألفية، والفئة الأكبر عمريًا داخل الجيل «زي»، هم أكبر مستخدمين للمنصة التي نشأوا معها، في حين أن المراهقين أو الفئة الأصغر عمريًا داخل فئة الجيل «زي» هي عند أدنى المستويات. لكن، أين بقية المراهقين؟ بحسب عدة دراسات، يستخدم هؤلاء «تيك توك» و«سناب تشات» و«إنستغرام». لكن، كيف حصل ذلك؟ وما الذي يحصل مع فيسبوك، وهل تموت المنصة حقًا؟

ساهم تيك توك في تراجع فيسبوك، وما يميّز تيك توك هو خوارزميته المكتوبة بلغة برمجية تبدو كمعلّقة شعرية رائعة الجمال، خوارزمية قائمة على الاهتمامات، في حين أن خوارزمية «فيسبوك» مبنية على دائرة المعارف.

لنتذكر جميعًا، نحن جيل التسعينيات بالتحديد، أن فيسبوك انطلق قبل صدور أول «آيفون» (أعلم، لقد كبرنا). وبالنسبة لنا، عاصرنا كل التطويرات والتغييرات التي طرأت على فيسبوك، لكن، في المقابل، بالنسبة للجيل الجديد، فيسبوك هو منصة آبائهم وأقاربهم. وهنا، تدخل أمور أخرى، بمعزل عن التطورات التكنولوجية، مثل توق الفئات الشابة إلى فعل الأمور بطريقة تختلف عن أهلهم. بالتالي، تصبح الأغاني التي يستمع إليها الأهل أو التوجهات السياسية أو حتى منصات التواصل الاجتماعي التي يتواجدون عليها، أمورًا يفضل الشباب فعلها بشكل مختلف.

وجد أفراد الجيل «زي» منزلهم الرقمي في عوالم أخرى قدمت لهم مستوى جديدًا من العفوية والإبداع والفورية لم يتمكن فيسبوك من تكرارها، مثل نشر مقتطفات من حياتهم في قصص عابرة ولقطات مفلترة ومقاطع فيديو مدتها 15 ثانية. تحرك العالم بوتيرة أسرع، وكافح فيسبوك لمواكبة ذلك مع الـ«ريلز» (Reels)، لكن المشكلة كانت في مكان آخر.

صحيح أن أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في تراجع فيسبوك هو ظهور «تيك توك». وما يميّز هذا الأخير هو خوارزميته المكتوبة بلغة برمجية تبدو كمعلّقة شعرية رائعة الجمال. خوارزمية قائمة على الاهتمامات، في حين أن خوارزمية فيسبوك مبنية على دائرة المعارف. بالتالي، إن كان لدى المستخدم محتوى مرغوب ويثير اهتمام الناس، ستضمن الخوارزمية شهرة الفيديو. ولهذا السبب نجد عند الحديث عن استخدام منصات «ميتا» المختلفة تكرارًا لعبارة «فقاعة»، ما عدا تطبيق «ثريدز» الجديد.

بكلمات أخرى، ما الهدف من منصات التواصل الاجتماعي؟ أليس تكوين الصداقات والدردشة مع الغير، ذلك الغير الذي قد يلفت انتباهنا إلى أمور لم نكن ندركها. «ميتا» قضت على هذا الأمر عبر جعل منصاتها تدور حول فقاعة معارفنا فقط، أغلقت باب التعرف على الغرباء. في «تويتر» مثلًا، غالبًا ما يجد المستخدم أمامه منشورات من أفراد لا يتابعهم، وإن أعجب بما قرأ سيتابع ذلك الحساب، دون إرسال طلب صداقة وانتظار القبول، كذلك الأمر على «تيك توك». هذا هو الفرق بين خوارزمية تتيح لمحتوى المستخدم الانتشار وخوارزمية أخرى تحده داخل بيئة افتراضية ضيقة.

مسألة أخرى تلعب دورًا في جاذبية تيك توك، وهي أن محتواه لا ينضب، يمكن أن يقضي المستخدم ليلته مبدلًا بين الفيديوهات، في حين أن فيسبوك محدود بما يكتبه الأصدقاء.

وفقًا لبيانات من App Annie، تجاوز «تيك توك»، فيسبوك باعتباره التطبيق الأكثر تنزيلًا على مستوى العالم في عامي 2020 و2021. ورغم وجود ثلاثة مليارات شخص على فيسبوك، إلا أن المنصة لم تعد تملك ما يجذب الفئات الشابة.

أفاد «تيك توك» بوجود أكثر من 1.6 مليار شخص على التطبيق عالميًا، منهم مليار مستخدم نشط شهريًا. وقام بتنزيله أكثر من ملياري شخص حول العالم. وفي تقرير نشره موقع OBERLO المختص بالإحصاءات، نجد أرقامًا مذهلة، في عام 2022، أمضى المستخدم ما معدّله 52 دقيقة يوميًا على «تيك تويك»، بمقابل 46 دقيقة يوميًا على «يوتيوب». أي أن المستخدم، بين منصتي فيديو، يقضي وقتًا أطول على «تيك توك».

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

عوامل أخرى أضرت بفيسبوك

أثّر تحديث خصوصية «آبل» الذي طرح في نيسان 2021، والذي يتطلب من مستخدمي «آيفون» الموافقة على أن يتعقبهم المعلنون عبر التطبيقات والمواقع الإلكترونية، على قدرة فيسبوك على جمع البيانات واستهداف الإعلانات لمستخدميها، والتي تعد المصدر الرئيسي لإيراداتها. وفقًا لتقديرات فيسبوك الخاصة، تسبب تحديث «آبل» في خسارة 10 مليارات دولار في عائدات الإعلانات للشركة في عام 2021. ومثّلت هذه الخسارة 8.5% من إجمالي إيرادات فيسبوك لذلك العام.

مؤخرًا، وفي ظهور غريب له، تحدث مارك زوكربيرغ إلى بودكاست ليكس فريدمن الشهير. تناول الحديث كل شيء، من نظرته إلى إيلون ماسك وصولًا إلى نظارة الواقع الممتد XR «فيجين برو» التي أعلنت عنها «آبل» مؤخرًا في مؤتمر المطورين. واللافت في الدردشة كان عدم تطرق زوكربيرغ إلى موضوع الميتافيرس بحجة أن تطورات جديدة قادمة سيتحدث عنها فيما بعد، وندمه على كيفية معالجة فيسبوك موضوع الأخبار الكاذبة أيام فترة الجائحة. وهنا، أشار إلى كيفية تعامل تويتر مع خاصية الـ(community notes) التي أضافها ماسك، والتي تسمح للناس بقول ما يريدون دون منعهم، لكن مع إضافة خانة تحت المنشور تعطي رأيًا آخر بشكل لطيف. كذلك تطرق إلى حاجة العالم إلى منصة تواصل اجتماعي جديدة قائمة على النصوص مثل «تويتر»، وأنه يعمل على ذلك.

واجه فيسبوك أيضًا سلسلة من الفضائح والخلافات حول بيانات المستخدمين، ودوره في نشر المعلومات المضللة وخطاب الكراهية، وتأثيره على الديمقراطية وحقوق الأقليات، تحديدًا خلال فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب. وخلال فترة انتشار وباء كورونا. حينها قررت «ميتا» مكافحة تلك القضايا بسياسة صارمة للحد من انتشار هذا المحتوى. لكن ما حصل هو أن تلك السياسة كانت أقسى مما يجب، فأججت سخط جماعات المستخدمين الذين لجأوا إلى منصات أخرى واضحة بميولها اليمينية مثل «بارلر» و«غاب»، ومن ثم «تروث سوشل» التي يمتلكها ترامب. وعلى الضفة المقابلة، الجماعات المناهضة لترامب، كانت تريد من زوكربيرغ أن يفعل أكثر من ذلك.

وفقًا لتقديرات «فيسبوك» الخاصة، تسبب تحديث «آبل» لسياسة الخصوصية عند مستخدمي «آيفون» في خسارة 10 مليارات دولار في عائدات الإعلانات للشركة في عام 2021، ومثّلت هذه الخسارة 8.5% من إجمالي إيرادات «فيسبوك» لذلك العام.

أدت هذه المشكلات إلى تآكل ثقة المستخدمين ورضاهم عن المنصة، فضلًا عن اجتذاب التدقيق والتنظيم من الحكومات ومجموعات المجتمع المدني. على سبيل المثال، في تشرين الأول 2021، سرب موظف سابق في الشركة آلاف المستندات الداخلية التي كشفت كيف أعطى فيسبوك الأولوية للأرباح على السلامة العامة وخصوصًا سلامة الأطفال والمراهقين، وكيف فشل في معالجة الأضرار التي تسببها منتجاته.

التحديات أمام «ميتا» كبيرة فعلًا. عمليًا، الشركة تقاتل اليوم لضمان وجودها في المستقبل. لكن، وخلال هذه الفترة، لن يخلو الأمر من بعض الضربات تحت الحزام إلى الخصوم. وهذا يعني، المولود الرقمي الجديد، تطبيق «ثريدز». منصة التواصل القائمة على النصوص، والتي أطلق عليها «قاتل تويتر». ولا بد من الإعجاب هنا بمهارة اختيار توقيت صدور «ثريدز»، في اللحظة التي واتت إيلون ماسك فكرة الحد من عدد التغريدات التي يمكن مشاهدتها خلال النهار، والتي تراجع عنها لاحقًا.

«ثريدز» لا يشكل خطرًا على «تويتر»، ولو بلغ عدد مستخدميه المليون بعد أول ساعة من إطلاقه، و100 مليون بعد خمسة أيام منها. سيبقى اسمها منصة كارهي ماسك. وهنا نحتاج إلى الغطس في وحول الانقسامات السياسية والثقافية الأميركية كي نفهم ما حصل. منذ انتخاب ترامب رئيسًا، توسع الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، وانعكس هذا الانقسام على منصات التواصل الاجتماعي، التي لم يترك أي فرصة للتصويب عليها، بالقول إنها ذراع الحزب الديمقراطي في العالم الرقمي، كما هدد بفرض تعديل على القسم 230 من قانون الاتصالات والتواصل، والذي بموجبه تتم حماية المنصات عبر اعتبارها ناشرًا غير مسؤول عما يكتبه المستخدمون. جماعات اليمين ومريدي ترامب، يعتبرون تلك المنصات مناهضة لهم، وعندما أسكت ترامب رقميًا من المنصات، جن جنونهم. وبقيت هذه الحالة قائمة إلى أن استحوذ ماسك على «تويتر»، وشيئًا فشيئًا، أعاد جماعات اليمين إلى المنصة وأزال الحجب عنهم، حتى ترامب، الرجل الذي أدمن «تويتر» ذات يوم، أعيد تفعيل حسابه.

ومنذ ذلك الحين تعتبر جماعات اليسار الأمريكي والليبراليون وأي جهة تختلف مع طرح اليمين، أن ماسك غدرهم. وفي هذا السياق جاءت منصة ثريدز. هل يعني ذلك أن «ميتا» نجت بفعلتها وأنها ستعود إلى الصدارة؟ لا بالتأكيد. علمًا أن «ثريدز» منصة خارج مفهوم الفقاعات التي أشرنا إليها، هي مثل «تويتر»، تتيح لمنشورات المستخدمين الانتشار بشكل واسع، وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح، وربما تنتقل إلى مختلف منصات «ميتا».

في هذا العالم الجديد والذي أعاد اكتشاف الفيديو، وهو أمر أمنته سرعة وباقات الإنترنت عبر الهاتف التي باتت أبخس بكثير منذ أيام صدور فيسبوك، يمكن لنا فهم لمَ يدفع مارك زوكربيرغ بكل ما لديه من أجل صناعة الميتافيرس. ذلك العالم الافتراضي، حيث يمكن للناس التفاعل مع بعضهم ومع المحتوى الرقمي من خلال تقنيات غامرة مثل الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزّز (AR). واستجابة لهذه التحديات، بحسب تقرير نشرته «بيزنيس إنسايدر»، أنفقت «ميتا» من عام 2019 حتى عام 2022 حوالي 36 مليار دولار لصناعة الميتافيرس. وهي تعد بضخ 19 مليار دولار تقريبًا خلال العام الحالي، بحسب بعض التقديرات.

تأمل «ميتا» أنه من خلال الاستثمار في الميتافيرس، ستتمكن من إنشاء مصادر جديدة للإيرادات والنمو، فضلًا عن استعادة اهتمام المستخدمين وولائهم. ومع ذلك، يقول بعض النقاد إن رؤية «ميتا» للميتافيرس، رؤية بائسة وخطيرة، لأنها ستمنح الشركة مزيدًا من القوة والتحكم في بيانات المستخدمين وتجاربهم. علاوة على ذلك، يتساءل بعض المحللين عما إذا كان بإمكان «ميتا» تنفيذ خطة الميتافيرس بنجاح، بالنظر إلى سجلها الحافل بالفشل في الابتكار والتكيف مع تفضيلات المستخدم المتغيرة.

الميتافيرس والمستقبل 

من غير المرجح أن يختفي فيسبوك فجأة، والسيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن يندثر شيئًا فشيئًا مثل «ماي سبايس» و«غوغل بلس». وللبقاء والازدهار في هذا المشهد المتغيّر، لا تحتاج «ميتا» أو غيرها إلى إعادة صنع العجلة، بل إلى طريقة جديدة كليًا للتنقل. وهنا، الأمور معقدة قليلًا، ويبدو أن الجميع ينتظر الجميع.

كي ينجح الميتافيرس، يحتاج إلى أن تكون تجربة استخدامه واقعية جدًا. انغماس كلي في واقع افتراضي. الحديث هنا عن بذلات يرتديها المستخدم تضمن له أن يشعر بملمس الأشياء. كذلك، الميتافيرس هو واقع رقمي مستمر مثل الحياة الحقيقية. بمعنى أنه، على عكس ألعاب الفيديو التي ينتظر المستخدم دخول جميع اللاعبين كي تبدأ اللعبة، ستبدأ الحياة في الميتافيرس منذ لحظة تشغيله.

الأمر أشبه بلعبة فيديو تعمل كل الوقت. وهذا يحتاج إلى سرعات إنترنت عالية وإلى وقت استجابة (Latency) قليل جدًا مثل الذي تقدمه تقنية الـ5G أو الألياف الضوئية. والحياة هناك، كما تعدنا «ميتا»، تحوي الكثير من الأمور والخدمات التي يمكن شراؤها. لذا، فالمستخدم بحاجة إلى عملة مشفرة لشراء السلع والخدمات، ولجني المال أو صرفه. والممتلكات التي تشترى بحاجة أن تحفظ بشكل «NFT» في محافظ المستخدمين الرقمية. عمليًا، الميتافيرس يحتاج إلى أن تتطور وتتعاون عدة مجالات، مثل صناعة نظارات الـVR، والاتصالات، والبلوكتشاين والعملات المشفرة، والويب نسخة 3.0، والكثير غيرها، من أجل تقديم تجربة الحياة الافتراضية للمستخدمين.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية