عن المحاكمة الباطلة لجوليان أسانج

الخميس 11 تشرين الثاني 2021
جدارية لجوليان أسانج في مدينة ملبورن الأسترالية. تصوير ويليام ويست. أ ف ب

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في موقع «كونسورتيوم نيوز» في 1 تشرين الثاني 2021.

عندما رأيت جوليان أسانج لأول مرة في سجن بِلمارش [قرب لندن] في عام 2019، بعد وقت قصير من اقتياده من ملجأه في السفارة الإكوادورية، قال: «أعتقد أنني أفقد عقلي». كان هزيلًا وضامرًا، وعيناه جوفاء، ونحافة ذراعيه بارزة من قطعة القماش الصفراء المربوطة حول ذراعه اليسرى، كرمز يذكّر بالسيطرة المؤسسية.

طوال فترة زيارتي باستثناء ساعتين، احتُجز جوليان في زنزانة انفرادية في جناح يُعرف باسم «الرعاية الصحية»، وهو اسم يذكّر بروايات جورج أورويل. في الزنزانة المجاورة له، صرخ رجل مضطرب بشدة طوال الليل، وعانى نزيل آخر من سرطان عضال، وكان هناك آخر ذو إعاقة شديدة.

قال: «في يوم من الأيام سُمح لنا بلعب لعبة المونوبولي كعلاج نفسي. كانت تلك رعايتنا الصحية!».

قلت: «هذا شبيه بفيلم أحدهم طار فوق عش الوقواق».

قال: «نعم، لكن أكثر جنونًا».

حس جوليان الأسود الفكاهي كثيرًا ما أنقذه، ولكن ليس بعد اليوم. كان للتعذيب اللئيم الذي عانى منه في بلمارش آثارٌ مدمرة. قراءة تقارير نيلز ميلزر، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالتعذيب، والآراء السريرية لمايكل كوبلمان، الأستاذ الفخري للطب النفسي العصبي في كينجز كوليدج في لندن، والدكتور كوينتين ديلي، تثير الاحتقار تجاه المحامي جيمس لويس، القاتل المأجور الذي وضعته أمريكا في المحكمة، والذي وصف حالة أسانج بأنها «تمارُض».

لقد تأثرت بشكل خاص بالكلمات الخبيرة للدكتورة كيت همفري، أخصائية علم النفس العصبي السريري في إمبريال كوليدج في لندن، إذ أخبرت المحكمة الجنائية المركزية في إنجلترا وويلز [المعروفة بأولد بيلي نسبة للشارع الذي تقع فيه] العام الماضي أن ذكاء جوليان قد انتقل من «فائق، أو على الأرجح فائق جدًا» إلى «أقل بكثير» من هذا المستوى، إلى درجة أنه يصعب عليه استيعاب المعلومات، وأن «أداءه الذهني في النطاق المنخفض إلى المتوسط​». وفي جلسة محكمة أخرى ضمن هذه الدراما الكافكاوية المخزية، شاهدته يعاني ليتذكر اسمه عندما طلب منه القاضي ذكره.

كان محبوسًا في معظم سنته الأولى في بلمارش، محرومًا من ممارسة الرياضة المناسبة، يسير على طول زنزانته الصغيرة، ذهابًا وإيابًا، ذهابًا وإيابًا، من أجل «نصف الماراثون الخاص بي»، كما قال لي، في موقف تفوح منه رائحة اليأس. عُثر على شفرة حلاقة في زنزانته. كتب «رسائل وداع»، واتصل مرارًا بمؤسسة السامريين [التي تعمل على مكافحة الانتحار].

في البداية، حُرم من نظارات القراءة التي تركها خلال اختطافه الوحشي من السفارة. عندما وصلت النظارات أخيرًا إلى السجن، لم تُسلم له لعدة أيام. كتب محاميه، غاريث بيرس، رسالة تلو الأخرى إلى حاكم السجن احتجاجًا على حجب الوثائق القانونية، ومنعه من الوصول إلى مكتبة السجن، ومن استخدام جهاز كمبيوتر محمول ضروري لإعداد قضيته. استغرقت ردود السجن أسابيع، وحتى شهورًا. (ومُنح حاكم السجن، روب ديفيس، وسام الإمبراطورية البريطانية).

في الولايات المتحدة، لطالما دعت شخصيات عامة، بما في ذلك هيلاري كلينتون، لاغتيال جوليان. كما أدانه الرئيس الحالي جو بايدن ووصفه بأنه «إرهابي عالي التقنية»

أُعيدت الكتب التي أرسلها إليه صديقه، الصحفي تشارلز غلاس، الذي كان أحد الناجين من احتجاز الرهائن في بيروت. لم يستطع جوليان الاتصال بمحامييه الأمريكيين. منذ البداية، أعطي أدوية باستمرار. ذات مرة، عندما سألته عما يعطونه إياه، لم يقدر على الإجابة.

في جلسة المحكمة العليا التي عقدت الأسبوع الماضي، لتقرير ما إذا كان سيتم تسليمه إلى أمريكا أم لا، ظهر جوليان لفترة وجيزة فقط عبر اتصال فيديو في اليوم الأول. بدا مريضًا وغير مستقر. قيل للمحكمة إنه «سمح له بالمغادرة» بسبب «دوائه». لكن جوليان طلب حضور الجلسة ومُنع، بحسب ما قالته شريكة حياته ستيلا موريس. من المؤكد أن من حق المرء حضور جلسة محكمة تنظر في أمره.

هذا الرجل عزيز النفس يطالب أيضًا بالحق في الظهور بشكل قوي ومتماسك في الأماكن العامة، كما فعل في المحكمة الجنائية المركزية العام الماضي. حينها، كان يتشاور باستمرار مع محاميه من خلال شق قفصه الزجاجي. لقد أخذ ملاحظات وفيرة. وقف واحتج بغضب بليغ على الأكاذيب وانتهاكات عملية الاعتقال.

الضرر الذي لحق بأسانج خلال عقد من السجن وعدم اليقين، بما في ذلك أكثر من عامين في بلمارش (الذي احتُفي بنظامه الوحشي في أحدث أفلام بوند) لا شك فيه. لكن شجاعته أيضًا لا شك فيها، كما مقاومته وصموده البطولي. هذا ما قد ينجيه من الكابوس الكافكاوي الحالي، إذا نجا من جحيم تسليمه لأمريكا.

لقد عرفت جوليان منذ قدومه إلى بريطانيا لأول مرة في عام 2009. في أول مقابلة لنا، وصف لي الضرورة الأخلاقية وراء إنشاء ويكيليكس: الحق في شفافية الحكومات وذوي السلطة هو حق ديمقراطي أساسي. لقد شاهدته يتمسك بهذا المبدأ، حتى عندما جعل حياته في بعض الأحيان أكثر خطورة.

لم يُذكر شيء حول هذا الجانب الرائع من شخصية الرجل فيما يسمى بالصحافة الحرة، التي يقال إن مستقبلها معرض للخطر إذا تم تسليم جوليان.

لكن، بالتأكيد، لم تكن هناك «صحافة حرة» قط. كان هناك صحفيون غير عاديين احتلوا مناصب في مساحات «التيار الرئيسي»، التي أُغلقت الآن، وأجبرت الصحافة المستقلة على الانتقال إلى الإنترنت. هناك، أصبحت هذه الصحافة «سلطة خامسة»؛ نوعًا من العمل المتفاني، غير مدفوع الأجر في كثير من الأحيان، يمارسه أولئك الذين كانوا استثناءات مشرفة في وسائل الإعلام، التي حُوّلت الآن إلى خط تجميع للتفاهات. تُجرّد كلمات مثل «الديمقراطية» و«الإصلاح» و«حقوق الإنسان» من معانيها، وتمارَس الرقابة عن طريق الحذف أو الإقصاء.

جلسة الاستماع المصيرية التي عُقدت الأسبوع الماضي في المحكمة العليا «اختفت» من «الصحافة الحرة». لن يعرف معظم الناس أن محكمة في قلب لندن جلست لتحكم بشأن حقهم في المعرفة؛ حقهم في الاستجواب والاعتراض.

يعتقد العديد من الأمريكيين، إن كانوا يعرفون أي شيء عن قضية أسانج، أن جوليان هو عميل روسي تسبب في خسارة هيلاري كلينتون للانتخابات الرئاسية في عام 2016 أمام دونالد ترامب. وهذا مشابه بشكل لافت للكذبة القائلة بأن صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل، وهو ما برر غزو العراق وقتل مليون شخص أو أكثر.

من غير المرجح أن يعرفوا أن شاهد الإثبات الرئيسي الذي يدعم إحدى التهم الملفقة ضد جوليان قد اعترف مؤخرًا بأنه كذب ولفق «أدلته». ولن يسمعوا أو يقرؤوا أن وكالة المخابرات المركزية، تحت إشراف مديرها السابق مايك بومبيو، شبيه هيرمان غورينغ، قد خططت لاغتيال جوليان. ولم يكن هذا جديدًا، فمنذ أن عرفتُ جوليان، كان دومًا تحت خطر التعرض للإيذاء، أو ما هو أسوأ.

في أول ليلة له في السفارة الإكوادورية في عام 2012، اجتاحت شخصيات مجهولة المنطقة أمام واجهة السفارة، ودقت النوافذ في محاولة للدخول. وفي الولايات المتحدة، لطالما دعت شخصيات عامة، بما في ذلك هيلاري كلينتون، مباشرةً بعد تدميرها ليبيا، لاغتيال جوليان. كما أدانه الرئيس الحالي جو بايدن ووصفه بأنه «إرهابي عالي التقنية».

كانت رئيسة وزراء أستراليا السابقة، جوليا جيلارد، حريصة جدًا على إرضاء من وصفتهم بـ«أفضل رفاقنا» في واشنطن، لدرجة أنها طالبت بأخذ جواز سفر جوليان منه، إلى أن أُعلمت بأن هذا سيكون مخالفًا للقانون. كما قال رئيس الوزراء الأسترالي الحالي، سكوت موريسون، رجل العلاقات العامة، عندما سُئل عن أسانج أنه «يجب أن يواجه عواقب أفعاله».

لأكثر من عقد من الزمان، كان مؤسس موقع ويكيليكس حلالًا على الجميع. في عام 2011، استغلت صحيفة «الغارديان» عمل جوليان كما لو كان خاصًا بها، وجمعت جوائز صحفية وصفقات في هوليوود، ثم انقلبت على مصدرها.

جوليان أسانج هو كاتب الحقيقة الذي لم يرتكب أي جريمة، بل كشف عن جرائم حكومية وأكاذيب على نطاق واسع، فهل نحتاج إلى التذكير بأن العدالة للفرد هي العدالة للجميع؟

تبع ذلك سنوات من الاعتداءات عبر التشهير بالرجل الذي رفض الانضمام إلى ناديهم. اتُهم أسانج بالتقصير في تنقيح وثائق تحمل أسماء أولئك الذين يعتبرون في خطر. في كتاب لصحيفة الغارديان من تأليف ديفيد لي ولوك هاردينج، نُقل عن أسانج قوله خلال عشاء في مطعم بلندن إنه لم يكن مهتمًا بما إذا كان المخبرون الذين وردت أسماؤهم في التسريبات قد تعرضوا للأذى. لم يكن هاردينج ولا لي في العشاء. في الواقع، كان جون جويتز، مراسل دير شبيغل للتحقيقات، موجودًا، وشهد أن أسانج لم يقل شيئًا من هذا القبيل.

أخبر دانيل إلسبرغ، المُبّلغ العظيم (whistleblower)، المحكمةَ المركزية الجنائية العام الماضي أن أسانج قام شخصيًا بتنقيح 15 ألف ملف [لإخفاء هويات المعرضين للخطر]. ووصف الصحفي الاستقصائي النيوزيلندي نيكي هاجر، الذي عمل مع أسانج في تسريبات الحرب في أفغانستان والعراق، كيف اتخذ أسانج «احتياطات غير عادية في تنقيح أسماء المخبرين».

في عام 2013، سألتُ صانع الأفلام مارك ديفيس عن هذا الأمر. كان ديفيس مذيعًا محترمًا لقناة «إس بي إس أستراليا»، وكان شاهد عيان يرافق أسانج أثناء إعداد الملفات المسربة للنشر في الجارديان ونيويورك تايمز. قال لي: «كان أسانج الوحيد الذي عمل ليل نهار لشطب عشرة آلاف اسم لأشخاص يمكن أن يتم استهدافهم عبر الاكتشافات الموجودة في السجلات».

أثناء محاضرته أمام مجموعة من طلاب جامعة سيتي، سخر ديفيد لي من فكرة أن «جوليان أسانج سينتهي به الأمر في بذلة برتقالية». لقد كانت مخاوفه مبالغة، قال ساخرًا. كشف إدوارد سنودن لاحقًا أن أسانج كان يعمل حسب «جدول زمني كأنه مطارد».

كان لوك هاردينغ، الذي شارك لي في تأليف كتاب الغارديان الذي كشف كلمة المرور لمجموعة من البرقيات الدبلوماسية التي عهد بها جوليان إلى الصحيفة، خارج السفارة الإكوادورية في المساء الذي طلب فيه جوليان اللجوء. كان يقف مع صف من الشرطة، وكتب شامتًا على مدونته: «سكوتلاند يارد [شرطة لندن] قد تضحك في النهاية».

كانت الحملة بلا هوادة، وغاص كتاب الأعمدة في صحيفة الغارديان عميقًا فيها. كتبت سوزان مور عن رجل لم تقابله قط: «إنه حقًا أحقر ما يمكن».

المحرر الذي ترأس هذه الحملة، آلان روسبريدجر، انضم مؤخرًا إلى الجوقة القائلة بأن «الدفاع عن أسانج يحمي الصحافة الحرة». بعد نشر الغارديان للكشف الأولي لويكيليكس، يجب على روسبريدجر أن يتساءل عما إذا كان قطع الغارديان علاقتها مع أسانج لاحقًا سيكون كافيًا لحمايته من غضب واشنطن.

من المرجح أن يعلن قضاة المحكمة العليا قرارهم بشأن استئناف الولايات المتحدة في العام الجديد. هذا القرار سيحدد ما إذا كان القضاء البريطاني قد أزال آخر بقايا سمعته المتبجحة أم لا. في بلاد الماغنا كارتا، كان يجب أن ترمى هذه القضية المشينة خارج المحكمة منذ فترة طويلة.

الأمر الجوهري المفقود ليس أثر القضية على «الصحافة الحرة» المتواطئة، بل العدالة لرجل مضطهد ومحرِوم منها عمدًا.

جوليان أسانج هو كاتب الحقيقة الذي لم يرتكب أي جريمة، بل كشف عن جرائم حكومية وأكاذيب على نطاق واسع، وبالتالي أدى إحدى أعظم الخدمات العامة في حياتي. هل نحتاج إلى التذكير بأن العدالة للفرد هي العدالة للجميع؟

Leave a Reply

Your email address will not be published.