«بلاك روك» وأخواتها: المال في يد واحدة

الأحد 31 آذار 2024
احتجاجات أمام المقر الرئيسي لبلاك روك في نيويورك، في تشرين الأول 2022. تصوير: جون ناسيون. أ ف ب.

في البدء كانت الأزمة. شكلت الأزمة المالية للعام 2008، نقطة تحول جذرية، بوصفها أسوأ أزمة عالمية منذ انهيار عام 1929. فقد كشفت للجمهور عن عدد معين من الممارسات المشكوك فيها في عالم المال، وساهمت في الحفاظ على مناخ من عدم الثقة تجاه القطاع المصرفي والمالي التقليدي، حيث ضربت سمعة النظام المالي التقليدي، الذي كان سائدًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ووسعت من الوعي النقدي تجاه تحالف المال والسلطة، خاصة عندما قامت الحكومات الغربية بإنقاذ البنوك بإجراءات مكلفة وغير شعبية على الإطلاق.

من بذرة الخوف والخشية من مخاطر السوق من جهة، وفقدان الثقة في القطاع المالي التقليدي من جهة أخرى، ولدت «إدارة الأصول»، لا بوصفها جزءًا من خدمات يقدمها القطاع المالي المصرفي -كما كان سائدًا لعقود- ولكن كقطاع مستقل. فبدل أن يشكل ذلك الوعي النقدي نافذةً لتفكك اقتصاد رأس المال، تحول إلى مسارٍ للبحث عن البدائل داخل الرأسمالية نفسها، مجددةً شبابها النيوليبرالي من خلال إدارة الأصول.

يبدو من الصائب وضع هذا النمط الجديد من إدارة رأس المال، ضمن مسار تطور النيوليبرالية، من أجل الحفاظ على «أموَلة الاقتصاد». لكن النزوع الاحتكاري للرأسمالية لم يكن استثناءً في هذا القطاع الصاعد على نحو واسع وسريع، حيث ظهرت خلال سنوات قليلةٍ شركات ضخمة تدير أصولًا تفوق ميزانيات دول مجتمعة، وتاليًا أصبحت تملك سلطة فوق اقتصادية هائلة. حيث يقع تركيز رأس المال في شركات إدارة الأصول، ثم تركيز المجموع في بضع شركات قليلةٍ. وضمن هذا الإطار الجديد من علاقة مالك رأس المال برأس المال نفسه، عبر وساطة إدارية من شركات إدارة الأصول، أصبحنا نشهد تحولًا ربما سيكون جذريًا في السنوات القادمة، على مستوى علاقات الإنتاج السائدة، وبالتالي على طبيعة التشكيلات الاجتماعية الطبقية، ولاسيما طبيعة الطبقة المُهيمنة. فهل ما زالت ملكية رأس المال تشكل وحدها امتيازًا للهيمنة؟

إدارة الأصول: المال في يدٍ واحدة

تُعرفّ «إدارة الأصول» بأنها الإدارة المهنية لأنواع مختلفة من الأصول: المالية مثل الأسهم والسندات والعقارات، فضلًا عن الأصول المادية مثل البنية التحتية والمعدات والمخزون. أما عملها الأساسي فهو تحسين قيمة الأصول طوال دورة حياتها مع الموازنة بين اعتبارات المخاطر والعائد. وتشمل الجوانب الرئيسية لإدارة الأصول أولًا إدارة الاستثمار نيابة عن العملاء أو المستثمرين لتحقيق أقصى قدر من العائدات مع إدارة المخاطر. ويتضمن ذلك اختيار الفرص الاستثمارية المناسبة، وتخصيص رأس المال عبر فئات الأصول المختلفة، ومراقبة أداء المحفظة.

وثانيًا إدارة المخاطر، حيث يقوم مديرو الأصول بتقييم وتخفيف أنواع مختلفة من المخاطر المرتبطة بملكية الأصول، مثل مخاطر السوق، ومخاطر الائتمان، ومخاطر السيولة، والمخاطر التشغيلية. وثالثًا تنويع المحفظة من خلال توزيع الأصول عبر فئات الأصول والصناعات والمناطق الجغرافية وأنماط الاستثمار المختلفة. يساعد التنويع على تقليل تقلبات المحفظة وتعزيز العائدات المعدلة حسب المخاطر عن طريق تعويض الخسائر في أحد الأصول بمكاسب في أصل آخر. وتشمل إدارة الأصول مجموعة واسعة من الكيانات، بما في ذلك شركات إدارة الاستثمار، وشركات إدارة الثروات، والبنوك، وشركات التأمين، وصناديق التقاعد، والأوقاف، والمكاتب العائلية. وكلها تلعب دورًا حاسمًا في إدارة الأصول نيابة عن الأفراد والمؤسسات والمستثمرين الآخرين.

من بذرة الخوفّ والخشية من مخاطر السوق من جهة، وفقدان الثقة في القطاع المالي التقليدي من جهة أخرى، ولدت «إدارة الأصول»، لا بوصفها جزءًا من خدمات يقدمها القطاع المالي المصرفي -كما كان سائدًا لعقود- ولكن كقطاع مستقل.

لم تكن فكرة أن يعطي أحدهم فردًا أو كيانًا ماله لطرف ثالث كي يديره جديدةً على النظام الاقتصادي الرأسمالي، فمنذ ظهور المصارف تحولت هذه الكيانات المالية إلى مديرة أصول مالية وصناعية وعقارية وزراعية، ثم لحقت بها شركات التأمين والصناديق الاستثمارية. لكن إعادة تشكيل النظام المالي بعد أزمة 2008، جعل من شركات إدارة الأصول تتفوق على هذه الكيانات التي عجزت عن مجابهة الأزمة، ولاسيما المصارف.

في أعقاب الأزمة حلت هذه الشركات مثل بلاك روك، وفانغارد، وستيت ستريت، محل البنوك باعتبارها أقوى المؤسسات في مجال التمويل المعاصر، حيث تراكمت لديها قوة ملكية وتوسع لم يسبق لهما مثيل في تاريخ الرأسمالية. وأصبحت بمثابة نقاط مركزية في شبكة واسعة ضمت تقريبًا كل الشركات الكبرى من كل قطاع اقتصادي. في كتابهما «سقوط وصعود التمويل الأمريكي: من جي بي مورغان إلى بلاك روك»، يذهب كل من سكوت أكوانو وستيفن ماهر إلى أن هذا كان بمثابة تحول تاريخي في قوة الشركات. حيث أصبح الفصل بين الملكية والسيطرة سمة مركزية للشكل التنظيمي للشركة.

في العقود التي سبقت الأزمة، كانت الأسواق وسيطة في العلاقة بين المساهمين والمديرين: فكان بوسع المساهمين الخروج عن طريق بيع الأسهم في الشركات ذات الأداء الضعيف. ولكن مع صعود الشركات الثلاثة الكبرى بعد الأزمة المالية انهار التمييز بين الملكية والسيطرة. حيث لم نشهد مثل هذا التأثير المالي على الشركات الصناعية منذ العصر الذهبي، عندما كان العمالقة مثل جي بي مورغان يهيمنون على الرأسمالية الأمريكية. ولأكثر من قرن من الزمان كان تركيز قوة الملكية مقيدًا بمقايضة أساسية: حيث كان بوسع المستثمرين أن يمتلكوا إما حصة صغيرة نسبيًا من عدد كبير من الشركات أو حصة كبيرة من عدد صغير من الشركات. وبعبارة أخرى، مع زيادة التنويع تم تخفيف حيازات الأسهم عبر العديد من الشركات، مما يحد من السيطرة التي يمكن للمستثمرين ممارستها على أي شركة معينة. وبالتالي يستطيع المستثمرون جمع ما يكفي من الممتلكات لممارسة سلطة كبيرة على عدد صغير نسبيًا فقط من الشركات. وكان صعود شركات إدارة الأصول العملاقة منذ عام 2008 سببًا في عكس هذه الديناميكية: فقد أصبحت الشركات الثلاثة الكبرى أكبر المساهمين في كل واحدة من أكبر وأهم الشركات تقريبًا.

بدل أن يشكل الوعي النقدي الذي تلا الأزمة المالية في 2008 نافذةً لتفكك اقتصاد رأس المال، تحول إلى مسارٍ للبحث عن البدائل داخل الرأسمالية نفسها، مجددةً شبابها النيوليبرالي من خلال إدارة الأصول.

نجحت الشركات الثلاثة: بلاك روك، وفانغارد، وستيت ستريت، على نحو سريع، في السيطرة على سوق إدارة الأصول، حيث تعد الشركات مجتمعة أكبر أو ثاني أكبر المساهمين في الشركات التي تشكل ما يقرب من 90% من إجمالي القيمة السوقية في الاقتصاد الأمريكي. ويشمل ذلك 98% من الشركات المدرجة على مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» الذي يتتبع أكبر الشركات الأمريكية -حيث تمتلك مجتمعةً في المتوسط أكثر من 20% من كل شركة. ومن اللافت للنظر بنفس القدر المعدل الذي حدث به هذا التركيز في أعقاب أزمة عام 2008. ومن عام 2004 إلى عام 2009 زادت الأصول الخاضعة للإدارة لشركة ستيت ستريت بنسبة 41%، في حين زادت أصول شركة فانغارد بنسبة أكبر بلغت 78%. ومع ذلك، فإن الأهمية الفريدة التي تتمتع بها شركة بلاك روك ضمن هيكل القوة هذا تنعكس في توسع أصولها الخاضعة للإدارة بنسبة بالكاد يمكن تصديقها بلغت 879% في هذه السنوات، لتصبح إلى حد كبير أكبر شركة لإدارة الأصول العالمية بحلول عام 2009.

يعتقد مولفا «سقوط وصعود التمويل الأمريكي»، أن وتيرة هذا التحول وحجمه كانت بمثابة إعلان عن مرحلة جديدة من الرأسمالية الأميركية، والتي تميزت بالتركيز غير المسبوق للملكية، فضلًا عن مركزية السيطرة على الشركات، حول عدد صغير من الشركات المالية. حيث تلعب شركات إدارة الأصول العملاقة الآن دورًا نشطًا ومباشرًا وقويًا للغاية في السيطرة على الشركات، وهي تفعل ذلك فيما يتعلق بكل شركة مساهمة عامة تقريبًا في الاقتصاد الأمريكي. لقد أصبحوا «مالكين عالميين»، يديرون إجمالي رأس المال الاجتماعي في الولايات المتحدة،[1] بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات عالمية.

باب «بلاك روك» الدوار

لا تستمد «بلاك روك» قوتها فقط من براعتها المهنية في إدارة الأصول، ولا من عوامل تتعلق بطبيعة الأسواق، بل من عوامل فوق اقتصادية تتعلق أساسًا بعلاقتها بالدولة في مستوى، وبالسلطة السياسية الأمريكية في مستوى أكثر عمقًا. ولدت المجموعة عام 1988 تحت قيادة لاري فينك، وأصبحت خلال ثلاثة عقود عملاق التمويل الأول، حيث تدير أصولًا بقيمة 10 تريليون دولار، باعتبارها مستشارة للحكومات والبنوك المركزية. وإذا تم احتساب الأصول التي تديرها بشكل غير مباشر من خلال منصة برمجيات علاء الدين (رمز لسحرية التمويل، حيث تظهر بلاك روك بوصفها مارد الفانوس)، فإن هذا الرقم يقترب من 25 تريليون دولار.

وتشغل الشركة عضوية 17 ألف مجلس إدارة، كما تمتلك أسهمًا في غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت أكثر من مؤسسي كل من هذه الشركات، وهذه البيانات تكشف إلى أي حد وصل تركيز رأس المال ضمن هذا النمط من الإدارة. وتقوم الشركة بجمع هذه المبالغ من عملائها بهدف استثمارها في الأوراق المالية للشركات حول العالم. لا سيما من خلال منتجها الرئيسي: صندوق تداول البورصة (صندوق الاستثمار المتداول ETF). يستهدف لاري فينك الشركات الصغيرة، التي يعرض عليها رسوم إدارة أقل بعشر مرات من تلك التي تفرض على الاستثمارات التقليدية، ومع ذلك فهو لا يهمل الحيتان الكبيرة، مثل صناديق الثروة السيادية وعلى رأسها صندوق الثروة السيادية النرويجي الأكبر في العالم.[2]

لا تستمد «بلاك روك» قوتها فقط من براعتها المهنية في إدارة الأصول، ولا من عوامل تتعلق بطبيعة الأسواق، بل من عوامل فوق اقتصادية تتعلق أساسًا بعلاقتها بالدولة في مستوى، وبالسلطة السياسية الأمريكية في مستوى أكثر عمقًا.

المال يصنع السلطة والسلطة تصنع المال. ضمن هذه الحلقة التي تغذي بعضها البعض يدور نفوذ بلاك روك وقوتها. لا تنعكس قوتها في حجم أصولها الخاضعة لإدارتها فحسب، بل في ارتباطها الخاص بالدول والحكومات، ولا سيما في الولايات المتحدة. استفادت الشركة من علاقة مديرها بالحكومات، في أن تتحول إلى مستشار موثوق لدى البنوك المركزية والدول، فالنصائح التي تقدمها إلى البنوك المركزية في الدول الغربية، تجلب لها ما هو أكثر بكثير من المال، وهي المعلومات، وبالتالي تبدو الأسواق والمخاطر مكشوفةً أمامها، كونها تحتكر أثمن بيانات العالم المالي.

من خلال العقود الممنوحة لها من الدول، تتمتع الشركة بإمكانية الوصول إلى المعلومات الثمينة التي يمكن أن تساعدها في اتخاذ قرارات استثمارية مربحة للغاية. وبالنيابة عن عملائها، تمتلك بلاك روك كميات ضخمة من الأسهم في العديد من البنوك، إن لم يكن كلها، التي يساعد ذراعها الاستشاري في تدقيقها. إن قِلة من اللاعبين في السوق -إن وجدوا- يملكون مثل هذه المعرفة الوثيقة بالحالة الحقيقية للميزانيات العمومية للبنوك الأوروبية. وقد تم تسليط الضوء على هذا التضارب المتأصل في المصالح لأول مرة من قبل السيناتور الأمريكي تشارلز غراسلي في عام 2009، عندما كانت بلاك روك تساعد بنك الاحتياطي الفيدرالي في برنامج التيسير الكمي والحكومة الأمريكية في عمليات الإنقاذ المعقدة لشتيرنز والمجموعة العالمية الأمريكية وسيتي غروب. كما تقوم الشركة بجهود واسعة من خلال الإنفاق ببذخ لتجنيد السياسيين المتقاعدين ومسؤولي البنك المركزي ذوي العلاقات الجيدة، بما في ذلك الرئيس السابق لمجلس إدارة البنك الوطني السويسري فيليب هيلدبراند، ورئيس خزانة المملكة المتحدة السابق جورج أوزبورن.[3]

لكن مصدر القوة الأساسي للشركة العملاقة هو العلاقة العضوية بينها وبين الطبقة السياسية الأمريكية، ولاسيما الإدارة الديمقراطية، حيث يعتبر لاري فينك، من الرموز المالية للحزب الديمقراطي.  فمنذ عام 2004، قامت الشركة بتعيين ما لا يقل عن 84 مسؤولًا خدموا في أدوار حكومية مختلفة بما في ذلك صانعي السياسات في واشنطن، ومحافظي البنوك المركزية، وموظفين في حكومات أجنبية، كما عملوا في العديد من المؤسسات الرئيسية، بما في ذلك وزارة الخزانة، والبيت الأبيض، والمؤسسات التي ترعاها الحكومة، والبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم. وفي الولايات المتحدة، عينت الشركة مسؤولين من البيت الأبيض، ووزارة الخزانة، وهيئة الأوراق المالية، ومناصب إدارية عليا أخرى أبرزهم: كندريك ويلسون، مستشار وزير الخزانة هانك بولسون خلال الأزمة المالية لعامي 2008 و2009، الذي شغل في عام 2010 منصب نائب لرئيس مجلس الإدارة. وكيفن تشافرز، المستشار الرئيسي للجنة مجلس الشيوخ الأمريكي للشؤون المصرفية والإسكان والشؤون الحضرية، الذي أصبح في عام 2011، جزءًا من الطاقم الاستشاري للشركة وكذلك شيريل ميلز، مستشارة وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، التي تشغل عضوية مجلس إدارة شركة بلاك روك منذ عام 2013. كما تم تعيين بريان ديس، أحد كبار مسؤولي الميزانية في إدارة أوباما، من قبل الشركة في عام 2017 لرئاسة وحدة الاستثمار المستدام للشركة. ليعود لاحقًا ويشغل منصب كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس الحالي بايدن.[4]

هذا التداخل بين المصالح السياسية والاقتصادية، يوفر للشركة وصفة النجاح في السيطرة أولًا من خلال المعلومات التي تنقلها من وإلى عملائها في الخارج نحو السلطة السياسية الأمريكية، ومن السلطة الأمريكية نحو عملائها في الخارج. وهذا يعطيها قدرة فائقة على قراءة الأسواق وحتى التحكم فيها. وثانيًا من خلال العلاقات الخارجية للسلطة الأمريكية، وقدرتها الإمبراطورية على إدارة هذه العلاقات، حيث تستفيد الشركة من هذه العلاقات في كسب الأسواق والزبائن. وربما يقدم لنا نموذج التفاوض بين الشركة والحكومة الأوكرانية حول عملية إعادة الإعمار،[5] التي تناهز حوالي 100 مليار دولار، فكرةً أوليةً عن هذه الاستفادة، حيث لا يمكن لهذا المسار أن يتم خارج نفوذ الإدارة الأمريكية، والأهم أنه يقع ضمن قيادة الولايات المتحدة للحرب في أوكرانيا. وبالتالي فإن أي مستفيد من نتائجها لن يكون شركة أوروبية أو غربية أخرى.

رسوخ «الرأسمالية الإدارية»

يفرض نموذج إدارة رأس المال، الذي تمثله شركات إدارة الأصول، تحولًا جذريًا في علاقات الإنتاج الرأسمالية وفي طبيعة الطبقة المهيمنة. لا يتعلق الأمر بمجرد فصل بين ملكية رأس المال وإدارته، والتي مثلها لسنوات المديرون التنفيذيون، الذين وفقًا لأطروحة الفرنسيين جيرار دومينيل ودومينيك ليفي يشكلون نمط إنتاج جديد يسمى الرأسمالية الإدارية. بل إن الأمر يتجاوز ذلك نحو ظهور طبقة جديدة تمثل هذا النمط هي البرجوازية الإدارية التي لا تملك رأس المال بل تديره وتسيطر عليه، وبالتالي تملك امتياز الهيمنة. في كتابهما «الرأسمالية الإدارية: الملكية والإدارة ونمط الإنتاج الجديد القادم» يذهب جيرار وليفي إلى أن نمط الإنتاج الرأسمالي الإداري أفرز طبقتين تهيمنان، الطبقة التي تملك رأس المال والطبقة التي تملك السلطة المستمدة من الكفاءة داخل الشركات ومؤسسات الدولة، وهم «المديرون التنفيذيون» إلى جانب المهن الحرة (الهندسة، المحاماة، الاستشارات). فهذه الشرائح لم تعد تشكل جزءًا من الطبقة الوسطى، بل طبقة عليا جديدة؛ في المقابل فإن قوة الرأسماليين تتضاءل.[6] 

مع صعود شركات إدارة الأصول، لم يعد المدير التنفيذي مجرد أداة تقنية بيد مالك رأس المال، بل شريكًا دون أن يكون له من أصل رأس المال شيء.

في سنوات ما بعد الحرب، عندما سادت الديمقراطية الاجتماعية، كان المديرون يميلون إلى التوصل إلى تسويات مع العمال، لأنهم كانوا أداةً تقنية بيد رأس المال، لذلك شكلوا دائمًا في نموذج دولة الرعاية وسيطًا بين الطبقة العاملة والرأسماليين. لكن منذ نهاية السبعينيات، وفي ظل الليبرالية الجديدة، تغيرت الولاءات. حيث أصبح تحالف المديرين وأصحاب رأس المال منفصلًا عن القاعدة العمالية والأُجراء على نحو عام، مما غير طبيعة التسلسل الهرمي للسلطة في ظل الرأسمالية.

لكن مع صعود شركات إدارة الأصول، لم يعد المدير التنفيذي مجرد أداة تقنية بيد مالك رأس المال، ولا جزءًا من تحالف يحتفظ في داخله بموقع أقل شأنًا من المالك، بل شريكًا دون أن يكون له من أصل رأس المال أي من الأصول. حيث أصبح الفصل بين رأس المال وإدارته فصلًا تامًا، أي أن من يدير رأس المال ليس أجيرًا لدى المالك، بل مستقل عنه تنظيميًا وماليًا، إلا من حيث كونه مقدم خدمات. وبالنظر في طبيعة شركات إدارة الأصول، لاسيما العملاقة منها، فإن الكلمة الأخيرة في تحديد فعالية رأس المال ووظيفته تعود إلى شركة إدارة الأصول، التي تقدم في النهاية لمالك رأس المال منافع دورية، وهنا تظهر العلاقة مقلوبةً تمامًا، حيث تبدو هذه المنافع الدورية عبارة عن أجر سنوي أو شهري أو فصلي. هذا الانقلاب في علاقة القوة بين إدارة رأس المال وملكيته ربما يمهد الطريق أمام تحول جذري في طبيعة الطبقة المهيمنة في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي. فمن خلال امتلاكهم قوة البيانات والمعلومات، والقوة فوق الاقتصادية عبر العلاقات المحاسبية مع الدولة، يمكن لشركات إدارة الأصول الهيمنة المطلقة على الاقتصاد الرأسمالي.

  • الهوامش

    [1] Scott Aquanno and Stephen Maher – The Fall and Rise of American Finance : from J.P. Morgan to Blackrock – Verso Books 2024

    [2] Sylvain Leder – BlackRock, la finance au chevet des retraités français – Le Monde diplomatique Jan 2020

    [3] Don Quijones – Why’s the World’s Biggest Asset Manager Advising the ECB on the Health of EU Banks ? WOLF STREET- Oct. 15, 2018

    [4] The BlackRock Revolving Door – BlackRock Transparency Project – June 27, 2018

    [6] (6) – Gérard Duménil and Dominique Lévy – Managerial Capitalism : Ownership, Management and the Coming New Mode of Production – Pluto Press in Mar 2018

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية