قانون الجرائم الإلكترونية: هل علينا أن نقلق؟

الخميس 27 تموز 2023
وقفة أمام مجلس النواب احتجاجًا على قانون الجرائم الإلكترونية. تصوير يزن ملحم.

من غير المعروف إن كان التزامن بين تصاعد الحديث العام والرسمي حول ما يسمى «التنمر» الإلكتروني وتصدي وسائل إعلام وساسة لما يقال إنه ظاهرة «تنمر» على مسؤولين ومستثمرين، وبين إرسال الحكومة مسودة قانون الجرائم الإلكترونية في السادس من الشهر الجاري إلى مجلس النواب لإقراره مجرد صدفة. لكن ثمة وجاهة في تصور أن تلك الهبة الإعلامية ربما مهدت، بقصد أو دون قصد، للنسخة الحالية من القانون، وهي نسخة مقلقة بالفعل على أكثر من وجه. 

صحيح أن القانون يركز في جله على جرائم الاحتيال الإلكتروني، والقرصنة، واعتراض المعلومات الرسمية الحساسة دون إذن وغيرها من بنود تتعلق بمخالفات جدية في العصر الرقمي، إلا أن تضمينه مواد بعينها تجرّم «ذم وقدح» المسؤولين والسلطات عمومًا ونشر «الأخبار الكاذبة» و«اغتيال الشخصية» لم يكن ليمر شعبيًا دون كثير من الجدل. المادة 15 في البندين «أ» و«ب» تصلح كمثال مكثف على ذلك.

ينص البند الأول من تلك المادة على تجريم من ينشر بيانات عبر أي وسيط إلكتروني تنطوي على «ذم وقدح وتحقير» أو «أخبار كاذبة» تسبب ضررًا للأفراد والهيئات. والبند الأخير، «ب»، يضع في قائمة المتضررين المحتملين السلطات في الدولة، والهيئات الرسمية، والإدارات العامة أو أحد أعضائها أثناء تأدية عملهم، ثم يمنح للنيابة العامة الحق بالملاحقة دون الحاجة لادعاء المتضرر بالحق الشخصي. يعني ذلك أن أي نقد يوجهه الأفراد لأي سلطة من سلطات البلاد أو أي عضو من أعضائها سيكون برسم اعتباره جرمًا. وفي حال كان النقد لأي سبب غير دقيق جزئيًا أو كليًا، فسيعرّض ناشره (أو ناقله) للتبعات القانونية باعتباره «خبرا كاذبًا». 

لا تقدم مسودة القانون في مطلعها تعريفًا لماهية «الخبر الكاذب» وهو ما دفع نقابة المحامين الأردنيين للمطالبة بإلغاء هذه العبارة مع الإشارة إلى أنها واردة في قانون العقوبات وترتبط فيه بعلم الناشر والناقل بكذب المعلومة.

يثير الجدل حول «الأخبار الكاذبة» نقاشًا معمقا في أنحاء العالم وليس فقط في الأردن، إذ إن المعلوم أن انتشار ما يسمى «الخبر الكاذب» مرده ابتداء غياب الخبر «الصحيح» من دائرة التداول، والأخير لا يمكن لعموم المواطنين الحصول عليه دون أن تقوم السلطات بواجب توفيره بشكل رسمي وواضح. وفي سياق الحديث عن غياب المعلومات الرسمية المحققة، تجدر الإشارة هنا لعدم توفر مشروع قانون الجرائم الإلكترونية نفسه على شبكة الإنترنت إلا كصورة عن النسخة الورقية، عوض أن تتيحه الحكومة على موقعها أو تنشره بصيغة رقمية عبر وكالة الأنباء الرسمية ليكون متاحًا للرأي العام على نحو سلس.

 تقول النقابة إن أول ورود تاريخي لعبارة «الأخبار الكاذبة» جاء في قانون العقوبات، وأن حكمها هناك هو الحبس بما لا يقل عن ستة أشهر وغرامة لا تتجاوز 50 دينارًا. في مقابل ذلك، تبلغ عقوبة مثل تلك الجرائم الموجهة نحو السلطات والعاملين فيها في مشروع قانون الجرائم الإلكترونية الحالي الحبس مدة «لا تقل» عن ثلاثة أشهر (دون تحديد حد أقصى لتلك الثلاثة أشهر) والتغريم 20 ألف دينار وبحد أقصى 40 ألفًا.

المفارقة أن هذه العقوبة القاسية تبدو أخف بشكل ملحوظ من تلك التي تتحدث عنها المادة 8 «ج» من مشروع القانون، والتي تعالج حالات الاحتيال عبر الحصول على بيانات الدفع الإلكتروني بطرق غير مشروعة واستخدامها للاستيلاء على أموال الغير. ورغم جدية هذا الجرم لجهة إضراره بمصالح الأفراد الاقتصادية وتهديده لسبل عيشهم، لا تتجاوز عقوبته في مسودة القانون الحبس ثلاث سنوات والغرامة 10 آلاف دينار وبحد أقصى 15 ألفًا، أي أنها بالفعل أقل مما فرضه المشرِّع من غرامة على «ذم وقدح وتحقير» السلطات والمسؤولين والموظفين العامين. تلك العقوبة لجرم الاحتيال المالي تبدو أخف من تلك المفروضة على الجرائم المتعلقة بإثارة النعرات أو اغتيال الشخصية أيضًا، والتي تبلغ غرامتها بالحد الأدنى 25 ألفًا وبالحد الأعلى 50 ألفًا. 

لم يوفر مشروع القانون تعريفًا واضحًا في مطلعه لاغتيال الشخصية أو إثارة النعرات والمس بالوحدة الوطنية على ما يرى حقوقيون وقانونيّون، وهو ما يثير مخاوف مبررة من توظيف المادة لصالح مسؤولين وإدارات حكومية ضد ناقديهم.

توحي مثل تلك المفارقات في مشروع القانون بحرص المسؤولين الحصول على المغانم المعنوية والاجتماعية للمنصب الرسمي، وضيقهم تمامًا من تحمل تبعات المنصب لجهة المسؤولية والمحاسبة وتقبل النقد والاحتجاج وعدم الرضى الشعبي على أدائهم.

الضبابية والرقابة الذاتية

مضافًا لما سبق، تعج وسائل التواصل الاجتماعي بالتساؤلات حول ما إذا كانت الأولوية التي قامت عليها فكرة القانون هي بالفعل حماية العموم من الجرائم الإلكترونية المتعلقة بالأمن المالي والقومي، أم أن تركيزها الأساسي وشغلها الشاغل كان التعليق والنقد والاحتجاج على أداء السلطات عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟

يعزز مثل تلك التساؤلات ما يبدو من غياب لتحديد ماهية بعض الجرائم المتعلقة بـ«اغتيال الشخصية» أو «النعرات وخطاب الكراهية» أو تلك الماسة بـ«الوحدة الوطنية». يعتبر المعترضون تلك المواد، بشكلها الحالي، مفتوحة على التفسير، وتباعًا التوظيف، متى ما دعت الحاجة. 

حتى محاولات المواطنين اللجوء لمواقع التصفح الآمنة مثل «تور» أو خدمات حجب عنوان المستخدم VPN قد تصبح مجرّمة بغرامة تصل إلى 25 ألف دينار والسجن لستة أشهر وفق المادة 12 من القانون، على الأقل وفق ما تراه بعض المنظمات الحقوقية الدولية.

يستخدم الأفراد خدمات التصفح الآمن في كثير من الأحيان للحفاظ على خصوصيتهم في ظل نزوع المواقع الإلكترونية لتتبع بياناتهم لحصدها وبيعها أو لأي أسباب أخرى يجهلها المستخدم. حماية الهوية على الإنترنت أصبحت أمرًا رائجًا عقب الاختراقات التي شهدتها بيانات المتصفحين لمواقع دولية معروفة، واعتبار مثل تلك الخدمات مجرّمة في القانون يزيد من حالة التضييق على استخدام الإنترنت عمومًا. 

ربما كان الصحفيون الأقدر على فهم أبعاد مثل تلك التشريعات، ذلك أن محور عملهم اليومي نشر ونقل وتبادل المعلومات. تقول تجربة هؤلاء، في كل العالم، إن السلطات غالبًا ما تضيق بالنقد، وإن الأفراد ممن يحوزون سلطة مالية أو بيروقراطية غالبًا ما يضيقون به أيضًا. عادة ما يعبّر الضيق بالنقد عن نفسه على شكل دعاوى قضائية تستهلك طاقة المؤسسات الناشرة معنويًا وتستنفد مواردها ماليًا، دع عنك أثر مثل تلك التبعات على المواطنين ممن لا يمارسون النشر كمهنة بالضرورة. 

النقد كضرورة للتقدم

والحال كذلك، يبدو محض وجود مثل تلك البنود المتعلقة بالتعبير في نص مشروع القانون، حتى وإن لم يجر استخدامها فعليًا، سببًا كافيًا لفرض وتعزيز رقابة ذاتية على عموم المجتمع حين يتعلق الأمر بالتعقيب والتعليق على أداء السلطات عمومًا، بما فيها التشريعية التي لم تأخذ لجنتها القانونية وقتًا طويلًا لتمرير المشروع بتعديلات طفيفة عليه. 

النتيجة الحتمية للرقابة الذاتية هي تثبيط تلك المؤسسات عن نشر مقالات وتحليلات تقدم تغذية راجعة على السياسات العامة، ونصوص الاتفاقيات الموقعة رسميًا مع الخارج والداخل، والعطاءات والمشاريع العامة، وحتى أداء الدوائر الحكومية وعموم مناخ الاستثمار والسياحة في البلاد. 

غالبًا ما تثني الرقابة الذاتية المواطنين من غير الناشرين أيضًا عن تناقل ونقاش مثل تلك المقالات والتحليلات التي تطلعهم على أداء السلطات والمسؤولين، أو حتى التبرع بآرائهم وملاحظاتهم الشخصية على وسائل التواصل حين يتعلق الأمر بتجاربهم مع هذه الخدمة الحكومية أو تلك أو هذا المسؤول أو ذاك، اللهم إلّا إن كانت تعليقاتهم لأغراض المديح والثناء.

مثل هذا الغلق أو التجريف لقنوات الاتصال والمعرفة بين عموم الناس والحكومات ربما يتجاوز تأثيره السلبي المجتمع ليشمل السلطة نفسها؛ إذ تصعب معرفة توجهات الرأي العام وقياس حالة الرضى من عدمها دون مستوى مقبول من الارتياح في نقل وتبادل المعلومات شعبيًا حول أداء الحكومات. 

بعيدًا عن البعد الحقوقي للأمر برمته، حتى في أكثر النظم شمولية، هنالك حاجة لدرجة من الثقة بالقدرة على نقد الأداء الرسمي كضرورة أمنية وتنموية تحول دون تعاظم حالة السخط والإحباط إلى حدود قد تؤثر على استقرار الحكم والأمن والسلم الأهليين.

يبدو محض وجود تلك البنود المتعلقة بالتعبير في نص مشروع القانون، حتى وإن لم يجر استخدامها فعليًا، سببًا كافيًا لفرض وتعزيز رقابة ذاتية على عموم المجتمع حين يتعلق الأمر بالتعقيب والتعليق على أداء السلطات عموما، بما فيها التشريعية

ما يبدو غير مفهوم حتى الآن هو كيف يمكن للرأي العام، الذي تقول السلطات إن عليه واجب البقاء متفائلًا وغير متشكك حيال أدائها، فهم خطط الحكومة الأخيرة المرتبطة بالتحديث السياسي والاقتصادي في ظل دفعها بمشروع قانون خلافي على هذا النحو؟ قد يبدو السؤال تبسيطيًا، على أنه ليس كذلك. 

أطلقت الحكومة الأردنية الحالية خطة للتحديث الاقتصادي العام الماضي ووضعت لها جداول زمنية بمنجزات مرحلية على عشر سنوات وبكلف مالية بعشرات الملايين لكل مرحلة، ومبادرات تجاوزت الثلاثمائة. كيف يمكن التعقيب على نجاح، تعثر أو فشل تلك الخطط والمبادرات في ظل قانون يجعل نقد السلطات أشبه بالسير في حقل للألغام؟

في التحديث السياسي لا يختلف الأمر. روجت السلطات الأردنية لقانون الانتخاب الجديد بوصفه خطوة غير مسبوقة ستشكل بداية الانتقال بمجلس النواب وعموم الحياة التشريعية من مرحلة الروابط العشائرية والقرابية الخدمية إلى رحاب العمل البرامجي والحزبي عبر زيادة المقاعد الحزبية بشكل تدريجي لتتجاوز 65% بعد عشر سنوات. وهو بالفعل تطور مهم. لكن العمل الحزبي كان على الدوام محفوفًا باحتمالات الاستدعاءات الأمنية، وصعوبات الحصول على شهادات حسن السير والسلوك من الأجهزة الأمنية، والصعوبات في الحصول على العمل. 

تلك المحظورات لم تنكرها أي من الحكومات الأردنية السابقة. اليوم، تقول الحكومة الحالية إن مثل تلك المحاذير الأمنية باتت من الماضي وتجادل بأن خطة تطوير العمل والنشاط الحزبي جادة تمامًا. واليوم أيضًا تقدم السلطات ذاتها هذا القانون لمجلس النواب لإقراره، ويغدو مفهومًا حينها التساؤل عن مدى جدية التحديث السياسي المنشود عمومًا.

قد يجادل بعض مؤيدي مشروع القانون بأن من المبالغة التوقف مطولًا عند القليل من أبوابه المتعلقة بالتعبير واختزال تشريع يحوي 41 مادة وعشرات البنود الفرعية، وقد يرون أن غاية القانون بالمحصلة تحددها غالبية مواده وليس العكس. قد يكون ذلك صحيحًا بالفعل، على أن التخوف يبدو مشروعًا ومفهومًا في ظل تجربة تاريخية ممتدة لم يكن فيها النقد متاحًا دون كلف سياسية وأمنية باهظة أحيانًا.

والحال كذلك، لا يبدو أن ثمة سبيلًا آخر لتبديد مثل هذه التخوفات سوى بحذف مثل تلك النصوص الخلافية والمطاطة والقابلة للتوظيف السياسي، والاكتفاء بما تنص عليه القوانين الأخرى في هذا الصدد وأهمها العقوبات، وهو الرأي الذي عبر عنه قانونيون وحقوقيون كثر على امتداد العقد الماضي، منذ طرح قانون جرائم أنظمة المعلومات المؤقت للعام 2010، الذي كان أول المحاولات لضبط النقد والتعبير على الإنترنت.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية