جنود الكرامة يروون شهاداتهم عن يوم لا يمحى

من منطقة الصبيحي الواقعة بين مرتفعات مدينة السلط ومنخفضات الأغوار. تصوير: دانة جبريل.

جنود الكرامة يروون شهاداتهم عن يوم لا يمحى

الأربعاء 21 آذار 2018

ينظر الرائد الركن المتقاعد أحمد الحاج علي إلى ساعة الحائط المعلّقة أمامه، وهي تشير إلى الثامنة و35 دقيقة مساءً، «بعد عشرين دقيقة بتخلص المعركة». يشير الحاج علي إلى آخر قذيفة مدفعية انطلقت باتجاه العدو الإسرائيلي في معركة الكرامة، والتي كانت في تمام التاسعة إلا خمس دقائق قبل خمسين عامًا، كما يذكر.

لم يكن الوقت وحده ما يحفظه الحاج علي، إذ يحفظ كذلك تفاصيل 16 ساعة كان خلالها أحد ضبّاط عمليات مدفعية الفرقة الأولى في الجيش العربي، يوم انتصر الجيش العربي وفدائيون في معركة الكرامة على العدو الإسرائيلي، الذي قطعت آلياته حدود الضفة الغربية باتجاه الأردن للقضاء على العمليات التي كان ينفذها فدائيون سكنوا وادي الأردن، بحسب الهدف الذي أعلنته «إسرائيل» حينها. وهو ما اعتبره الأردن حجةً إسرائيليةً من أجل احتلال جبال البلقاء المطلّة على الحدود بين الضفتين، وإرغام الأردن على المصالحة والسلام.[1]

الحاج علي، ليس الوحيد الذي يُبقي تفاصيل الحرب حيّة، فإلى جانبه خلف وخليفة وخالد وسليمان وآخرون من المتقاعدين العسكريين، الذين يحفظون أرقامهم العسكرية والمواقع التي كانوا يشغلونها، ونوعية الأسلحة التي حملوها في المعركة، تحت قيادة قائد الفرقة الأولى مشهور حديثة الجازي.

في هذا التقرير، يسرد جنود وضباط متقاعدون من الجيش العربي رواياتهم وشهاداتهم الشخصية للمعركة. التقيناهم في عمّان وإربد والشونة الشمالية، واستمعنا إلى ما يتذكرونه عن ذلك اليوم الذي لا يمحى من ذاكرتهم.

قبل الكرامة: عن التعبئة والاستعداد

كانت حرب حزيران عام 1967 قد انتهت للتو. حربٌ يلخصها الحاج علي بأنها كانت حرب النظر إلى أعلى، فجميع الجيوش في الضفة الغربية كانت تنظر إلى السماء، إلى حيث تقصفهم الطائرات، ولم يكن أحد ينظر إلى الأمام لعدم وجود مواجهة حقيقية وجهًا لوجه، باستثناء تلك المعارك التي دارت في القدس وجنين وغرب نابلس وغيرها. قصف شديد دفعهم للاحتماء من الطيور التي كانت تحوم فوق رؤوسهم خلال عبورهم وادي شعيب عائدين إلى الأردن، إذ تخيلوها طائرات معادية.

كلّ من التقيناهم من متقاعدي الجيش العربي الذين شاركوا في حرب حزيران 1967، وصفوا قسوة شعورهم بالهزيمة، ورغبتهم العارمة في الانتقام، تلك الرغبة التي يصفها الجندي المتقاعد خالد عوض، أبو فارس: «كنا بدنا نوكلهم بأسناننا».

هذه الرغبة بالانتقام ساندها تكثيف في التدريبات العسكرية وعملٌ على رفع معنويات الجيش. فبعد أشهر قليلة من الهزيمة عُيّن الفريق الركن مشهور حديثة قائدًا للفرقة الأولى بالجيش العربي، وكانت الفرقة تتمركز على الحدود بين الضفتين في وادي الأردن.

بدأ الجنود تدريبًا عسكريًا مكثفًا. يقول الرقيب -حينها- علي سليمان عبد الكريم، بأنهم تدرّبوا من قِبَل وحدات خاصة مصرية وباكستانية، «والله تدريب شديد، ظهورنا حتى بقبشن، صارت تنزل مي، تنكون ظهورنا شالحين ونركض في النار والحمّ والدنيا».

لم تتوقف اعتداءات العدو على منطقة وادي الأردن بعد النكسة، فالحرب التي عُرفت بحرب الاستنزاف كانت قد بدأت على خط الحدود، حيث كانت الدبابات الإسرائيلية تواصل إطلاق النار باتجاه الجبهة الشرقية. وبعدها بدأ الفدائيون الذين أقاموا في مناطق الأغوار بشنّ عمليات فدائية في الأرض المحتلة. ساندتهم وحمتهم خلالها قوات الجيش العربي، بحسب ما يقول المحاربون وبحسب مشهور حديثة في مقابلاته.

يقول الجنديان المتقاعدان خالد محمد وسليمان علي إنهما التقيا العديد من الفدائيين الذين كانوا يمرّون على جنود الجيش العربي، يأكلون ويشربون معهم، ويستخدمون البطانيات للنوم عندهم، وفي الصباح يذهبون لتنفيذ عملياتهم في الأرض المحتلة، وعند عودتهم كانت مدفعية ودبابات الجيش تحميهم من ملاحقة العدو لهم حتى يدخلوا الجبهة الشرقية.

مع مضي الوقت، تزايدت أعداد الاعتداءات على منطقة وادي الاردن، وكانت أبرزها ثلاثة اعتداءات كبيرة في بداية عام 1968، قصف خلالها العدو قرىً حدودية، ما أدى إلى وقوع شهداء. استثمر مشهور حديثة تلك الأحداث لتعويد الجنود والضباط على أن قصف الطائرات ليس جديدًا. «يجب أن نتعود ونقاوم أحسن مقاومة»، يقول في شهادة مكتوبة.[2] تزامن ذلك مع زيارات مستمرّة للملك حسين للجنود على تلك الجبهة بحسب ما يؤكد الحاج علي، ما جعل معنويات الجميع ترتفع وتتحسن.

ما بين النكسة والكرامة تسعة أشهر ونصف. تمكّن الجنود خلالها من أن يدخلوا حربًا جديدة مع العدو، كانوا مصرّين فيها على رفض الانسحاب.

شعار الجيش العربي الذي يحتفظ به علي سليمان في منزله، تصوير دانة جبريل

سير المعركة

تلقت الاستخبارات العسكرية برقية تكشف ساعة الصفر للهجوم الذي ينوي العدو شنّه. اجتمع إثرها مشهور حديثة مع القيادات في الفرقة للتنسيق معهم بحسب ما ينقل الحاج علي الذي حضر اللقاء.

يقول الحاج علي إن الفريق الركن مشهور حديثة طلب إحضار الكنافة، وأخبرهم بساعة الصفر، وسألهم عن رأيهم، فأخبروه جميعًا بأنهم مستعدون. وأصرّ في السؤال للضباط، حتى أقسم الجميع على المصحف أنهم لن يقبلوا الانسحاب، إما النصر أو الشهادة.

استعد الجميع للمعركة، وكما يروي الحاج علي، كان على جميع الوحدات أن تكون جاهزة للرماية خلال أقل من دقيقة، وعلى الجنود أن يُبقوا أيديهم على الزناد. كما أرسلت المعلومة للفدائيين في بلدة الكرامة بنيّة العدو شنّ هجوم على المنطقة. وفي الساعة الخامسة و35 دقيقة فجرًا، بدأ الهجوم كما يذكره الحاج علي: «كإنه جهنم قامت».

بدأ العدو عدوانه بمشاركة قواته المختلفة، «دبابات، مشاة، مجنزرات، دروع. إحنا توقعنا خلص، إنّه مش رايحين يحلّوا عنا غير ليحتلوا المنطقة اللي همّه فيها»، يقول خالد علي محمد، مأمور الإشارة مع مجموعة 106 المقاومة الدروع. كان خالد ومجموعته يأخذون مواقعهم قرب مثلث العارضة، فوجئوا بوصول الدبابات إليهم، فصعدوا إلى الجبال الصخرية بين منطقتي العارضة والمثلث المصري، وبدؤوا بالرمي على الدبابات.

يقول مشهور حديثة في مقابلة تلفزيونية إنه أعطى أمرًا بفتح النار دون انتظار أوامر عليا: «أنا في معركة مفتوحة مقابل عدو، وعليَّ أن أقاتله وأبلغ قيادتي، لكن لا أقول لهم أطلقُ النار أو ما أطلق النار؟ إذن أصبحت أنا ناطور أو ما أنا مقاتل». ويضيف في مذكراته إن أفضل ما حصل في ذلك اليوم هو أن كل قائد ميداني كان يعرف ماذا عليه أن يفعل دون الرجوع إليه، ما مكّنه من التفرغ للتفكير بقرارات أكبر. وكان يتلقى الأخبار من الميدان فقط.

استمرت المعركة 16 ساعة، كانت خلالها «إسرائيل» عاجزة عن سحب آلياتها المدمرة وقتلاها. فشاهد الجنود الأردنيون الدبابات المتعطلة وبداخلها جثث القتلى.

اجتازت الدبابات الإسرائيلية ثلاثة محاور رئيسة استخدمتها في حربها في الكرامة، محور العارضة من جسر داميا إلى مثلث المصري، محور وادي شعيب، من جسر الملك حسين إلى الشونة الجنوبية، ومحور سويمة، من جسر الأمير عبدالله إلى ناعور.

يقول الحاج علي إن الأوامر أعطيت للمدفعية الثقيلة بتدمير الجسور التي كانت تعبرها آليات العدو. تلك المدفعية وصلت أصواتها، بحسبه، إلى عمّان والزرقاء. «وين ما رميت بتقتل، بجيشهم، بدباباتهم»، يقول علي سليمان، الذي نسي شعور الخوف الذي كان أصابه قبل المعركة، إذ إنه ومع اشتداد المعركة وتصاعد القصف أصبح الأمر «قاتل أو مقتول».

يقول مشهور حديثة إنه تلقى اتصالًا من الملك حسين قبل الساعة 11 صباحًا يسأله فيها عن الوضع، فأجابه أن الأمور جيدة، رغم أنها لم تكن كذلك في الحقيقة. «ما كان جيد، ولكن أردت أن أصمد»، يقول حديثة خلال لقاء تلفزيوني مع قناة الجزيرة. بعدها تلقّى اتصالًا ثانيًا من الملك يبلغه فيه بأن «الجماعة» يرغبون في وقف إطلاق النار، «وأنا قلت إنه يجب ألا نوقف». ويوضّح أن العدو طلب وقف إطلاق النار بعد إحداث خسائر كبيرة في دباباته وطائراته نتيجة استخدام المدفعية الثقيلة. وكان يريد سحب آلياته التي تعطلت وقتلاه.

سمع الجنود أخبار الطلب الإسرائيلي بوقف إطلاق النار، «صارت معنوياتي عالية (..)، خشّوا بفكروها شغلة فوضى لقوا قدامهم ناس أشرس منهم»، يقول علي سليمان، الذي كان يعتلي أحد جبال العارضة مع وحدات المدفعية. رغم أن الطائرات كانت تزيد من قصفها بحسب خالد، إلا أن الجنود استبسلوا.

يعيد مشهور حديثة السبب وراء عدم سقوط خسائر كبرى جرّاء القصف الجوي «لجودة الخندقة» التي اتبعها جنود الفرقة، حيث إن الطائرات لم تكن تستطيع إصابة الهدف بشكل مباشر، في وقت توجهت فيه أسلحة الدبابات إلى طائرات العدو أيضًا.

على بعد كيلومترات من الجبال والمغارات التي حملت المدفعيات والدبابات الأردنية، كانت قوات المظلية الإسرائيلية تنفّذ إنزالًا مظليًا خلف بلدة الكرامة، فاشتبك المظليون مع الفدائيين الذين كانوا في البلدة. يقول الحاج علي إن الفدائيين «ربطوا أنفسهم بقنابل، وتخندقوا تحت الدبابات من أجل تفجيرها، واستخدموا السلاح الأبيض، واستبسلوا في القتال».

في الخنادق غرب الكرامة أصيب خالد عوض، الجندي في كتيبة سعد بن أبي وقاص، نتيجة سقوط صاروخ على الخندق، ففقد الوعي بعد خمس ساعات من مشاركته في المعركة، ونقل لمستشفى ماركا حيث استيقظ بعد ثلاثة أشهر ليجد نفسه مصابًا برأسه ويده وقدمه.

لم تشاهد زوجة خالد عوض، أم فارس، من معركة الكرامة سوى الطائرات التي كانت «رايحة جاي» وهي التي كانت تسكن في الأغوار. وكان شقيقها وزوجها عسكريين في الجيش. «كنت أتوقع أي وقت يقولولي واحد منهم راح من شدة الطيران».

استمرت المعركة 16 ساعة، كانت خلالها «إسرائيل» عاجزة عن سحب آلياتها المدمرة وقتلاها. فشاهد الجنود الأردنيون الدبابات المتعطلة وبداخلها جثث القتلى. «العدو جبان»، يقول خلف علي سميري، الجندي في كتيبة حمزة بن عبد المطّلب، «كانوا مجنزرين عشان ما يهربوا، بس إيديهم تسوق».

بدأت القوات الإسرائيلية بالانسحاب عصر ذلك اليوم بشكل منظم بحسب الحاج علي، لكنها لم تصمد أكثر من ربع ساعة في انسحابها المنظم قبل أن يصبح الأمر هروبًا نتيجة قوة قصف المدفعية وباقي أسلحة الفرقة، التي استمرت للساعة التاسعة مساءً، موعد نهاية المعركة.

أحمد الحاج علي في منزله، تصوير: دانة جبريل

ما بعد المعركة

السبب الرئيس للنصر في ذلك اليوم بالنسبة لخالد يكمن في المعنويات العالية للجنود، ويقول إنه «كان الكل شايف بعينه، هي اليهود قدامك هسه بدك تبيّن مراجلك. يا بتقول بدي انهزم يا أستبسل وأموت». بينما يجد الحاج علي أن لتعزيز مشهور حديثة اللامركزية ومنحه القادة الميدانيين حرية القرار أثرٌ كبير.

عاد الجميع إلى منازلهم بحسب ما يقول خلف، حيث أمر القائد بمنح الجنود أسبوعًا كإجازة، إلا أنّ المواجهات على خط الحدودي لوادي الأردن لم تتوقف، وكان للنصر في المعركة دورٌ في تصاعد العمليات الفدائية ضد العدو بحسب مشهور حديثة.

ماذا يقولون اليوم؟

انتهت خدمات خالد وخليفة وخلف في بداية السبعينيات، دون أن ينالوا التقاعد العسكري، لأنهم غير مستحقين بموجب قانون التقاعد العسكري بحسب ما أوضحته لهم القيادة العامة، ونالوا مكافآت قدرها خمسة آلاف دينار لكلٍ منهم لمرة واحدة عن خدمته في الحرس الوطني قبل عام 1960.

عمل ثلاثتهم في الزراعة في سلطة وادي الأردن، ويتقاضون الآن رواتب تقاعدية عن ذلك العمل، لكنهم يطالبون بتقاعدات عسكرية وتأمينات صحية عسكرية نتيجة خدمتهم في الجيش.

ينظر خالد للقضية الفلسطينية بأنها «انتهت وشربوا عليها المي». رغم أنها قضية حية في قلوب أصحابها بحسبه. ويجد في اتفاقيات السلام المبرمة مع «إسرائيل» لاحقًا تجويعًا للشعوب. فالدول، كما يرى، أصبحت تنتظر المساعدات والمنح من الدول المانحة، والتي ترتبط بالسلام المبرم مع «إسرائيل». إضافة إلى ما يراه محاولة لتطبيع العلاقات الناس مع العدو. «قبل هيك بتعرف إنه إنت زلمة في الحياة في إلك عدو، وهي العدو قريب منك بدك تشد حيلك وتعيش مش مركن إنه والله بدها تيجي أمريكا تعطيك شوية مصاري وتسكّت العالم فيهم. هذا مكنش وارد، هسه الناس شوي شوي طبّعوها. في سلام أكلتوا خبز، فش سلام بتوكلوش خبز»، يقول خالد.

استمر علي سليمان عبد الكريم في خدمته العسكرية بعد المعركة، وتدرّج في رتبه حتى وصل لرتبة رقيب، إلا أنّه ترك الخدمة عام 1983 لرغبته في التفرغ لتربية أولاده، كون خدمته العسكرية كانت تقتضي ابتعاده عن عائلته لفترات طويلة، وبدأ بعدها العمل في الزراعة وأعمال أخرى حرّة.

يعز على علي سليمان بعد خدمة عسكرية استمرت 22 عامًا أمران، الأول عدم قبول أي من أبنائه الثمانية في الجيش، وهو الذي احتفظ لهم بشعار الجيش العربي الذي كان مثبتًا على «حطّته». والثاني تهميشه من الاحتفالات المقامة لمعركة الكرامة، حيث لم يُدعَ لأي احتفال رسمي أقيم إحياءً لذكرى المعركة. «هو مين أحياها الكرامة؟ مش أنا وغيري من زملائي، إنتو اللي كنتو بعمان وخلقتوا مبارح سويتوا كرامة؟ ليش بتنسوني؟ ليش مُهمَل؟»

أما خالد عوض «أبو فارس» فحاولت زوجته إقناعه بعدم العودة للجيش مرة أخرى لعدم ملاءمة وضعه الصحي إلّا أنه كان مصرًا على الخدمة مجددًا، لكن كثرة الإجازات بسبب وضعه الصحي، تسبّبت في تقاعده المبكر من الخدمة بسبب المعلولية، وقد حصل على التقاعد والتأمين الصحي.

تضحك أم فارس وهي تروي قصة مشاركات زوجها العسكرية، وتقول: «وهسا جيل اليوم يقولولنا انهزمتوا، يعني ضليتوا منهزمين جاي، قال ما حاربتوهم! يعني  كيف ما حاربوا؟ والله إنهم حاربوا والله وقف معهم».

الجندي خالد عوض وزوجته أم فارس في منزلهما، تصوير: دانة جبريل

  • الهوامش

    1- كتاب معركة الكرامة، من رئاسة أركان الجيش العربي قسم التاريخ العسكري.

    2- كتاب معركة الكرامة، رئاسة أركان الجيش العربي قسم التاريخ العسكري.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية