إنترنت للفقراء: هل الرائحة أفضل من العدم؟

الأحد 11 تشرين الأول 2015
Mark Zuckerberg
Mark Zuckerberg, founder and CEO of Facebook, addresses a gathering during the Internet.org Summit in New Delhi October 9, 2014. REUTERS/Adnan Abidi.

سيهبط الإنترنت من السماء.

أعلنت شركة فيسبوك (بالشراكة مع شركة الأقمار الصناعية يوتلسات الفرنسية) في الخامس من هذا الشهر عن خططها لاستخدام الأقمار الصناعية لإيصال الإنترنت إلى المناطق الفقيرة والقرى في 14 دولة في الصحراء الأفريقية مع منتصف العام المقبل. الشركة التي بدأت كمنصة اجتماعية تعمل الآن لتكون مزوّدًا للإنترنت عن طريق مشروعها Internet.org الذي أعلنت عنه في 2013، بالتعاون مع شركات مثل Samsung وErricson وQualcomm. في العام 2014 بدأت فيسبوك بتطبيق مشروعها عبر شبكات الهاتف النقال وزودت ما يقارب 4.5 مليون مواطن في زامبيا وكينيا وغانا وكولمبيا والهند، لكنها تطمح الآن إلى توصيل الإنترنت إلى  الأربعة مليارات الباقين في العالم باستخدام وسائل تكنولوجية مختلفة.

كل ما عليك أن تفعله هو أن تحمّل تطبيق فيسبوك Free Basics أو ما كان يسمى سابقًا (Internet.org) على هاتفك الذكي الذي ستتمكن عبره من الولوج إلى فيسبوك ومواقع أخرى مختارة مجانًا. الفكرة أن تدفع الشركة ثمن الوصول إلى الإنترنت بدلًا من أن يدفعها المستخدم.

تسعى شركة فيسبوك إلى وضع نفسها في مقدمة العمل الخيري والمسؤولية المجتمعية. ففي خطابه في الاجتماع العام السبعين لمنظمة الأمم المتحدة في أيلول من هذا العام، دعا مارك زوكربيرغ الحكومات إلى الاعتراف بالوصول إلى الإنترنت  كحقٍ من حقوق الإنسان الأساسية لأنه ليس من الصواب «أن يختار الإنسان  بين الدواء أو الغذاء أو الوصول إلى الإنترنت». كما أعلن أيضا عن تعاون شركته مع منظمة الأمم المتحدة للاجئين (UNHCR) لتزويد المخيمات بالشبكة أيضًا.

أن تقوم شركة ربحية عالمية مثل فيسبوك بتزويد هذا الكم الهائل من البشر بإنترنت مجانيّ وهي في الأصل شركة تواصل اجتماعي، قد يبشر بزمن، تظهر فيه معادلة تجمع بين الرأسمالية وروح التخفيف من حدة الفقر معًا دون أن يؤثر أحدها على الآخر. ليس فيسبوك فقط، فشركة جوجل تقوم حاليا بتطوير مشروعها Loon وهو المنطاد الذي سيجوب العالم لتزويد المناطق الفقيرة بالإنترنت أيضًا ولكنه ما زال تحت التجريب في أستراليا ونيوزيلاندا.

معادلة «الجميع يفوز» الجميلة تتبدد عند الوقوف على تفاصيل هذه البرامج التي ستغير من موازين قوى شبكة الإنترنت كما نعرفها.

الشبكة تتقلص إلى فيسبوك

تروّج الشركة مشروعها بأنه سيوصل الإنترنت إلى ملايين الفقراء حول العالم. لكن ما تغفل عن ذكره هو أنها ستوصل شبكة إنترنت إلى هؤلاء الفقراء، شبكة إنترنت هي بالضبط كما تريدها شركة فيسبوك، وليست شبكة الإنترنت التي يجب أن تكون. فتطبيق فيسبوك المجاني يتيح لمواقع مختارة فقط، ولشركات تم عقد اتفاقيات معها لتقديم خدماتها على منصة وتطبيق Internet.org ومن بينها بالطبع موقع فيسبوك. فتختزل تجربة استخدام الإنترنت بكل ثرائها ولامركزيتها وامكانياتها في توفير مساحة لمشاريع إنتاجية، إلى بضعة مواقع داخل حدود التطبيق. يقول زوكربيرغ، «أن القليل من الإنترنت أفضل من العيش دونه مطلقًا».  لكن قد يشبه هذا تزويد شركة اتصالات بيتًا بهاتف أرضي مجاني يمكنك من الاتصال فقط بأرقام معينة، في زمن يستخدم الجميع فيه الهواتف الخلوية. وفوق ذلك، وُسم المشروع بأنه خيري!

قد يشبه هذا تزويد شركة اتصالات بيتًا بهاتف أرضي مجاني يمكنك من الاتصال فقط بأرقام معينة، في زمن يستخدم الجميع فيه الهواتف الخلوية.

في الهند، رفض المجتمع المدني الشراكات التي عقدتها فيسبوك مع مزودي الاتصالات لتزويد المستخدمين المجاني بحزم لمواقع عن طريق تطبيق فيسبوك، حتى قامت العديد من المواقع الهندية بالانسحاب من هذه الحزم. تسمى مثل هذه الخدمات المجانية التي لا تكلف مستخدميها خدمات الصفر غير المحتسبة (Zero Rating Services) والتي تسمح بالعبث بمبدأ حيادية الشبكة. فقد تقسم هذه الخدمات الإنترنت إلى مسارين، واحد سريع لمواقع الشركات المشتركة بهذه الخدمة، والأخر أبطئ للمواقع التي لا تستطيع أن تدفع لتصل أسرع. العبث في مبدأ حيادية الإنترنت وتعزيز الفجوة بين من يصل للشبكة كاملة وبين من يصل لأجزاء منها، والرقابة على المعلومات، وخصوصية المستخدمين  كانت من أكبر الاعتراضات التي عبرت عنها سبعون جهة من المجتمع المدني والشركات الدولية في عريضة أرسلوها الى زوكربيرغ والذي اضطر بعدها إلى تغيير اسم التطبيق من Internet.org إلى Free Basic أو الأساسيات المجانية.

تريد فيسبوك أن تصبح هي الإنترنت، رغم أن خصائص اللامركزية وتنوع الجهات التي كوّنت وما تزال تكوّن بنية هذه الشبكة (من مزودي خدمة ومنصات) هي التي سمحت لمثل هذا الموقع بالظهور. بالنسبة للشركة لا بأس من تداخل مزودي الخدمة مع منتجي المحتوى لردم الهوّة بين من يستطيع الولوج ومن لا يستطيع الولوج. لكن في الحقيقة، ستوفر فيسبوك الحد الأدنى لما يحتاجه المستخدمون لشمّ رائحة الانترنت لكن ليس للدرجة التي ستمكنهم من تطوير شركات منافسة لها. فهل ستسمح فيسبوك لموقع منافس لها خرج من نفس المنطقة التي ستصلها بالإنترنت، ولنقل غينيا، بأن تكون له فرصة متساوية على شبكتها؟ نفس الفرص التي حصلت الشركة عام 2007 ومكنتها من الظهور عندما كانت الشبكة أكثر لامركزية؟

الربح تحت غطاء العمل الخيري

في فيسبوك، معلوماتك كمستخدم/ة هي رأس مال الشركة والسلعة التي تبيعها للمعلنين على موقعها. تستخدم الشركة لوغاريتمات معقدة تعمل على تصنيف شخصيتك واعتقاداتك وتفضيلاتك في القراءة والنوم والغذاء لتوقع قرراتك الشرائية لاحقًا. تخيل عندما يبدأ الملايين من المستخدمين في هذه المجتمعات استخدام التطبيق مجانًا للتواصل، كمية المعلومات التي ستجمعها عنهم وستستخدمها لزيادة رقعة ترويجها الإعلاني، فقط لأنها ستمكنهم من التواصل، التواصل فقط، حيث لن تسمح لهم الخدمة المجانية الولوج إلى المقالات أو الفيديوهات التي يتم مشاركتها على الموقع مثلًا.

في الحقيقة، ستوفر فيسبوك الحد الأدنى لما يحتاجه المستخدمون لشم رائحة الانترنت لكن ليس للدرجة التي ستمكنهم من تطوير شركات منافسة لها.

يقودنا هذا الى فكرة «الثروة في قاع الهرم» التي أفلح المنظر سي كي باراهالاد في إقناع الشركات المتعددة الجنسيات بها. تدّعى النظرية أن الشركات إن فكرت في بيع بضائعها وتقديم خدماتها إلى الأفراد والعائلات التي تتقاضى أٍقل من دولارين في اليوم، لن تجني أرباحًا هائلة فحسب، بل وسترفع من مستوى معيشة زبائنها في أسفل الهرم. نالت هذه الفكرة إعجاب معظم الشركات الكبيرة في العالم بعد أن اكتشفت جاذبية سوق الطبقة الفقيرة المبنيّ على مبدأ (جودة أقل، ربح أقل، لكن كثافة أكبر). في ظل تنامي الإمكانيات التي توفرها الشبكة لتطور المجتمعات، وانتقال معظم الخدمات اليها، لن تردم خدمة «القليل من الإنترنت» الفجوة الذين يملكون والذين لا يمكلون، فقط ستغيّر الفجوة أطرافها لتصبح بين من يملك الوصول إلى الإنترنت الحقيقي ومن يملك القليل جدًا من الإنترنت المختار له.

في بحث أنتجته هيلاني جابيا عن مستخدمي الهواتف في «قاع الهرم» في أندونيسيا تشير النتائج إلى أن الخدمات المجانية (Zero Rating Services) التي توفرها هذه الشركات لم تعرّف المستخدمين الفقراء على إمكانيات الشبكة. إذ يجيب المشاركون بـ«لا» على سؤالها إن كانوا يستخدمون الإنترنت، و«نعم» إن كانوا يستخدمون فيسبوك.

أقمار صناعية بعقلية عسكريّة

لن تصل الكيبلات من تحت الأرض الى هذه المناطق الأقل حظًا، بل ستصل عبر تقنية إشعاعات «HTS Ka Band» التي ستبثها أقمار صناعية تغطي رقعة كيبرة من مناطق شبه الصحراء الأفريقية. استأجرت الشركة جزءًا من هذه التغطية من القمر الصناعي عموس 6 التابع للشركة الإسرائيلية سبيس كوم المعنيّة بإطلاق الأقمار الصناعية مزودة لخدمة الإنترنت. من الجدير بالذكر بأن عطاء بناء القمر الصناعي عموس 6 رسا عام 2012 على شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (Israeli Aerospace Industries)، والتي هي من أهم الشركات المصنعة لترسانة ووزارة الدفاع الإسرائيلية. حينها، نوه الخبراء الإسرائيليون إلى أن وجود قمر  غير إسرائيلي في المدار الفضائي المطلوب (والذي يغطي كامل الشرق الأوسط) قد يؤثر على الأمن القومي لإسرائيل.

تأتي الكثير من الشركات المتجهة لبناء أقمار صناعيّة من خلفيات دفاعية وأمنية. بالإضافة إلى الأقمار الصناعية تستثمر فيسبوك في بناء طائرات من غير طيار لبث خدمة الإنترنت، كما تفعل شركة جوجل، وقد استحوذت فيسبوك عام 2014 على الشركة البريطانية آسنتا (Ascenta) المختصة في بناء مثل هذه الطائرات. الخطة أن يتم إطلاق أول طائرة من غير طيار باسم آكيلا (Aquilla) في نهاية هذا العام والتي ستستطيع التحليق على ارتفاع 60 إلى 90 ألف قدم، والعمل على الطاقة الشمسية لمدة ثلاثة أشهر. وعند النظر إلى خلفيات العاملين في شركة آسنتا، نجد مثلًا أن مؤسسها أندرو كوكس كان عضوًا رئيسيًّا في فريق شركة دفاع بريطانية ونايجل غيفورد ذو خلفية عسكرية وتم ابتعاثه إلى العديد من الأماكن النائية.

خاتمة

في إعلانها عن استخدام الأقمار الصناعية في بداية هذا الشهر، سمّت فيسبوك أربع عشرة دولة في شبه صحراء إفريقيا لتوصل لهم خدماتها أو مشروعها Internet.org. لكن هدفها الأسمى هو الأربع مليارات من غير المستخدمين في العالم، الذين يقطن جزء كبير منهم في المنطقة العربية. بدأت شركة فيسبوك وغيرها من الشركات بإبرام صفقات للخدمات المجانية (Zero Rating)، كما في شراكة شركة أمنية للاتصالات مع ويكيبيديا وفيسبوك وواتسآب وسكايب وأوبرا مقابل دينار في الشهر. لا ينكر أحد أن الحق في الوصول للإنترنت أصبح شبيهًا بالحق بالمياه والكهرباء وهو حق على الحكومات تأمينه لكل مواطنيها. وإن لم تستطع الحكومات توفيره،  فقد تستعين بالقطاع الخاص لكن بشروط تضمن توفير إمكانيات الشبكة، كما هي، لا تقنينها، خصوصًا أن المواقع المشتركة في الحزم ستجني أرباحًا من مجرد توسيع رقعة الوصول إلى مواقعها. على جهات تنظيم الاتصالات أن تنظم خدمات الـ Zero Rating بما يضمن الحفاظ على التنافسيّة وقدرة مستخدمي قاع الهرم على استكشاف الإمكانيات التي توفرها الشبكة خارج حوائط تطبيقات الحزم المجانية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية