«ما نفعله طوال اليوم»: نتفلكس وأوباما وتجميل أزمة العمل

الثلاثاء 08 آب 2023
المصدر: نتفلكس.

«عندما يصبح أحدهم مراقِبًا على العمال، عليه أن ينسى كيف يكون إنسانًا، فيما يتعلق بمشاعره على الأقل. سترى رجلًا آخر ينزف حتى الموت. وماذا في ذلك؟ يجب أن يتحرّك خط الإنتاج. وأنا لا أستطيع أن أعيش بهذه الطريقة. إذا تأذى أحدهم، فأول شيء عليك أن تفعله هو الانتباه إليه». يصف فيل ستالينغز، العامل على آلة لحام في إحدى مصانع فورد، بهذه الكلمات عدة أشياء دفعة واحدة في كتاب «العمل» للمؤرخ والمذيع الأمريكي ستادز تيركل، الذي عمد إلى مقابلة مختلف مكونات القوى العاملة الأمريكية في السبعينيات، وجمع ما وصل إليه في الكتاب.

لقي الكتاب استحسانًا منذ صدوره عام 1974، وموضَع نفسه بالتالي كمصدرٍ للاستلهامات والاقتباسات، التي كان آخرها «العمل: ما نفعله طوال اليوم» من إنتاج شبكة نتفلكس وبطولة (إن صح التعبير) الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، بدور المنتج المعلّق والمفسّر أحيانًا، ومُحاور العمال أحيانًا أخرى.

على المستوى الظاهري، تبدو الفكرة جديرة بالاهتمام. فخلال الفترة الفاصلة بين العمل الأصل والنسخة المستلهمة شهد مفهوم العمل تغيّرات كثيرة، ظهرت على إثرها أعمالٌ بينما ماتت أخرى، وطغى حضور مفاهيم مثل عمال المعرفة بالتزامن مع إزاحة «العمالة غير الماهرة» إلى الخلفية. فهل استطاع العمل بالتالي التعمّق في هذه الرحلة أو استحقاق لقب المستكمل لعمل تيركل؟ في الحقيقة، ودون «حرقٍ» لأي أحداث، لن تكون الإجابة شديدة التفاؤل لأسباب مختلفة.

ماذا يعملون ويعلمون عن العمل؟

يمتد «العمل» لأربع حلقات، تمثل كل واحدة منها مستوىً مختلفًا، ويحضر أوباما فيها أمام الكاميرا بداية ونهاية كل حلقة. ففي الحلقة الأولى تبدأ السلسلة عند من يفترض أنهم عاملو وعاملات اليوم عند المستوى صفر، مع سائقة أوبر وموظفة في قطاع الرعاية المنزلية وعاملة تنظيف وخدمة غرف في فندق. تغطي الحلقة الثانية «الطبقة الوسطى» ممثلةً بموظفٍ في شركة سيارات ذاتية القيادة ومديرة فريق في شركة الرعاية المنزلية ذاتها وعاملة في مقسم هاتف الفندق، ليكون موضوع الثالثة وظائف الأحلام، مع مبرمجٍ يُقدَّم كممثل لعمال المعرفة ومدير الفندق ومشرفة في شركة الرعاية، وتنشغل الرابعة بالطبقة الإدارية في المؤسسات الثلاث نفسها.

تعمل كل حلقة إذن على تصوير جوانب التجربة التي نسميها عملًا في مستوى معين من الهرمية الوظيفية، بما يميز كل واحدة، ضمن بيئات مصغّرة ومنفصلة. يطرح هذا التقسيم أولى المشاكل التي تواجه العمل وتؤثر على كل ما يحاول قوله، فمع أن هذا الشكل من التقسيم قد يسهّل المهمة المتمثلة بصناعة سلسلة وثائقية صغيرة، ويسمح لها بضبط ما سيُعرَض بقصد صياغة مقولاتٍ ما، إلا أن تطبيقه يؤدي لنتائج مختلفة.

ينحصر العاملون في قطاعات التكنولوجيا والرعاية والاستضافة إذن. ويبدو اختيار هذه القطاعات مبررًا من الناحية الإحصائية، إذ تشير التقديرات إلى عمل ما قرابته 79.15% من الأمريكيين في القطاعات الخدمية، مقابل 19.18% في القطاع الصناعي و1.6% في الزراعة. إلا أن هذا النموذج الاقتصادي لم يأخذ شكله الحالي بالصدفة، بل مر بمنعطف نيوليبرالي أصاب الاقتصاد الأمريكي وسوق العمل، ولا تزال آثاره تصيب العاملين، سواء كانوا معرفيين أم لا.

ولأن تقدمة لسياقٍ بهذه الأهمية لا تحضر، تلتفت العين ربما إلى ما يظهر أمامها على الشاشة، مكتفيةً بالمرئي والمباشر، وهنا تصطدم السلسلة بثاني مطباتها. وُصِف تيركل في السابق بممارسٍ لـ«فن الحوار»، وربما تكون قدرته التحريرية أهم ما أعطاه هذا الوصف. فعندما يكون الواقع المصدر المباشر لتغذية منتج ثقافي ستظهر معادلة صعبة بحاجة توازن دقيق جدًا، توازن ينتبه إلى كل التفاصيل الصغيرة، والتي تعطي المنتج النهائي سمات كالمصداقية والأمانة، ويعمل في الوقت ذاته على تجاوز «الثرثرة» التي تشكّل جزءًا من أحاديثنا اليومية ومقاومة إغراء قبولها بحجة الأمانة، على اعتبار أن تقديم الحياة الواقعية يختلف عن مجرد تسجيلها.

لا يزخر العمل بمقتطفات أو لفتات مثيرة كالتي يمكن أن نجدها في الكتاب، ويستعيض عن ذلك بتفاصيل تعويضية لا تنجح في إضفاء المصداقية، كلقطات للعاملين حين يستيقظون في الصباح أو يدخلون أماكن عملهم، وهي لقطات مصطنعة دون حاجة للإيضاح حتى. ولما يحاول «العمل» الابتعاد عن العامل بوصفه ذاتًا فردية وينحو صوب تصوير العاملين سويةً في فترات استراحاتهم أو غير ذلك، فإن أحاديث هؤلاء تجري بإدراك كامل لوجود كاميرا في الغرفة، ما يضر بالشرط التوثيقي أحيانًا، ويقدّم اقتباسات من شاكلة «ربما علينا الإقلاع عن شراء الوجبات السريعة» تارةً أخرى، وتصبح بموجبها التعليقات عن ظروف العمل مجرّدة، باستثناء تفاصيل صغيرة، مما يمكن أن يثير مشاهدًا غريبًا عن هذه الأعمال أو يغني تصوراته عنها. وباستعراضٍ منقوص كهذا، يخاطر العمل باستعراض هذه الظروف بوصفها مجرد تفاصيل أخرى، ربما تكون تراجيدية، إلا أن صبغتها التراجيدية هذه تفضي إلى حالة من التسليم. 

أكثر من ذلك، يكوّن التقسيم بحسب المستوى الوظيفي عالمًا لا يتفاعل فيه من هم في الأعلى والأسفل إلا بأشكال شديدة النظافة والاحترافية أمام الكاميرا، ما يأتي على حساب الدقة في تصوير مكان العمل، ويفسح المجال لمقولات أخرى عن الإدارة الحسنة والمدراء التنفيذيين الطيبين.

فمع أن السلسلة تنجح أحيانًا في عرض أجزاء ملفتة للعمل في توصيل الطلبات أو تنظيف الغرف، إلا أن المسألة تتعدى هذه الأجزاء الصغيرة وتدفع بنا للتساؤل: ما هو هذا الكل الذي تحاول السلسلة تقديمه؟ ستكون الإجابة الأولى شديدة النظافة، ومستندة إلى قراءة معينة التاريخ.

ففي الحلقة الأولى، يشير أوباما إلى عاملة تنظيف سابقة في شركة كوداك، حين كانت الشركة توظّف هؤلاء العمال لديها ولا تستعين بطرفٍ ثالث. تنجح هذه الموظفة في الترقي لتصبح رئيسة قطاع التكنولوجيا اليوم في كوداك. يعترف أوباما أن هذه القصة لا تعني الكثير على الصعيد الإحصائي، إلا أنه -بصفته صوت السلسلة- يؤمن بأن العودة إلى ذلك الوقت ممكنة، وكأن النسبة المئوية المنخفضة للترقي هي المطلب الأعلى الذي يمكن الحلم به. وإذا ما سلّمنا بأن حدود الممكن تنتهي عند تلك النقطة فعلًا، فإن السؤال الآخر سيظل مهمًا: من سيعيد عقارب الساعة إلى الوراء؟

لن يكون العمال هم الفاعلون في هذه الإجابة. ففي ذات الحلقة، يستعيد أوباما شيئًا من الزمن الجميل، حين أقر الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أن أسبوع العمل سيمتد لأربعين ساعة فقط. ينسف الادعاء بشكله المطروح في العمل المطالب التي سبقت إعلان روزفلت وعلاقة المنظمات العمالية بالحزب الديموقراطي حينها، ليبدو الأمر مجرد حركة مدروسة من قيادة ذكية، لا يد لأي تحرك عمالي فيها.

وتُطرَح النقابات ضمن هذا الإطار، إذ تجني عاملة الفندق أجرًا مقبولًا بسبب جهود نقابتها، بينما تؤكد عاملة الهاتف في الفندق ذاته أن النقابة حالت دون استبدالها بآلة مثلما حدث مع غيرها، وقد يكون هذا الطرح الخجول أجرأ ما تقوله السلسلة، بعيدًا عن استعراض ظروف العمل المنهكة، خصيصًا في الحلقة الأولى.

فمع استمرار الحلقات (وتصاعد الطبقات التي تصورها هذه الحلقات) تتضح المشاكل الأبرز، كما في الحلقة الثالثة التي تغطي عمالًا مستقرين وميسوري الحال. في هذه الحلقة تظهر مفردة عمال المعرفة عدة مرات، لتذكرنا أنها تدل على الأمان والأعمال المرغوبة، مرسخة التناقض بينها وبين الأعمال الأخرى، ومتجاهلةً حقائق كمرور محظوظي اليوم هؤلاء بظروف مألوفة لمن سبقوهم، فضلًا عن وجود تفاوت يمكن ملاحظته بين عامل معرفي وآخر. إلا أن المشاركين لا يبلون بلاءً أحسن، وينحصر فهمهم لكل ما يجري بتمارين إدراك الامتيازات والاعتراف بها عدة مرات، رغم كل ما يمكن أن يقال عن هذا النمط من الاعتراف وإن كان يؤدي إلى أي مكان فعلًا. 

في الحلقة الرابعة، يتأكد المشاهد أن العمل لا يدرك كثيرًا من الحقائق عن النشاط الإنساني الذي ندعوه العمل، وتتضح أزمة الهوية فيه. إذ يمدنا أوباما باستعراض تاريخي يبدأ عند السبعينيات، مع ميلتون فريدمان وكلمته المشهورة عن الأرباح بوصفها المسؤولية الأولى لأي شركة، كدالٍ على روح ذلك العصر وتزايد التفاوت بين راتب أي موظف والمدير التنفيذي لشركته، على اعتبار أن الأخير هو المسؤول الأول عن جني الأرباح للمستثمرين. لكن بماذا يُتبَع ذلك؟ «ماذا لو سعى المدراء التنفيذيون وراء شيء آخر غير الربح؟» يعلّق أوباما، وكأن المشاكل البنيوية التي قدمها يمكن ربطها بأفرادٍ سيئين. ماذا لو عرف المدير التنفيذي أسماء كل العاملين لديه؟ وحرص -كما يفعل أوباما في السلسلة- على إيصال وجبات الطعام إليهم؟ من المرجح أن تحسنًا ما سيطرأ، إلا أنه سيكون غير مهم بالفعل. مع ذلك، تدعونا السلسلة، دون أن توضح من هم الـ«نحن»، لتخيّل طريقة أخرى، عالمٍ آخر بمدراء طيبين، يركبون الدراجات ويشربون في الصباح منتجات خضراء مفيدة، بينما يصرون على أهمية الأعمال الخيرية ويؤكدون في كل اجتماع على مفردات كالاستدامة والثبات والقدرة على التأقلم، رغم أن هذه الكلمات غالبًا ما تسبق «قرارات صعبة» كموجات التسريح مثلًا. 

يُختتم العمل باعترافٍ حقيقي بوجود مشكلة مقابل أمانٍ صادقة ودعوات للتفكير الجاد لن تجد من يصغي إليها، وغيابٍ لأي خريطة للأمام، محاكيًا ما قاله المفكر الأمريكي أدولف رييد عن الليبرالية بشكلها اليوم، حيث ينعدم الإيمان بالسياسة وتصبح مهمة الليبرالي محصورةً بلعب دور «الشاهد» على كل أشكال المعاناة، وإبداء بعض التضامن والإشارات، وهو دورٌ يمكن فهمه لو لم يكن المعلّق شخصية بحجم رئيسٍ أمريكي. 

أوباما راهنًا

يبدو أن حضور بعض الرؤساء الأمريكيين يتكرر مرتين، الأولى كرؤساء وشخصيات سياسية بالطبع والثانية كشخصيات فوق سياسية في عوالم الترفيه والخطابات. ففي السنوات القليلة الماضية، دخل جورج دبليو بوش عالم الفن التشكيلي، كشخصية لطيفة ومحببة لم تشهد رئاستها أي نزعات دموية على الإطلاق، وحضر بيل كلينتون كشخصية هامشية في فضيحة سام بانكمان فريد، إلا أن أوباما تفوق على سابقيه إذ وقع صفقةً مع شبكة نتفلكس عام 2018 لإنتاج مجموعة من الأعمال المتعلقة بالطبخ والديموقراطية والعرق والبيئة، وأنشأ شركة الإنتاج الخاصة به حتى. وتعدى هذا الاهتمام عالم المنصات، مع توقيع أوباما وزوجته ميشيل اتفاقيةً لنشر مذكراتهما مع بينجوين، وحضوره الدائم للتعليق على الأحداث أو الإعلان عن قائمة أغانية المفضلة كل عام. 

وبينما تبدو هذه الجهود في العموم كمحاولات لتلميع الصور أو اكتساب راهنية في عالمٍ متغيّر، ثمة ما يلفت النظر في هذه المحاولة بالتحديد، لما للموضوع من تقاطعات مع شخصية الراوي. في الحلقة الأولى، تسأل عاملة الرعاية الرئيس السابق عما إذا كان يحس بالسلام الداخلي. وبقدر ما يفتح السؤال أبوابًا شيقة عندما يُطرَح على شخصية بهذا الحجم، إلا أن الجواب يأتي فاترًا عندما يؤكد أوباما إنه يشعر بالسلام والقناعة على صعيد شخصي لكن أجيال المستقبل هم من يشعر بالقلق لأجلهم.

توضح هذه الإجابة الغيرية أن الرئيس السابق يحضر ككيانٍ منفصل عن السياسات التي شهدتها حقبته إذن، مهما بدت ذات صلة بالموضوع الذي تغطيه السلسلة. ففي الحلقة الثانية، يحاور أوباما مبرمجًا يبحث عن منزلٍ ليشتريه، مكتشفًا صعوبة امتلاك العاملين لمنزلٍ اليوم، رغم أن أزمة الرهن العقاري كانت حدثًا فارقًا خلال فترة رئاسته، التي عجز برنامجها لدعم ملاك المنازل عن حل المشكلة ووصفه البعض بأنه مصمم للفشل منذ اللحظة الأولى.

إن هذا التفاوت، بين أوباما كفردٍ معلّق اليوم وذاك الذي شغل البيت الأبيض لثمانية أعوام، يرخي بكل ثقله على العمل، ويخلق تشويشًا مع كل محاولة من الرئيس السابق، الذي ترك إرثًا «مختلطًا» فيما يخص العاملين والحركة العمالية في الولايات المتحدة، للتعليق على ضرورة حضور «الشغف» في عملنا، أو نفاذ صبر صغار اليوم ورغبتهم بتحقيق أثرٍ في العالم بشكل فوري. وباختصار، لن يكون من الصعب تصوّر نسخة أخرى من العمل دون رئيس سابق، بل إن هذا النسخة المتصورة ستبدو -نظريًا على الأقل- أدق وأقل ثقلًا، بل وربما أنجح في النظر إلى مسألة بهذا الحجم من خارج حدود الطيف الديموقراطي المحافظ المحدود.  

هواجس العمل

ربما يكون في عرض شبكة نتفلكس لهذا العمل في خضم إضرابٍ للكتاب (واحتمالٍ بانضمام الممثلين إليهم) مصادفة تستحق بعض التعمق. فمع أن هؤلاء يعملون في أعمالٍ إبداعية، بعيدة كل البعد عن المهام المتكررة الفيزيائية التي يقول العمل إنها المهددة اليوم، على عكس «العمل المعرفي»، فإن ظروفهم ليست جيدة بالحد الكافي لإكمال يومهم بالطريقة المعتادة، وهو شرطٌ لازم لنشوء أي إضراب عمالي. 

وهذه هي النقطة التي يمر العمل فوقها. فمع رسمه لهذا الخط الفاصل بين المهن الرابحة والخاسرة، يتبنى العمل مقولة أيديولوجية، تمحي مهنًا بمن يعملون فيها بينما تتجاهل أن المنظومة الحالية بدأت بالفعل بـ«بلترة» مجموعة العاملين الجدد،[1] فما الغاية من رسائل كهذه؟

على اعتبار أن الجمهور الأول الذي سيتلقى هذا العمل سيكون من الأمريكيين، ستفيد الإشارة إلى أن اثنين من أصل خمسة من هؤلاء يشعرون اليوم بالقلق حيال خسارة أعمالهم، بينما يبحث 70% منهم عن أعمالٍ إضافية لتغطية النفقات المتزايدة مع التضخم وتجمد الأجور.

يرخي التفاوت بين أوباما كفردٍ معلّق اليوم وذاك الذي شغل البيت الأبيض لثمانية أعوام بكل ثقله على العمل، عندما يحاول التعليق على ضرورة حضور «الشغف» في عملنا، أو نفاد صبر صغار اليوم ورغبتهم بتحقيق أثرٍ في العالم بشكل فوري.

ومع تمدد الخوف نحو عالم الياقات البيضاء والخشية من خطر الآلات هذه المرة، وضمن مناخٍ تسوده التكهنات بكل أشكالها، تلعب سلسلة كهذه دور المطمئن فيما تقوله، ما دامت المشكلة محصورة بمجموعة من الأفرادٍ الطماعين الذين يمكن حوارهم بلطف وإقناعهم باللهث وراء ما يفوق الأرباح سموًا، وببضعة أعمال رتيبة يمكن تركها والانصراف نحو سوق العمل الذي يتعامل بالأفكار.

ومع أن بعض المشاكل التي تعرضها السلسلة عالمية بالفعل، إلا أن الخصوصية الأمريكية تحضر أيضًا في هذه المشاكل، ابتداءً بالمناخ العدائي تجاه كل أشكال التنظيم العمالي وانتهاءً بظروف العمل، التي شهدت زيادةً في عدد ساعات العمل وانخفاضًا في معدل الأجور بعد أخذ أسعار المنتجات بعين الاعتبار. والواقع أن معطيات كهذه قد تساهم في تلقي ما يقوله العمل بطرقٍ مبتكرة، فيتقاطع التأكيد المستمر في السلسلة على ضرورة شغفنا بما نعمل مع ما تقوله ميا توكوميتسو في مقالتها «باسم الحب»، حين تشير إلى دور مقولاتٍ مثل «اشتغلوا بما تحبونه» في صرف النظر عن ظروف عملنا وإعادة صياغة العلاقة مع الوظيفة بوصفها خيارًا حرًا غير مرتبط بأي طبيعة استغلالية أو إجبارية. هكذا تحاول السلسلة بث جو من الطمأنينة، بالقليل من حب العمل والهدوء والإيمان بالحلم ونهضة الأمة التي حققت معجزة «الطبقة الوسطى»، كما تقول ثاني الحلقات على الأقل.

وبالعودة إلى حقائق بسيطة مثل التناقض الذي ذكرته عن نتفلكس وتوقيت عرضها، ربما يصح رسم توقعات معقولة عن نتاج المنصة وما سيقوله وأين ستنتهي حدوده بالعلاقة مع موضوعٍ حساس كهذا، ما يستبعد احتمال تحول نتفلكس إلى منصة للتوعية الجماهيرية. وهنا يمكن بمشاهدة أكثر استرخاءً الوقوف عند أهداف متواضعة، كمجرد إرضاء الفضول واكتشاف ما يفعله عاملون في مهن وقطاعات قد لا يعرف المشاهد عنها الكثير، إلا أن عودة بسيطة بالتاريخ تُذكّرنا أن مزيج الاستياء والقلق لعب دوره في صعود شخصية مثل دونالد ترامب الذي جاء بوعود عن إعادة الوظائف إلى الولايات المتحدة (وإن كانت مجرد وعود)، وبأن هذا المزيج الذي يخيم على العديد من دول العالم بإمكانه أن يؤدي إلى نتائج خطيرة ما لم تتوفر البدائل التي تحسن توظيفه وتنظيمه. ولسببٍ ما، فإن إعادة المشاهدة مع هذه المعطيات يضفي بعدًا تراجيديًا على سلسلة «العمل»، والأفق الضيق الذي يقدمه صوتها.

  • الهوامش

    [1] أي تحويلهم إلى بروليتاريا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية