كان عام 1816، العام الذي زار فيه المخلوق المرعب أول ضحاياه، عامًا بلا صيف (1). في جبال الألب السويسرية اجتمع الشاعر لورد بايرون ورفيقه الطبيب جون ويليام بوليدوري والشاعر بيرسي شيلي، مع ماري وولستونكرافت غودوين، التي ستصبح لاحقًا «ماري شيلي»، مؤلفة «فرانكنشتاين: أو بروميثيوس هذا العصر».
في الأيام التي قضاها هؤلاء الأربعة، وقعت بين أيديهم مجموعة من قصص الأشباح المترجمة من الألمانية إلى الفرنسية، وقادتهم ليجروا مسابقة لكتابة قصة أشباح بأنفسهم، وتأخرت ماري في كتابة قصتها، وأخذت تفكر بها فيما تستمع لنقاشات لورد بايرون وبيرسي شيلي عن الفلسفة وخصوصًا مسألة طبيعة ومنشأ الحياة. وفي إحدى الليالي، وبعد تأثرها بالأحاديث التي سمعتها عن التجارب الساعية لمعرفة كيفية بعث الحياة في الأعضاء الميتة، أخذت تتخيل «تلميذًا لفنونٍ سوداء ملعونة يركع إلى جوار الشيء الذي جمع أجزاءه»، وبعد أن تخيفه فكرة العبث بعمل الكون وآلياته المقدسة يسقط صريع النوم، وحين يفتح عينيه يرى الوحش «يزيح الستائر ويرمقه بعينين صفراوين دامعتين» كما تقول ماري في مقدمتها للطبعة الثالثة من الرواية، أول طبعة تحمل اسمها، «وفتحتُ عينيّ عندها في رعب».
أمل الحياة حاملًا الموت
ظهرت الطبعة الأولى من هذه الرواية عام 1818 بدون توقيع، واليوم بعد 200 عام على صدورها، ما زالت حاضرة في الضمير الأدبي الأوربي والعالمي، لِما تحمله من دلالات ومعانٍ تتجاوز كونها قصة رعب متقنة الصنعة.
رأت قصة فرانكنشتاين النور بعد الثورة الفرنسية بعقدين، في الوقت الذي شغلت الذاكرة وحشية الأعمال الانتقامية التي ارتكبت باسم الثورة دون تغييرات عميقة تطغى عليها، إضافة لوصول نابليون بونابرت إلى الحكم إثر انقلابه العسكري عام 1799. «ليلة كئيبة من نوفمبر»، كما تقول شيلي في بداية الفصل الخامس من الرواية، الذي يشهد ولادة الوحش.
فيكتور فرانكنشتاين، كانت لديه توقعات مرتفعة لنتيجة عمله، وكان يأمل أن تقدم المعجزة التي ستتحقق مبررًا لأفعاله الشنيعة
أحداث الرواية تبنى على جوانب واقعية إلى حد ما، منها الحماسة العلمية التي كانت موجودة فعلًا حينها لاكتشاف كيفية منح الحياة للأعضاء أو الأشياء الميتة، مثل تلك الحاصلة في جامعة إنجلوشتادت التي يدرس فيها فيكتور فرانكنشتاين، الطبيب الذي يصنع وحشه، والمعروفة بتجاربها المتطرفة التي أدت لإغلاقها عام 1800. (لهذا ربما تجري أحداث الرواية في القرن الثامن عشر، القرن السابق على القرن الذي كتبت في بدايته).
فيكتور فرانكنشتاين، كما هو الشعب الفرنسي، كانت لديه توقعات مرتفعة لنتيجة عمله، وكان يأمل أن تقدم المعجزة التي ستتحقق مبررًا لأفعاله الشنيعة، ولكنه بعد الانتهاء من عمله، عجز عن تقبل بشاعة النتيجة، بل حتى عن التخلص منها وقتل الكائن القبيح الذي صنعه، ببساطة لأنه صنعه أقوى وأضخم منه، حاكمًا على نفسه بالعجز عن التحكم به أو هزيمته.
من ناحية أخرى كانت شيلي تعبر عبر مشاعر هذا الكائن القبيح، الذي ندعوه أحيانًا عبر الخطأ فرانكنشتاين باسم صانعه، أو «فرانكشتاين» في عالمنا العربي، عن رفضها التقسيمات الطبقية للمجتمعات الأوروبية. ليس ذلك الموقف غريبًا، فشيلي التي كانت تبلغ 21 عامًا عندما صدرت الرواية، هي ابنة الفيلسوف ويليام غودوين أحد أوائل دعاة الأناركية (أو اللاسلطوية)، والفيلسوفة ماري وولستونكرافت، المناصرة المبكرة لحقوق المرأة وصاحبة الرأي القائل بأن قلة تعليم النساء هي مصدر الفرق بينهن وبين الرجال، وليس الطبيعة.
هذا الكائن المشوه الذي لا يشبه شيئًا، بعد نفور صانعه منه، ومثله بقية البشر، قام بعكس ما كان مفترضًا به أن يمثله. فقد كان محاولة لبعث الحياة في الموتى، وإذ به يسلب حياة الآخرين، بدءًا بويليام الأخ الأصغر لفرانكنشتاين، وخادمته جوستين، ومن ثم صديقه المقرب كليرفال وأخيرًا عروسه إليزابيث.
«لم يكن أمامي خيار سوى تكييف طبيعتي مع عنصر جديد اخترته بإرادتي: أن أواصل انتقامي». وتصل أعماله الانتقامية أخيرًا إلى التسبب بموت صانعه، في حدث يمكن فهمه كإشارة لطبقة النبلاء الفرنسية، التي تسببت بأحوال الطبقات الأكثر فقرًا عبر امتيازاتها المبالغ بها، ليرتد الأمر عليها في ما بات يعرف باسم «عصر الإرهاب» الذي أدى لإعدام أكثر من 40 ألف شخص. هذا العنف لا يسعى لتحقيق تغيير بقدر ما هو تعبير عن غضب وانتقام ممن تسببوا به، «مشاعري كانت مشاعر غضب قمينة بأن تجعلني -بكل سرور- أهدم الكوخ على من فيه بينما يطربني صوت صراخهم».
سردية الأشلاء الفائضة
منذ نشرها للمرة الأولى تم اقتباس هذه الرواية مئات المرات، من بينها 47 فيلمًا على الأقل (بعضها كوميدي!)، بحسب موقع قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت (IMDB).
في الأدب العربي، رواية «فرانكشتاين في بغداد» للروائي العراقي أحمد سعداوي هي من أبرز اقتباسات هذه الرواية، خصوصًا بعد فوزها بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) سنة 2014.
تعتبر هذه الرواية بشكل أو بآخر إعادة كتابة لرواية شيلي الأصلية، بعد أقلمتها مع الظروف العراقية إثر الغزو الأمريكي، ولكن الوحش الخاص ببغداد، الذي يحمل اسم «الشسمه» أو «الذي لا اسم له»، لم يصنع بجهودٍ علمية، إنما من نوايا طيبة لرجل عراقي يجمع الأشلاء المنفصلة عن أجساد ضحايا التفجيرات الإرهابية، سعيًا منه لدفنها كجثة كاملة تكريمًا لهم.
تدب الحياة في هذا الخليط من الأعضاء البشرية، بعد تفجير استهدف فندقًا وتاهت روح حارسه الليلي، لتجد جسدًا فارغًا بلا روح وتسكنه، وتجد فيه امرأة ما زالت تنتظر عودة ابنها الذي فقدته في الحرب العراقية الإيرانية عزاءً لها.
تشترك هذه الرواية بالكثير مع الرواية الأصلية، مثل قتل المسخ لضحاياه خنقًا، وإيراد تقرير «سري للغاية» في بداية الرواية يمهد للحكاية، التي يفترض أنها وجدت مكتوبة في «دائرة المتابعة والتعقيب»، كما هي الحال مع رسائل روبرت والتون لأخته في رواية فرانكنشتاين.
في المقابل، فالظرف التاريخي الذي يعالجه الاقتباس العراقي لرواية شيلي مختلف تمامًا، ففي حين جاءت الثورة الفرنسية كمحاولة للتغيير من شرائح اجتماعية واسعة، فرضت الحروب الثلاثة التي أرهقت العراقيين عليهم خارج إرادتهم.
منذ نشرها للمرة الأولى تم اقتباس هذه الرواية مئات المرات، من بينها 47 فيلمًا على الأقل (بعضها كوميدي!)، بحسب موقع قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت
هذا الاختلاف ينعكس على سلوك المسخ العراقي المغاير للمسخ الإنجليزي، ففي حين كان الأخير يرتكب جرائم دنيئة نابعة من شعور بالنبذ والوحدة والحقد على صانعه، نجد نظيره العراقي يلاقي قبولًا بين أبناء حيه، ويقوم بالانتقام وتحقيق العدالة للضحايا.
تعرضت رواية سعداوي لكثير من الانتقادات عربيًا، من بينها قراء اعتبروها لا تستحق الفوز بنفس الجائزة التي فازت بها رواية «عزازيل»، خصوصًا أنها تشترك مع الكثير من روايات الحروب العربية في وجود هامش واسع على حساب الخط القصصي الأصلي، ينقل كربونيًا الكثير من تفاصيل الحياة العراقية أثناء الحرب.
ولكنها في المقابل لاقت قبولًا كبيرًا في الغرب أدى في النهاية إلى ترشيحها لجائزة المان بوكر البريطانية لهذا العام عن فئة الروايات المترجمة، مستفيدة ربما من استخدامها رمز معتاد غربيًا للتعبير عن المأساة العراقية، واكتسابها بعدًا أكثر عالمية بسبب التوافق الذي تحمله مع رواية حاضرة في الوعي الأدبي العالمي بشدة مثل فرانكنشتاين.
مرايا نفوسنا العربية المعاصرة
العمل الثاني الذي يقتبس هذا العمل، أو يبني عليه، هو كتاب «مرايا فرانكنشتاين» للشاعر اللبناني عباس بيضون، الذي يتألف من 11 نصًا نثريًا يتحدث فيها الشاعر المعروف عن عدة مراحل من حياته، ولكنها أكثر عشوائية من أن نسميها مذكرات.
يأتي عنوان الكتاب من ثاني نصوص الكتاب ذي العنوان «صوتي لا يشبهني»، والذي يقول فيه «لقد كنت في الواقع فرانكنشتاين نفسي ورعبها الخاص»، ولكن الكتاب يتجاوز في تقاطعاته مع رواية ماري شيلي هذا المقطع، وهي تقاطعات مع رمزية الرواية وتعبيرها عن الواقع من خلف ستار الخيال أكثر مما هي مع الجوانب السردية من الحكاية.
يتحدث بيضون في هذا الكتاب عن الخليط العجيب التي تكونت منه شخصيته، ومن خلفها شخصيات أبناء جيله الذين عاصروا التغيرات الكبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، فلهجته «لهجة عجيبة فيها من المصري والفلسطيني واللبناني ساحلًا وريفًا، وفيها أيضًا من نشرات الأخبار والاغاني وفيها أصوات مفخمة وغير مفخمة لا أعرف مصدرها».
من أبرز التغيرات التي أصابت المجتمعات العربية، الشامية خصوصًا، في تلك الفترة هي الهجرات الواسعة، سواء الفلسطينيون الذين اندمجوا -أو منعوا من ذلك- في مجتمعات عربية شتى، أو أهل الأرياف إثر الظروف الاقتصادية والمناخية المختلفة، وبالطبع الهجرات الداخلية المرتبطة بالصراعات الأهلية، خصوصًا الحرب الأهلية اللبنانية والاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان.
يتكلم بيضون عن هذه الهجرات من خلال تجربة انتقال عائلته إلى مدينة صور وهو بسن التاسعة، وكيف وجد صعوبة في الاندماج وإخفاء سلوكه القروي «البري» في مدينة ذات سياق اجتماعي مختلف، «كنتُ أدلّي رجلي على جانب الكنبة في حضور أي كان بدون أن يخطر لي أني أسيء التصرف. أقول للشيخ عبد الوهاب الذي حمل نفسه من بيته إن والدي نائم بدون أن أعرف أن علي أن أفتح له الصالون وأنادي والدي. كنتُ بريًّا تمامًا واحتجتُ إلى وقتٍ طويل لكي أتدرب على اللياقات الاجتماعية».
تغييرات أخرى فرضت نفسها على جيل بيضون تبرز في هذا الكتاب، من بينها التأثر بالغرب دون الاحتكاك به فعليًا، أو مغادرة الشرق الذي جاؤوا منه، «هذا هو الغرب الذي صرناه بدون أن نغادر أحياءنا ومدننا وضيعنا أحيانًا»، وما يترتب على هذا التأثر من تناقض بين الأفكار الجديدة والسلوكيات التي ما زالت مقيدة بالمجتمع الذي يحيون فيه، «باختصار، كنا نتحدث عن المتعة والحرية ولا نفعل شيئًا».
التشابهات السردية بين كتاب بيضون ورواية شيلي قليلة أو نادرة، ولكن هناك ذروتان تتقاطعان بين الكتابين، حيث نرى في رواية شيلي مشهد طرد العائلة التي كان يراقبها الوحش لوقتٍ طويل ويقرر أن يحاول مصادقتها أخيرًا، وفي كتاب بيضون طرد مجموعة من الأصدقاء له بسبب انزعاجهم من وجوده الصامت بينهم دون أن يتكلم أو يشاركهم الأحاديث، «بعد وقتٍ طويل قال لي زاهر في لحظة توتر إنهم تركوني أقرع الباب ولم يفتحوا. كان هذا شرًا لا يطاق».
هذا الرفض القائم على الطبيعة المغايرة لا أكثر، يذكرنا برفض الآخرين وهروبهم من الوحش في رواية شيلي قبل أن يقدم على أي فعل، أو حتى حين يكون فعله نبيلًا، مثل محاولة مصادقة العائلة التي كان يساعدها سرًا سابقًا في جمع الحطب.
بعد 200 عام على رواية شيلي، وأكثر من ذلك على الثورة الفرنسية، تغيب النقاشات السياسية المباشرة حول التغيير السياسي والاجتماعي الذي بدأ يجتاح أوروبا في ذلك الحين، ولكن تبقى رواية شيلي، حاملة المشاعر الإنسانية داخل رداءٍ من الخيال، مثبتة أن الأدب من أرقى أساليب التعبير عن دخيلة الإنسان، وأقدر على البقاء في الضمير الإنساني لننظر من خلاله مجددًا إلى مشاهد الحاضر المكرورة عن الماضي السحيق.
-
الهامش
[1] يعرف عام 1816 باسم «عام بلا صيف»، حيث أدت ظروف مناخية مختلفة في هذا العام إلى صيفٍ بارد في النصف الشمالية من كوكب الأرض، خصوصًا بسبب النشاط البركاني في جبل تامبورا في إندونيسيا والذي بلغ ذروته في 10 أبريل 1815.