كُرة وبحّارة وأعراس: أشياء صنعت متعب السقار

تصميم محمد شحادة.

كُرة وبحّارة وأعراس: أشياء صنعت متعب السقار

الخميس 07 أيلول 2023

كان موعد حصة الرياضيات، بالنسبة لمتعب وزملائه في مدرسته الأساسية بالرمثا، أشبه بتأهب لعقاب حتمي. فأستاذ الرياضيات كان معروفًا بصرامته الشديدة مع الطلبة، وباستخدامه أساليب قاسية لتأنيب المشاكسين الذين لا يأبهون بتأدية فروضهم المدرسية، أمثال متعب. إلا أن الشخصية الصارمة كانت تسقط عندما يدخل معلم الرياضيات إلى صف الفن الذي كان مدرّسه أيضًا، وهو أمر لم يكن مستغربًا في المدارس الحكومية. يدخل الأستاذ إلى الصف ويسأل الطلبة عن رغبة أحدهم في الغناء، يرفع مِتعب يده دومًا، ثم يقف أمام الطلبة باتزان مغنٍ ناضج، ويغني بشجاعة تُذهل زملاءه، بل ويشير أحيانًا إليهم ليتفاعلوا معه أكثر.

كان متعب الفتى حائرًا بإيجاد نفسه، لفترةٍ اعتقدَ أنه حارسٌ ماهرٌ لمرمى كرة القدم، فكرّس وقته للّعب مع أبناء جيله. وفي أحيانٍ أخرى قدم لزملائه عروضًا كوميدية لتقليد الشخصيات، هو الذي تمتع طوال حياته بشخصية كوميدية ساخرة. لكنه، في أغلب الأوقات، كان يُسمَع مدندنًا الأغاني، بمناسبة أو دون مناسبة. يذكر زميله في الصفوف الابتدائية ولاعب نادي الرمثا سابقًا، زيد الشرع، أن الطلاب انتبهوا لموهبة متعب عندما كانوا في الصف الرابع، أي وهو في التاسعة من عمره.

وُلد مِتعب عام 1966، وهو الابن العاشر لوالده، الذي كان يكبره بـ62 عامًا. أنجب الأب من زوجته الأولى خمسة أبناء، ومن الثانية، والدة متعب، سبعة. وكان تاجرًا للأقمشة والإسفنج ومستلزمات البيت. وكثيرًا ما كان زيد الشرع يمرّ من جانب محل والد متعب في السوق، فيجد الأخير منهمكًا في تصفح المجلات الرياضية، إذ كان مهووسًا بها، ولم تكن تُباع عند أحد آخر غيرهم آنذاك.

صورة لمتعب السقار طفلًا.

ورغم الفجوة العمرية بينهما، إلا أن متعب كثيرًا ما كان يجالس والده وضيوفه، ليغني لهم بطلب من الأب الذي كان يطرب لصوت ابنه. في بداياته، أحَبّ الغناء باللهجة العراقية كما يقول أخوه الأصغر علي. عمومًا، منذ السبعينيات وأهل الرمثا مأخوذونَ بالأغاني العراقية، التي كانت منتشرة بينهم بحكم وفرة أشرطة الكاسيت القادمة من العراق مع عودة سائقي سيارات الشحن إلى الرمثا. هكذا، وجد متعب نفسه في الأغاني العراقية وظل متأثرًا بها، إلى جانب الأغاني ذات الطابع البدوي، لما تمنحه من مساحات أوسع مما يفعل الغناء الفلاحي، بحسب الملحن الرمثاوي نصر الزعبي، الذي يرى أن متعب كان منجذبًا للغناء الحر غير المقترن بإيقاع، كالموال و«الفالت»، أما الأغاني الفلاحية فقليلًا ما ارتبطت بالموال لأنها أغانٍ إيقاعية مصاحبة للحركة كالدبكة والفلاحة والعجن وغيرها.

كبر مِتعب ونفر من المدرسة أكثر، فتركها وهو في سن الـ13 تقريبًا، ثم عمل معاونًا لزوج أخته وهو سائق شاحنة، ثم عمل في كراج للشاحنات، قبل أن يبدأ رحلته بالبحث عن جمهور آخر غير زملائه في المدرسة وضيوف أبيه.

الصوت النازل من «راس النبع» 

خلق وقوع الرمثا في قلب حوران مساحاتٍ كبيرة للاحتفال والأعراس الممتدة، كما يقول نصر الزعبي. في الماضي عملَ أهل الرمثا في الزراعة، القمح تحديدًا، أكثر من الحاضر، وفي حزيران عندما يحلّ موسم الحصاد، كانوا يبيعون إنتاجهم من القمح فيتوفّر لهم ما يكفي للزواج. وكانت الأعراس تستمر أيامًا من الاحتفالات المتواصلة، يُشبّهها الزعبي بساعات البث، حيث يملؤها أهل الرمثا بالمواد الغنائية الجماعية والدبكات وطقس الحناء وصناعة الكْباب الذي تشارك فيه نساء الحي والأقارب ليُعاونّ أصحاب العرس.

أتاحت هذه الأعراس فضاءً للصِبية للمشاركة في الغناء والدبكات الجماعية، وكان متعب قد بدأ أواخر السبعينيات تقديمَ فقرات غنائية منفردة في الأعراس، رغم أن ظاهرة المغني المنفرد لم تكن موجودة حينها، ولكنها بدأت تتسلل مع مشاركاته بالغناء في حفلات الحناء. في تلك الحفلات، غنى متعب أغاني تراثية كانت تُسمع في جلسات الجدّات وتجمعاتهنّ، من بينها مثلًا «يا مين يعينّا، ويا مين يعاونّا.. يا مين يردّ الحمل لا صار مايل»، وهي أغنية تغنيها النساء أثناء إعداد الكْباب نداءً لطلب المزيد من المساعدة، وقد طوّر متعب على لحنها وصار يغنيها في الأعراس.

تقول تركية البشابشة، جارة متعب قديمًا، ووالدة لاعب نادي الرمثا مصعب اللحام، إنها كثيرًا ما سمعته يغني أغاني تراثية لم يعاصرها، منها مثلًا: «يا شايلين مهرّب.. تعو درب اليادودة» في إشارة إلى تهريب البضائع بين الرمثا وسوريا، مؤكدة أن جيل متعب لم يعاصر تهريب البضائع عن طريق اليادودة السورية، إذ كانت جدتها قد أخبرتها بأن أهالي الرمثا، نساءً ورجالًا، كانوا يقطعون طريق اليادودة وصولًا إلى المزيريب لجلب البرتقال والبصل والبطيخ، وهي طريق لم يعد أبناء الرمثا يقطعونها منذ مدة طويلة: «تقولّي نهرب على الحمير، واللي غني شوية يهرب على الفرس. نكون ماشيين، نصير نغني ونرد على بعض، مشان ما يقضبوناش الحدود». وهي ممارسة تطورت وارتبطت فيما بعد بسائقي سيارات نقل الركاب أو البضائع من وإلى خارج الحدود، وتحديدًا مع سوريا، أو من يسمّون بـ«البحارة».

كان لدى متعب نزعة استكشافية وظفها في بحثه الملتزم عن التراث، كل من عاشره يعرف عن زياراته المتكررة لكبار السن، ليحصل منهم على كلمات الأغاني التراثية. يقول صديقه المقرّب خليل ذيابات إنه كثيرًا ما رافق متعب في رحلاته البحثية هذه، حتى إنه وأصدقاؤه كانوا كلّما سمعوا أغنية عن إحدى الجدّات الحافظات للتراث أخبروه عنها، وكان متعب بين العشرين وال 25 من عمره يحفظ كلمات هذه الأغاني دون أن يدونها، ثم صار يكتب ما يسمعه من الأغاني الشعبية التراثية.

يتذكر ابن أخته حسن السقار، أن متعب كان يوقظه صباحًا ليقود به إلى الرويشد والزرقاء وغيرها لتدوين التراث، قائلًا إنه اصطحبه لبيوت الشعر والأماكن البعيدة التي لم يتخيل زيارتها يومًا، وكان يحمل معه مسجلًا ليحفظ الألحان، ولما سأله مرة عن ذلك متعجبًا، ردّ عليه متعب أنه يريد الحصول على التراث من أصحابه، من «راس النبع». وفي بعض الأحيان كانت والدة حسن، أخت متعب التي تكبره بكثير، تطلب من ابنها أن يسجل بعض الأغاني التراثية بصوتها من أجل متعب. يقول حسن إن الأمر وصل به حدّ الذهاب أواخر التسعينيات إلى غرب سوريا ليحصل على أغانٍ شعبية.

متعب السقار في حفلات مختلفة.

بالتزامن مع بحثه المتزايد عن أغانٍ شعبية، سعى متعب أيضًا لتطوير بعض التقنيات؛ يتذكر صديقه ذيابات أنه اشترى مكبر صوت مكعبًا صغير الحجم، كانت سمّاعاته، ذات المدخل الواحد، مشهورة في الرمثا، يشبك فيها العود أولًا ويعزف المقطع الموسيقى الذي لا يصاحبه الغناء، ثم يُخرج سلك العود ويضعُ سلك الميكروفون ويغني.

وحتى أواخر الثمانينيات، ظلّ أهل الرمثا يستأجرون مكبرات صوتية للأفراح تشبه سماعات المساجد، ولأن صوتها لم يكن واضحًا، اشترى متعب مكبرات صوتية حديثة سنة 1987، ليغني في عرس أخته.

في أواسط الثمانينيات، اشتهر متعب في الرمثا كمغنٍ يتقاضى أجرًا من الأعراس، وكان يغني أنماط الهجيني والتراويد والأهازيج، وهي أنماط يصفها نصر الزعبي بأنها وإن غُنيت فرديًا إلا أنها تحمل طابعًا جماعيًا، يمكن للناس المشاركة فيها والغناء معها، وهذا ما كان يميز متعب عن غيره، كما يقول.

بدأت مسيرة متعب الشعبية بالنضوج بعد تأديته خدمة العلم منتصف الثمانينيات، غنى في رحلات شباب الجيش، وتبارز بجلساته مع موهوبين آخرين. بعدها أُتيحت له الفرصة للذهاب إلى مصر ليغني في حفلات النوادي العائلية، كما يقول أخوه علي، إلّا أنه لم يكن مرتاحًا للغربة، ليعود بعد أشهر قليلة إلى الأردن. يتضح لاحقَا أن متعب لم يحب السفر أساسًا، ولم يرغب يومًا بالمبيت خارج منزله، حتى بعد أن صار يشارك في حفلات بعيدة.

في الفترة نفسها شارك متعب بالغناء في عدّة فرق في الرمثا، وكان أحد مؤسسي فرقة الرمثا للفلكلور الشعبي الأردني. وفي سياق مختلف، فتح محلًا تجاريًا للألبسة النسائية أسماه «مراسيل»، كان جمع رأسماله من عمله في الأعراس وحفلات الحناء. 

عن غرفةٍ وسعت ناديًا

شكلت طبيعة الرمثا السهلية فرصة للعب كرة القدم أيضًا، وحتى قبل أن يصعد نادي الرمثا للدوري الممتاز عام 1977، كان أهل الرمثا شغوفين باللعبة بالفعل. أما متعب، الذي لم يكن لاعبًا ماهرًا، فكان متابعًا شرسًا، وأحد أوفى مشجعي النادي، إذ لم يفوّت منذ صباه مباراةٍ واحدة له، وكان يجاوره في الحي لاعبو المنتخب من جيله كخالد العقوري ومحمد الخزعلي. وكان أصدقاؤه أيضّا، ومن بينهم زيد الشرع، قد بدأوا الاحتراف في وقت مبكر.

من جهتهم، وجد لاعبو النادي بمرافقة متعب متنفسًا لهم، حتى إن مدربهم الاسكتلندي جورج بلوس (1981-1983)، كان كلما أراد البحث عنهم وجدهم في السهرة عند متعب، ولكن متعب أصبح يمنع اللاعبين من المجيء عنده قبل المباريات المهمة اقتناعًا بأوامر بلوس ليقدم أصدقاؤه أفضل أداءٍ ممكن.

وفي التسعينيات، كان متعب من أوائل من اشترى جهاز ستلايت في الرمثا، كان يسكن حينها مع أخيه ماجد في غرفة واحدة مستقلة عن باقي المنزل، لها باب على الشارع، وكان يضع مفتاح غرفته عند الحافة فوق الباب، حتى يدخل أصدقاؤه الغرفة لانتظاره أو مشاهدة المباريات في غيابه. وقد تحولت هذه الغرفة في كثيرٍ من الأوقات إلى تجمعّ شبابي يشبه استديو تحليلٍ رياضي بعد المباريات المفصلية للنادي.

غرفة متعب السقار في بيت أهله القديم.

غنى متعب لنادي الرمثا عدّة أغانٍ، وكانت تؤثر في اللاعبين إيجابيًا، أبرزها أغنية أنتجها عام 2012 بمرافقة مجموعةٍ من نجوم الرمثا، وسُجلت في المنزل مثل كثير من أغاني متعب والفنانين الرمثاويين، نظرًا لعدم وجود استوديوهات تسجيل في الرمثا. وكان متعب والفنانون الشباب يعلّمون الجمهور من رابطة مشجعي النادي هتافات تشجيعية. لقد كان اجتماع متعب بالناشطين في الرابطة قبل المباريات المفصلية، مشهدًا معتادًا لأهل الرمثا.

ورغم تشجيعه لنادي بلدته لكنه كان وحدويًا، فغنّى لنوادي الوحدات والفيصلي، وكثيرًا ما كان يغني للفائزين، ويشجع الأندية الأخرى على التقدّم، دون أن يُغضب هذا جمهور نادي الرمثا منه، فكما يقول مصعب اللحام، وهو من جيل اللاعبين المعاصرين: «متعب كان حالة استثنائية (..)، متعب غنى للوحدات، غنى للفيصلي، خذ راحتك، إنت استثناء».

وعلى غرار علاقته باللاعبين القدامى، حافظ متعب على صداقةٍ مع الأجيال الجديدة من اللاعبين، لكنها صداقة خالطتها الأبوة، فكان قبل كل مباراةٍ مهمة يجمع اللاعبين ليشجعهم ويغني من أجلهم، بحسب مصعب اللحام. وقد اعتادوا على مكالماته الدائمة قبل المباريات وبعدها؛ ليطمئن على نومهم وصحتهم الجسدية. يتذكر مصعب ضاحكًا مكالمات متعب الغاضبة بعد المباريات الخاسرة عندما كان يؤنبه قائلًا: «رفعتلي ضغطي يا مصعب، رفعتلي السكري يا ميسي، إلعب باس».

حب على هدير الشاحنات 

بعد عام ونصف من افتتاحه، أي أواخر الثمانينيات، فشل المحل التجاري «مراسيل» فأغلقه متعب، لكن خلال ذلك الوقت افتتح جلال البزلميط أمامه محلًا لبيع الأشرطة والسماعات. أصبح جلال صديقًا لمتعب، ونتج عن هذه الصداقة تسجيل مقاطع غنائية لمتعب دون مرافقة موسيقية، وأصبحت تُباع في الرمثا ويتداولها أصحاب الشاحنات بكثرة.

اعتادت إحدى فتيات الحارة الغربية، واسمها انتصار الزعبي، عند ذهابها إلى المدرسة في مرحلة التوجيهي، أن تمر بجانب الشاحنات المصطفة لتسخين محركاتها، وكانت تسمع غناءً يصدح كل صباح من مسجلات الشاحنات. ولمّا سألت يومًا عن صاحب الصوت، أخبروها بأنه شاب رمثاويّ يدعى متعب السقار، هكذا صارت تعرف متعب من صوته فقط.

مرّت الأيام، ثم حضرت انتصار حفلة زواج لأحد أقاربها، وكان متعب يغني في الحفل أمامها. دُهشت انتصار برؤيته وأُغرمت به، وعرفت بنات الحارة الغربية عن حبها فصرن يطلبن دائمًا من آبائهن أن يُغني متعب في الأعراس والمناسبات، حتى صار فيما بعد مغنيًا حصريًا للحارة لسنوات. وكان هو عندما رؤيتهنّ يغني لهن: «منهو عازمكن يا بنات الحارة؟»، فيأتيه الردّ منهن: «عازمنا متعب هالشب النوارة».

بادل متعب انتصار مشاعرها، لكنه لم يحظَ بموافقة والدته على الزواج منها، وقطعت عليه والدته أي أملٍ في المحاولة.

متعب السقار في شبابه.

صوت الرمثا على المنصة

بداية الثمانينيات، أُذيع برنامج استديو الفن للراحل رافع شاهين، وكان متابَعًا بشدةٍ بين الأردنيين، كان يجهّز معدّو البرنامج حلقةً للمواهب في الشمال، فسمعوا عن موهبة متعب واستضافوه في البرنامج بحسب ما يذكر معدّ البرنامج آنذاك، وأستاذ الموسيقى في جامعة اليرموك، محمد الغوانمة. قدّم متعب نفسه بكوميديةٍ يُخفي فيها بعض الخجل، ثم غنى بإتقانٍ أغنية عراقية، ولشدّة متابعة برنامج شاهين محليًا، فرِح به أبناء الرمثا وذاع صيته بينهم.

قد تكون تلك اللحظة الفنية الأكثر جرأة في صباه، فلم يتخيل متعب يومًا أن يصير فنانًا أو يظهر في التلفزيون. لكن الحظ حالفه مرّة أخرى، أواخر الثمانينيات، عندما عرض عليه نصر الزعبي أن يغني أغنية كتبها للإذاعة، فوافق متعب فورًا. وكان الزعبي قد قدم مؤلفات للإذاعة، لكنها قوبلت بالرفض لأنها تحمل طابعًا عاطفيًا، وهو يُفسر ذلك قائلًا: «وقتها واضح إنه ما كان في قبول لأي نص عاطفي، كان في رغبة لتقديم النصوص اللي بسموها الوطنية». فسجّل متعب والزعبي أغنية «سمرا وسمارك زين» في استديو خاص وعلى نفقته الخاصة، ثُم عُرضت على الإذاعة، وقبلتها عام 1992، كما حوّلتها إلى إنتاج مرئي تعويضًا لهم عن مجهودهم الشخصي.

رغم أن نائل البشابشة كان سبّاقًا بتمثيل الرمثا في التلفزيون عبر فرقة الرمثا للفنون الشعبية، إلا أن متعب كان أول رمثاويّ يقدم أغنيته الخاصة في التلفزيون، وكوّنت تلك اللحظة ارتباطًا عاطفيًا لدى أهل الرمثا تجاهه. فيما بعد قدم الزعبي لمتعب أغنية عاطفية بعنوان «يا حيف» ليُغنيها في احتفال رابطة الموسيقيين عام 1994، فحصل متعب على جائزة الحفل. وفي الفترة نفسها غنى «وصل سلامي» في التلفزيون احتفالاً بعودة الملك حسين من رحلة علاجية.

بعد استلام الملك عبدالله سلطاته الدستورية، وبطلب من رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة، كتب الشاعر حبيب الزيودي أغنية للملك بعنوان «هلا يا عين أبونا»، وغنّاها متعب، ليحظى بشهرة واسعة على مستوى الأردن بعدما حققت الأغنية انتشارًا واسعًا. تميّز متعب بهذا اللون الغنائي الذي قُدم بكثرة على التلفزيون، إذ قدم أغانٍ أخرى لاقت رواجًا مثل «أردنيين وما ننظام»، و«على المنصة»، وغيرها.

لاحقًا، غنى متعب في مناسبات شعبية ورياضية باللهجة الرمثاوية، ولم يمكن دارجًا أن تُسمع في التلفزيون، ومنها ما لاقى انتشارًا واسعًا، مثل أغنيته لنادي الفيصلي: «لِدْ لِد تشيف (كيف) انّه، تشيف أخذ الطابة منه».

حتى بعد أن ذاع صيت متعب على مستوى الأردن، ظل ذلك المغني الشعبي الذي يغني الأهازيج في ليالي الحناء والأعراس، دون التطرق فيها للأغاني الإذاعية أو المسجلة بأنواعها. ورغم ازدياد ظهوره على الشاشة إلا أنه في الوقت نفسه انتسب إلى كورال فرقة إربد للموسيقى العربية بقيادة محمد الغوانمة نهاية التسعينيات، وغنى فيها منفردًا فيما بعد، وسافر معها إلى عددٍ من المهرجانات الخارجية. يقول الغوانمة إن متعب، رغم صدور أغانٍ خاصة باسمه، إلا أنه كان جادًا في حضوره تدريبات الفرقة منذ كان في الكورال.

عكس متعب شخصيته الكوميدية في بعض أغانيه، فغنى أغانٍ عربية عاطفية بأسلوب الدّحّية كما فعل بأغنية «كل مرة» لتامر حسني. في إحدى المرات، غنى أغنيةً تراثية ذات طابع ساخر تقول «عبدالقادر قوم صلّي، ماني قادر.. عبدالقادر قوم اتجوز، هسة قادر»، إلا أنه واجه انتقادات شديدة من بعض شيوخ الدين في الرمثا، بعد أن لاقت انتشارًا واسعًا، فأعاد متعب إنتاجها مستبدلًا كلمة «صلّي» بـ«ذرّي» لتصير أكثر قبولًا عند الجميع.

فيما بعد وجد متعب نفسه مبتعدًا عن الأنماط الغنائية التي ابتدأت شهرته فيها، فصار ينتج على نفقته الخاصة أغانٍ تحمل موقفًا أو رسالةً ما، حتى وصل به الأمر لانتقاد مجلس الأمة عبر أغنية «بيعوا مجلس الأمة وريحونا من مصروفه»، وانتقد الفساد بعدّة أغانٍ منها موّال «وبتسأليني يا بلد» و«دخلو»، وغيرها.

كما غنى لفلسطين وأبنائها، حتى إنه مُنع عام 2018 من دخول الأراضي الفلسطينية، بعد أغنيته «لهون وبس» التي يقول فيها: «شعب فلسطين، خلي إيدك خليها، على هالرشاش إوعى إيدك ترخيها»، فأوقف على الحدود ومنع من الدخول لإحياء أحد الأعراس، إذ اعتبر الاحتلال الأغنية «عملًا تحريضيًا». وفي مرة لاحقة سُمح لفرقته بالدخول فيما مُنع هو من ذلك، حينها بكى متعب من عجزه الدخول، لكنه غنى في العرس نفسه عبر الهاتف.

الرمثا تردّ الجميل

عزف متعب عن الزواج حتى بلغ 34 عامًا، بسبب رفض والدته تزويجه من انتصار، ولأنه كان يحب والدته كثيرًا لم يستطع معارضتها. في الأثناء، صار متعب صديقًا مقربًا لشقيق انتصار، الذي كان قبل الصداقة قد قال لها بأن تفقد الأمل من الزواج بمتعب. لكن، بعد وفاة والدة متعب أواخر التسعينيات، أخبرت انتصار أخاها بأنها ما تزال تريد الزواج من متعب، فخضع لرغبتها لمحبته لصديقه. وبعد محاولات عديدة لإقناع العائلة الكبيرة لانتصار، تزوجت متعب أخيرًا عام 2000، وأنجبا لاحقًا أربع بنات، هنّ شهد وغالية وبيسان وفرح.

من حفل خطوبة متعب وانتصار.

تفاجأت انتصار، بعد زواجها من متعب، بشخصية غريبة وفريدة، فقد اجتمعت فيه كثير من التناقضات؛ خجول وجريء في آن، سريع الغضب وسهل الإرضاء، ساخر وحساس في الوقت نفسه. كل من عمل معه يعلم أن حالةً من التوتر لازمته قبل كل حفلة يؤديها، رغم نضج قدراته الفنية. وكانت شخصيته الضحوكة تتحول إلى شخصية صارمة أثناء التدريبات والبروفات، فهو لم يعتمد على موهبته وحدها بل قضى معظم أوقاته في مكتبه يلحن ويكتب ويتعلّم المقامات الموسيقية والعزف وغيرها.

متعب وانتصار مع ابنتيهما شهد وغالية.

بعد زواجه قرر أبو شهد، كما صار يُعرف، ألا يتقاضى أجرًا على حفلات الحناء التي يغنيها في الرمثا، معتبرًا أنها «نقوط» لأبناء بلدته. وبعد عام تعيّن في جامعة العلوم والتكنولوجيا القريبة من منزله، كمساعد مشرف في قسم الموسيقى في عمادة شؤون الطلبة، وقد أحب وظيفته وكان ملتزمًا بها إلى جانب غنائه في الأعراس والمناسبات الوطنية وتأديته للأغاني التي ينتجها الديوان الملكي.

وقد فرض متعب شخصيته الحازمة بالأعراس، فعُرف عنه رفضه الغناء في حفلات الحناء إذا كانت والدة العريس متوفية، وكان يقول إن «فرحة العرس للأم»، بالضرورة فإن كلمات الأغاني الخاصة بالحناء تخاطب والدة العريس. كما عُرف عنه رفضه إطلاق العيارات النارية في الحفلات، وقد ترك عدّة حفلات لم تلتزم بهذا الشرط، وهو إذا غادر أي حفل فإنه لا يقبل العودة إطلاقًا.

يعتقد مصعب اللحام، لاعب نادي الرمثا والمقرب من متعب، أن مبادئه غيرت من عادات جمهوره الذي صار يحترم رغباته، وأنه ساهم في استبدال إطلاق النار في كثير من أعراس الرمثا بالألعاب النارية. ويقال إن متعب كان يفرض شيئًا من التنظيم في الأعراس، فيدعو الحضور لساحة الدبكة، وينزعج من بقاء الساحة ممتلئة بغير الدبّيكة، فكان يفرض عليهم إما المشاركة بالدبكة أو إخلائها.

بعد أن صار والدًا، برزت الأبوة في شخصية متعب حتى في علاقته مع الناس، فصار يستخدم فنه أحيانًا لتوجيه النصح لمجتمعه في بعض المواقف الاجتماعية، فغنى توجيهاتٍ للناس ليحتاطوا من فيروس كورونا، كما غنى منتقدًا التصويت في الانتخابات النيابية لمرشحين غير كفؤين.

في 2018 تعاطف متعب مع احتجاجات قام بها البحارة الرمثاويون على إثر تدهور تجارتهم جرّاء الإغلاقات الحدودية المتكررة بسبب الأزمة السورية، فغنى بداية الأزمة «شرّق وغرّب، ليش يفتشونا، ما معنا مهرّب» إشارة إلى ساعات التفتيش الطويلة التي يقضيها البحارة على حدود جابر. وبالتزامن مع الاحتجاجات في الرمثا عام 2019، كان متعب، بحسب انتصار، في إحدى الحفلات الخاصة التي تُبث مباشرةً على فيسبوك، فطلب البحارة من متعب أن يغني شيئًا من أجلهم، فكانت استجابته أن استخدم إحدى أغاني الغزل التي كان يغنيها ويقول فيها: «لانزل مع البحارة، وانقّي الزين الزين.. واتباهى فيك يا (فلان)، مثل الكحل بالعين»، وحوّلها إلى أغنية سياسية: «لانزل مع البحارة واهرّب إليجانس.. سبع سنين وقعدنا، ما أعطيتونا ولا فلس».

بدأت اللحظات الصعبة في حياة متعب عندما تدهورت حالته الصحية بشكلٍ متسارع؛ فعدا عن إصابته بالسكري منذ شبابه، أصيب بالنُّقرس قبل وفاته بخمس سنوات تقريبًا، ولم يكن ملتزمًا يومًا بحمية صحية مثلما كان ملتزمًا بالغناء، فصارت مشيته أصعب، ولكنه ظلّ يقدم حفلاته جالسًا أو متكئًا على أحد من فرقته.

بحلول العام 2020 صار يقضي أيامًا طويلة في المستشفى بعد أن أصابه فشل كلوي، وكان يخرج منه إلى الحفلات ثم يعود إليه. وعندما لم يعد يستطيع المغادرة، صار يقوم بواجبه تجاه أهل بلدته بما هو متاح له؛ قبل وفاته بشهر ونصف، عندما علم وهو على سرير العلاج، أن أم مصعب اللحام ستزوّج ابنها حمزة، أرسل لها مقطعًا صوتيًا عبر واتساب يهنئها ويغني لها رغم تعبه. وقد ظلّ حتى اللحظة الأخيرة يتابع المباريات عن طريق الهاتف، حتى إن زوجته شاهدت أحد الفنانين الشباب الملازمين له في مرضه، يحمل في إحدى المرات هاتفه على مستوى نظر متعب مدة مباراة كاملة.

بعد وفاته في نيسان عام 2021، جاءت لحظة افتقد فيها أهل الرمثا متعب أكثر من أي مرّة أخرى؛ لحظة فوز نادي الرمثا، أواخر العام نفسه، ببطولة دوري المحترفين لكرة القدم، بعد انتظار دام أربعين عامًا. غصة أصابت كل من عرف متعب. يقول اللحام، أحد أبطال هذا الفوز: «أنا اللي حزّت ببالي إنه لما أخذنا الكأس، متعب ما كانش موجود». لم يحتفل متعب بالكأس مع بقية أهل الرمثا، لكن أصدقاءه لم يغفلوا عن تحقيق حلمه؛ أخذوا الكأس إلى قبره، واحتفلوا معه رغم الغياب.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية