«وأنا بمشي بظل أتشهّد»: القطاع الصحي هدفًا للاحتلال

الإثنين 23 تشرين الأول 2023
مسعفون أمام مستشفى الشفاء في مدينة غزة، في 16 تشرين الأول، 2023. تصوير داوود نمر. أ ف ب.

خرج الطبيب مراد عابد (33 عامًا) من بيته في حي الكرامة شمال غزة بعد قصف المنطقة بالفسفور الأبيض: «قنبلة فيها شظايا تحترق ولا تنطفئ بالماء أو الرمل»، يقول عابد. وبعد ساعة من وصوله إلى خان يونس وسط القطاع، وصلته صورة بيته مهدومًا إثر غارة إسرائيلية. نزح عابد، وزوجته وابنتاهما، وبحوزتهم حقيبة فيها لابتوب ووثائق شخصية و«غيار أواعي واحد» إلى منزل أحد الأقارب، ومن هناك يقطع كل يومين 18 كيلومتر ذهابًا وإيابًا للعمل بقسم الطوارئ في مستشفى شهداء الأقصى في منطقة دير البلح.

كلما وقع قصف إسرائيلي، تتأهب الطواقم الطبية لاستقبال الإصابات وتصنيفها بحسب الخطورة، يقول عابد إن «ما معدله 50 شخص [يترددون] خلال ساعة على قسم طوارئ فيه عشرين سريرا ولا يوجد فيه غيارات ومحاليل طبية كافية»، ما يضطره لعلاج بعض الحالات في ممر المستشفى أو في الخيمة على مدخله. مضيفًا أن الطواقم الطبية في غزة تُجري خلال نصف ساعة، وفي ظروف غير طبية، عمليات تستلزم ساعتين على الأقل. وقد شارك هو نفسه في إجراء عمليات تثبيت بلاتين في عظام القدم المتهتكّة للمصابين بدون تخديرهم بشكل كامل وبدون جهاز تنفس صناعي.

«هذا ضار على حياة المريض، وضد البروتوكول الطبي، بس مضطرين نتحمل هاي المخاطرة»، معتبرًا أن مستشفى شهداء الأقصى تحوّل لمكان موبوء مع تجاوز الطاقة الاستيعابية ولجوء النازحين له بحثًا عن ملاذ آمن. يُذكر أن المستشفيات في غزة تستقبل يوميًا حوالي 1000 مصاب جديد في نظام صحي يضم في مجمله 2500 سرير لتعداد سكاني يزيد عن مليوني شخص، وهو ما جعل نسبة الإشغال في مستشفيات القطاع تصل إلى 150% من قدرتها الاستيعابية.

مشهدٌ مماثل في مستشفى الكويت التخصصي في مدينة رفح جنوبي القطاع، «بنعالج الناس بالممرات، بنحط بالسرير مصابين ثلاثة، الإسعاف بحمّل عشرين جثة، الوضع كارثي»، يقول مدير المستشفى صهيب الهمص، وهو يتوقع تعرّض المستشفى للقصف أو خروجه عن الخدمة في أي لحظة، مثلما حصل في سبع مستشفيات حكومية أخرى، و21 مركزًا للرعاية الصحية الأولية، من أصل 52 مركزًا، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية توقفها.

يقول الهمص، إن المستشفيات الحكومية في غزة (13 من أصل 36 مستشفى) في العموم عبارة عن مستوصفات أو مستشفيات صغيرة بإمكانيات بسيطة، لا تحتوي عددًا كافيًا من الكوادر والأقسام والمعدات الطبية ولا تستطيع الاستجابة لهذا الضغط الهائل من أعداد المصابين. اليوم، يقدم مستشفى الكويت خدماته الصحية لمئات آلاف الفلسطينيين النازحين من شمالي القطاع إلى جنوبه مع تهديدات الاحتلال الإسرائيلي بالقصف.

حاليًا، بعد قطع إمدادات الكهرباء عبر خطوط التزويد الإسرائيلية ومحطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، يعمل مستشفى الكويت على نظامين؛ الطاقة الشمسية التي تغطي ثلاث ساعات كحد أقصى في اليوم، ومولدات كهرباء التي يتم تشغيلها ساعة القصف فقط بسبب توفر الحد الأدنى من الوقود. وقد بدأ المستشفى منذ أيام البحث لدى مستشفيات أخرى، أو أهالي المنطقة، عن أي كميات سولار يمكن تقاسمها معهم بحسب الهمص.

لم تبدأ أزمة القطاع الطبي في غزة مع انطلاق عملية طوفان الأقصى، بل منذ 17 عامًا عند بدأ الحصار الإسرائيلي الذي يمنع إدخال المواد الطبية الأساسية والمعدات الطبية المتخصصة.

وكانت وزارة الصحة قد وجهت نداء استغاثة ومناشدة لكل أصحاب محطات الوقود و«كل من يتوفر لديه أي لتر من السولار بالاتصال الفوري مع الوزارة»، وذلك بعدما أعلن مدير عام الهندسة والصيانة دخول المستشفيات حالة انهيار فعلي بسبب انقطاع الكهرباء ووقف خدمات طبية منها تفتيت الحصى والقسطرة الطبية، محذرًا من توقف عمل غرف العناية المركزة وحضانات الأطفال والكلى.

في ظل هذا الوضع، قررت إدارة مستشفى الكويت إغلاق غرف العمليات لأن موارد الوقود المتاحة تكفي لتشغيل قسم واحد فقط، وقد اختاروا أن يكون هذا القسم هو الطوارئ، يضاف إليه العيادات الخارجية التي تستقبل النازحين وضحايا القصف. وتُصنف الحالات إلى ثلاثة ألوان: حمراء وهي التي تحتاج لعمليات جراحية ويتم إحالتها إلى مستشفى الشفاء أو غزة الأوروبي أو الناصر، وصفراء وهي التدخلات العاجلة التي يمكن للطوارئ التعامل معها، وخضراء وهم ذوي الإصابات الطفيفة.

وقد تعرّض المستشفى لتهديديْن من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي لإخلائه، لكن لم تغادر الكوادر الطبية مكانها إذ يستحيل قطع أجهزة التنفس عن الناس ونقلها إلى مكان آخر في ظل القصف المستمر، كما يقول الهمص. 

ينسحب الحال على مستشفى الشهيد كمال عدوان إذ سبق وهدده جيش الاحتلال بالقصف أيضًا، ويقول مديره أحمد الكحلوت إن الإخلاء يستلزم وجود مستشفى آخر يمكن لطاقته الاستيعابية أن تستقبل المصابين، وما يكفي من سيارات الإسعاف لنقلهم، بالإضافة إلى حماية دولية تضمن أن لا تُقصف هذه السيارات في طريقها مثلما حدث لشاحنات قصفها الاحتلال وهي تقل أناسًا أثناء نزوحهم.

يقع مستشفى الشهيد كمال عدوان شمالي غزة، وسط جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، والتي تعتبر أكثر الأماكن كثافة سكانية في غزة والعالم. يقول الكحلوت إن قصف المستشفى لا يعني قتل ما متوسطه 120 مصابًا يستقبلهم المستشفى يوميًا فحسب، إنما كذلك آلاف الأهالي الذين يحتمون به كملاذ آمن: «غزة ما فيها ملاجئ، الناس بتروح لأقرب مدرسة أونروا أو ساحة مستشفى تقعد فيها»، يقول الكحلوت. وقد حذرت منظمة الصحة العالمية من طلبات الإخلاء قائلة إن مديري المستشفيات أمام خيارات مستحيلة هي «التخلي عن المرضى ذوي الحالات الحرجة في ظل حملة القصف أو تعريض حياتهم هم أنفسهم للخطر بالبقاء في مواقعهم لعلاج المرضى أو تعريض حياة المرضى للخطر بمحاولة نقلهم إلى مرافق غير قادرة على استقبالهم».

يؤكد الكحلوت أن الطواقم الطبية اختارت ألا تخرج من المستشفى إلا شهداء وفاءً بقسم مهنتهم وتمسكًا بحق شعبهم في الحياة، لكنه يخشى أن لا يعود هناك ما يمكنهم تقديمه. بالأصل، يقدم مستشفى الشهيد كمال عدوان خدماته في جميع تخصصات الأطفال والنساء والولادة، لكنه أوقف جميع عملياته المجدولة واضطر مع بدء العدوان لفتح أقسامه لاستقبال مصابي القصف الإسرائيلي. ومع تفاقم الوضع الصحي، يعمل المستشفى بشكل رئيسي بنظام الفرز الطبي الإسعافي في حالات الكوارث، أي أن الأطباء لا يبحثون عن الحالات الأكثر خطورة لإنقاذها، إنما الحالات التي لديها فرصة أكبر للحياة باستخدام أقل موارد طبية.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

عمومًا، لم تبدأ أزمة القطاع الطبي في غزة مع انطلاق عملية طوفان الأقصى، بل منذ 17 عامًا عند بدأ الحصار الإسرائيلي الذي يمنع إدخال المواد الطبية الأساسية والمعدات الطبية المتخصصة، «عندي في المستشفى جهاز إشعاعي واحد، يعمل بأقل من 25% وبنعملّه صيانة من 15 سنة، هذا الجهاز شهد خمس حروب على غزة»، يقول الكحلوت. وقد منع الاحتلال مطلع هذا العام إدخال جهاز القسطرة التداخلية الذي يتيح إنقاذ مرضى الجلطات من الموت والشلل، وسبعة أجهزة أشعة سينية تستخدم لتشخيص حالات العظام والكسور داخل غرف العمليات، بحسب الناطق باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة. كما تواجه غزة نقصًا حادًا في أطباء الاختصاص، إذ وصل عددهم إلى 517 طبيبًا عام 2022، أي حوالي طبيب واحد لكل خمسة آلاف نسمة، بحسب التقرير السنوي لوزارة الصحة. وفي كل غزة لا يوجد سوى اثنين من أخصائيي الأعصاب ممن يمكنهم إجراء عمليات جراحية في الجهاز العصبي المركزي الممتد حول الرأس وإلى داخل الجمجمة والحبل الشوكي، أحدهما في مستشفى غزة الأوروبي والآخر في مستشفى الشفاء. «ما عنا جراحين أوعية دموية، وبنشتغل على تثبيت عظام المصابين بدون ترميم أو ترقيع الأوعية الدموية، هذا معناه إنه المصاب رح يفقد أطرافه وممكن يفقد حياته إذا دخل بنزيف حاد»، يقول عابد.

يعاني مستشفى الشهيد كمال عدوان اليوم من قلة الكوادر، إذ تعمل كوادره على مدار الساعة دون توقف وتمر بإجهاد جسدي ونفسي كبيريْن، كما يتعرضون للاستهداف المباشر حتى في سيارات الإسعاف. وقد استشهد من الطاقم الطبي للمستشفى أربعة؛ هم الطبيب رأفت أبو الفول والممرضين رامي ومحمد لبد وفني المختبر ندير شعبان. يقول الكحلوت إن الكوادر الطبية شمالي غزة لا تستطيع الوصول للمستشفى جراء تدمير الطرق وشبكة المواصلات، عدا عن أن بعضهم اضطر للنزوح: «بده يموت مع أهله».

وصل عدد شهداء الطواقم الطبية إلى 64 شخصًا، بحسب مدير عام وزارة الصحة في غزة، مدحت عباس، منهم من تم استهداف منزله بشكل مباشر مثل جراح التجميل والحروق، مدحت صيام، الذي غادر المستشفى بعد ساعات طويلة من العمل المضني للاطمئنان على أسرته، فاستشهدوا جميعًا. وفي ظل تضاعف الضغط على خدمات الرعاية الصحية، أعلنت وزارة الصحة في غزة فتح باب التطوع لكل من يحمل مزاولة مهنة في التخصصات الصحية والإسعافية المختلفة، ودعت جميع الكوادر الصحية المتقاعدة للالتحاق بالعمل الفوري في المرافق الصحية.

«انقصف بيت نسايبي، وطلعوا ولادي من تحت الأنقاض وما قدرت أروح اتطمن عليهم، إخواني أغلبهم في مدارس الإيواء، ما بعرف عنهم إشي»، يقول الهمص، مضيفًا أنه وعشرة أطباء وعمّال نظافة لم يغادروا مستشفى الكويت ويعملون على نَفَس واحد منذ بداية القصف، مضيفًا أن العبء النفسي على العاملين في القطاع الطبي أكثر مما يمكن احتماله: «كل طبيب في غزة لديه خوف من استقبال أهله شهداء»، كما شهد معظمهم استشهاد زملائهم في الميدان في غضون ساعات: «هذول أهلنا وزملائنا بالدراسة، ما لحقنا نبكي عليهم».

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

وجاء في آخر تحديث لوزارة الصحة، أن العدوان الإسرائيلي دمّر 23 سيارة إسعاف، عشرة منها لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني التي قُصف مقرها شمالي غزة وتعرّضت غرفة عمليات الطوارئ فيها لأضرار جسيمة. وقد قصفت قوات الاحتلال بشكل مباشر مركبة إسعاف تابعة للهلال الأحمر واستشهد أربعة مسعفين هم خليل الشريف ويسري المصري وأحمد دهمان وحاتم عوض.إن الخطر على الصحة والحياة أصبح يهدد جميع سكان غزة وليس المصابين والمرضى فقط، خصوصًا أن الناس استهلكوا كميات المياه والمواد الغذائية المتاحة. يقول الهمص: «الاحتلال يقصف المشافي والمخابز، اللي ما بموت من القصف، بموت من الجوع». ويضيف عباس، مدير عام وزارة الصحة في غزة، أن الناس تقف في طوابير طويلة أمام الآبار للحصول على مياه شرب مالحة لا تصلح للاستحمام حتى. وهو يتخوف من وجود آلاف الضحايا تحت الأنقاض مع تعقّد إمكانية إنقاذهم بسبب تعرض سيارات الدفاع المدني للقصف ونفاد الوقود اللازم لتشغيلها وصعوبة الوصول للعمارات المدمرة: «إذا هاي الجثث بتظل، بتصير غزة مكرهة صحية»، هذا فضلًا عن الحرائق التي تشعلها الصواريخ والشظايا التي تملأ الشوارع والواقع الإنساني المزري لآلاف الأطفال الأيتام ممن فقدوا أهاليهم.

يقول الهمص إن الفزع يتملك العاملين في مستشفى الكويت بعدما صار استهدافهم واردًا خصوصًا أن طائرات الاحتلال تحوم بشكل مستمر في سماء المستشفى. ويرى الكحلوت أن الحماية الدولية والمساعدات الإنسانية يجب أن تشمل المستشفيات على الأقل والتي أصبحت هدفًا للاحتلال بدلًا من أن تكون ملجأً لعلاج الناس: «الناس حطت ولادها تعالجهم بالمعمداني، رجعت ما لاقت ولادها ولا المعمداني».

بعد مناوبة تمتد لـ24 ساعة، يبحث عابد عن مصدر مياه يملأ منه قارورته، ويقف في طابور من ألف شخص للحصول على ربطة خبز، وبذلك يصبح مستعدًا للعودة إلى المنزل ورؤية عائلته، وهو طوال الطريق يفكر ما إن كانت هذه هي المرّة الأخيرة التي يراهم فيها: «وأنا بمشي، بظل أتشهّد».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية