«بشاكوش ومهدّة»: بحثٌ عن الأرواح تحت الأنقاض

الأحد 19 تشرين الثاني 2023
طواقم الدفاع المدني تخمد حريقًا اندلع في عدة منازل إثر استهداف في منطقة الزرقاء شرق مدينة غزة. المصدر: صفحة الدفاع المدني الفلسطيني على فيسبوك.

«طلعني يا خال بدي أموت»، جاء الردُّ من الأسفل على مناداة رجل الإنقاذ، أبو العبد[1] (29 عامًا)، فيما كان يحفر في الركام باحثًا عن ضحايا القصف الإسرائيلي لإحدى البنايات في غزة. ونظرًا لعدم وجود أية أجهزة تكشف عن وجود البشر تحت الركام، يلجأ الدفاع المدني في القطاع إلى مناداة من هم تحت الأنقاض أثناء عمليات الحفر اليدوي ليحددوا أماكنهم. أكملَ أبو العبد الحفر أكثر، فرأى ملامح الرجل الذي جاوبه لكنه لم يدرك بسبب الغبار والركام أن هذا الشخص هو خاله بالفعل. يقول أبو العبد إنهم معتادون على سماع كلمة «خال» كنِداء بين الغرباء؛ إلا أن أحد الجيران أخبره أن هذا خاله «فلان» كان يلجأ في هذا المنزل مع أبنائه دون أن يعلم.

«أنا لما حكالي خالي كذا، صار فيّا تأثر» يقول أبو العبد، إلّا أنه فكر بأنه لا يمكن أن يتوقف عن العمل بسبب تأثره، حتى لا تتهدد حياة خاله «فالحمد لله رب العالمين إداني القوة، وخرجناه» أخرج خاله فاقدًا لعينه وأحد أطرافه وأُخرج أبناء خاله الثلاثة شهداء.

أن ينتشل عاملو الدفاع المدني أقرباء لهم من تحت الأنقاض، موقف يمرّون بهم يوميًا، لكن، يضيف أبو العبد، «كل المواقف اللي بنمر فيها صعبة» تحديدًا عندما يستهدف القصف أطفالًا وكبارًا في السن. يقول إن هذه المشاهد تنال منهم يوميًا في الميدان، لكنه وزملاءه يتذكرون أنهم لن يتمكنوا من العمل إن لم يضعوا مشاعرهم جانبًا ويفكروا بإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح.

الدفاع المدني في دائرة الاستهداف

في الأسبوع الأول من الحرب على غزة، أصدر الدفاع المدني في القطاع بيانًا قال فيه إنه قد وزّع آليات الإنقاذ والإطفاء التي يمتلكها، وكان عددها وقتها 32 آلية، على محافظات القطاع المختلفة. وهو العدد الذي لا يكفي لتغطية احتياجات القطاع، ومع تزايد القصف الإسرائيلي، وصل عدد الوحدات السكنية المهمدة بشكل كامل، أو تلك التي لم تعد قابلة للسكن إلى 42 ألف وحدة، فيما بلغ عدد الوحد المتضررة بشكل جزئي 223 ألف وحدة، بحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي.

هذا النقص في أعداد المركبات أعاق تنفيذ العديد من المهام أو تأجيلها لحين الانتهاء من المهام الميدانية المفتوحة. وحتى اللحظة تشير إحصائية أضرار العدوان على القطاع إلى وجود أكثر من ستة آلاف بلاغًا عن مفقودين تحت الأنقاض أو أن جثامينهم ملقاة في الشوارع من غير أن يصل إليها أحد.

وليست مقرات الدفاع المدني بعيدة عن الاستهداف الإسرائيلي، فقد بات أفراد الجهاز يعون جيدًا أنه لا ينبغي فقط أن يتوقعوا أن أقرباءهم وعائلاتهم قد يتواجدون في مناطق مستهدفة، بل هم أيضًا معرضون للاستهداف بأية لحظة أثناء تأدية العمل. فمنذ بداية العدوان على غزة وحتى 16 تشرين الثاني, أعلن الدفاع المدني الفلسطيني عن استشهاد 22 من أفراده. وإصابة 100 منهم، بحسب تصريحات الناطق الرسمي باسم جهاز الدفاع المدني في غزة محمود بصل، معظمهم وقعوا ضحية استهدافات مقصودة على سياراتهم ومواقعهم.

يعمل الدفاع المدني في غزة بشكل عام على تقديم خدمات الطوارئ وتوفير الإنقاذ للمدنيين في السلم والحرب والكوارث وعلى الحد من الأزمات، إلا أنه لا يقدم خدمات الإسعاف إلّا في حالات الحرب، وكانت سيارة الإسعاف الموجودة لدى كل محافظة متخصصة فقط بإسعاف أفراد الدفاع المدني، ولكن نظرًا لكثافة الاستهدافات صار الدفاع المدني يسعف أبناء غزة من المصابين أيضًا. في بداية الأحداث ذهب أبو أكرم (23 عامًا) وزملاؤه الثلاثة إلى موقع استهدافٍ يوجد فيه شهيدان؛ وبعد أن وضعوهما في الأكفان، هاجمتهم طائرة هليكوبتر إسرائيلية وأصابت سيارة الإسعاف و15 مدنيًا بالرصاص بحسب أبو أكرم: «أنا الحمدلله قدرت نزلت تحت سيارة والحمدلله متصاوبتش، بس زملائي (..) كلهم تصاوبوا»، واستطاعوا لاحقًا الانسحاب من مكان الاستهداف، لكن لم يتمكن الأطباء من إجراء أي عملية لزملائه لإخراج الشظايا من رؤوسهم بسبب تدهور حال القطاع الصحي وعدم توافر الإمكانيات؛ «حتى الآن بقولك مستقرات الشظايا في الجمجمة عندهم». أمّا بالنسبة لسيارة الإسعاف فعملوا على صيانتها وإعادتها للخدمة.

ولم تقتصر الاستهدافات الإسرائيلية على رجال الدفاع المدني في الميدان بل أيضًا وهم في الخدمة في مراكز عملهم، ففي 15 تشرين الأول وبعد ثمانية أيام من عملية طوفان الأقصى، استهدف الاحتلال مركز مديرية الدفاع المدني في منطقة حي التفاح شرق غزة راح ضحيته ستة شهداء من أبناء الجهاز وأُصيب سبعة آخرون.

أثر 17 عامًا من الحصار على الدفاع المدني

يعمل جهاز الدفاع المدني في جميع المحافظات الخمس في غزة على 32 مركبة إطفاء وإنقاذ فقط موزعة بينهم. يقول مدير الدفاع المدني بمحافظة خانيونس، يامن أبو سلمان، إن سيارات الإطفاء قديمة ومهترئة جدًا وكثيرًا ما كانت تتعطل في المهام العادية قبل العدوان على القطاع، ومنذ 17 عامًا منع الاحتلال الاسرائيلي إدخال أي معدات ثقيلة إلى القطاع بحجة أنها تستخدم لأغراض عسكرية ضد «إسرائيل»، وتحديدًا مُنعت من الدخول معدات إزالة الأنقاض من بواجر وكباشات ومعدات الحفر، ويوجد لدى الدفاع المدني باجر واحد مشترك بين ثلاث محافظات وهي الوسطى وخانيونس ورفح، والمعدات المستخدمة اليوم صغيرة الحجم ولا تتحمل كل هذا الضغط في العمل بحسب أبو سلمان، واستطاع الجهاز الحصول على باجرين قَطَريين استخدما في العمل على مشروع مدينة حمد في القطاع منذ 2017 ولكن تم استهدافهما بالقصف الإسرائيلي وإخراجهما عن العمل بعد عملية طوفان الأقصى. ولذلك تتوجه مديريات الدفاع المدني للتعاون مع الشركات الخاصة التي تمتلك الآليات الثقيلة رغم قلتها وقِدم معداتها. يقول أبو سلمان إنه منذ بدء الحصار منعَ الاحتلال إدخال معدات الصيانة وقطع الغيار اللازمة لهذه المعدات، بمعنى أن «أي عطل لا نستطيع معالجته إلا بشق الأنفس».

يقول أبو العبد إن مهمة الوصول إلى من هم تحت الركام كانت شبه مستحيلة في بعض الأحيان خصوصًا مع قصف بنايات ضخمة وأحياء بأكملها، فالكريك والأدوات البدائية لا تجاري حجم الكارثة، ما اضطرهم في عدة مرّات إلى التوقف مؤقتًا عن العمل حتى وصول معدات ثقيلة من الشركات الخاصة، «والشركات مرة بتصدق معاك، ومرة ما بتزبط معاك». في حال لم يأتِ الدعم من الشركات الخاصة يستمرّون بالعمل «بشاكوش وبمهدة» لإخراج المصابين والشهداء أسفل المباني المنهارة.

بحسب تصريحات الناطق الرسمي باسم جهاز الدفاع المدني فإن نصف معدات الدفاع المدني وسياراته خرجت عن الخدمة بشكل كامل، وهو ما حدث في خانيونس، إذ أصبح أفراد الجهاز يذهبون لبعض المهام مشيًا على الأقدام.

يقول أبو أكرم إنهم يعانون أيضًا من مشاكل متعلقة بالمعدات المفترض توافرها داخل سيارات الدفاع المدني، كنقص الأكسجين وصعوبة تعبئته بسبب الأزمات، ونقص الأكفان «تخيل إنت كفن يستر على عورة البني آدم مش لاقي، صرنا نجيب حرامات ونلف الناس فيها»، عدا عن تمزق معظم الحمّالات العسكرية لنقل المصابين، حتى إنه اضطر لاستخدام «لوح الخزانة وحطيت عليه امرأة ونقلتها (..) وكانت حالتها صعبة وبدها تربيط بس خلص ما سمحش الأمر». بالإضافة إلى صعوبات تعبئة المياه لسيارات الإسعاف يتوقع أفراد الدفاع المدني توقف سياراتهم عن العمل بسبب نقص الوقود.

بحسب تصريحات الناطق الرسمي باسم جهاز الدفاع المدني فإن نصف معدات الدفاع المدني وسياراته خرجت عن الخدمة بشكل كامل، وهو ما حدث في خانيونس، إذ يقول أبو سليمان أن أفراد الجهاز أصبحوا يذهبون لبعض المهام مشيًا على الأرجل.

علاوة عن ذلك، أدى قطع الاتصالات في القطاع بشكل متكرر إلى تفاقم الصعوبات التي تواجه مديريات الدفاع المدني وتعطلها عن عملها، ففي الوقت الذي تعتبر كل دقيقة ذات أهمية بالنسبة للمصابين والعالقين تحت الأنقاض، يجد السكان صعوبة بإخبار الدفاع المدني عن أماكن الاستهداف. ولذا إمّا أن يسمع الطاقم دويّ القصف ويذهبون لتفقد الأحياء المستهدفة بأنفسهم، مستدلين عليها من رؤية النيران، أو أن يأتيهم الجيران بمركباتهم أو على عربات تجرّها الحيوانات أو مشيًا على الأقدام.

في حالات أخرى قد تصل المعلومات إلى المستشفيات قبل الدفاع المدني، وهنا يتحرّكون مع فرق الإسعاف فورًا باتجاه الموقع بحسب أبو سلمان. «لكن هذا يتطلب جهد ووقت» وهو تأخير يرفع من أعداد الشهداء، ومن فداحة إصابات الجرحى. يقول أبو سلمان إنه بعودة الاتصالات تكون الظروف أيسر عليهم، إلا أن الضغط الكبير على شبكة الاتصالات يعيق الوصول إليهم بشكل سريع. كما يشير إلى أن الإشكالية الأخرى التي تعيق التواصل بين الطاقم، هي سهولة رصد واختراق الموجات اللاسلكية من قبل الرادارات الإسرائيلية واستهداف مستخدمي الاتصال اللاسلكي من الدفاع المدني، لذلك مُنِعت الاتصالات اللاسلكية من الاستخدام منذ بداية العدوان على القطاع.

«كل قطاع غزة أهلي»

يقول شريف (26 عامًا) من دائرة الإطفاء والإنقاذ، إن الكوادر البشرية في الدفاع المدني في غزة تناقصت منذ بداية الاستهداف الإسرائيلي وحتى اليوم، بسبب الإصابات والاستهدافات للجهاز، وذلك بعد أن كان يضمّ طاقمًا من 800 موظف، منهم 600 يعملون ميدانيًا، وذلك بحسب تصريحات سابقة للناطق الرسمي باسم جهاز الدفاع المدني، محمود بصل، الذي يقدّر أن هذه القدرات تمثّل 50% من حاجة القطاع في الأيام الاعتيادية. لذلك بعد أن كانوا يداومون 12 ساعة تقابلها عطلة لـ24 ساعة بداية الأحداث، أصبحوا الآن يعملون 24 ساعة متواصلة، ومنذ أكثر من شهر حتى الآن لم يستطع شريف زيارة أهله سوى مرة واحدة لمدة نصف ساعة، ويتواصل معهم بالمسجات كلما استطاع، ويقضي كل وقته مع بعض زملائه في العمل «وبرضه في عنا زمايل دورهم انقصفت (..) يعني باعتبارنا نازحين بالشغل، ما بنروح عالدور بالمرة أو فش إلنا دور». علمًا أن بعض المديريات عند تضرر مقراتها لجأت إلى مقرات بديلة مؤقتة.

أن ينتشل عاملو الدفاع المدني أقرباء لهم من تحت الأنقاض، موقف يمرّون بهم يوميًا، لكنهم يتذكرون أنهم لن يتمكنوا من العمل إن لم يضعوا مشاعرهم جانبًا ويفكروا بإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح.

عند بدء العدوان على غزة، أخبر يامن أبو سلمان زوجته أنه لم يعد مسؤولًا فقط من عائلته المكونة من سبعة أفراد، ولكنه اليوم يتحمل مسؤولية نصف مليون شخص في محافظته، «بهذا المقام لا مجال للعودة إلى الوراء، ولا للتخلي عن أبناء شعبك» يقول أبو سلمان الذي لم يتمكن من رؤية أهله سوى سويعات معدودة طيلة أكثر من شهر، «أنا عندما تحين الفرصة لزيارة أهل بيتي أودع أهل بيتي وداع المفارق» مفسرًا ما يشعر به بأن لا مكان آمن، لا بالعمل ولا بالأحياء، فالاستهدافات الإسرائيلية لا تفرق بين أحد.

بمجرد وصولهم إلى مكان الاستهداف، يشعر أبو سلمان أن المستهدفين هم أهله وأبناؤه، وهو يخشى من أن يكون أهله بالفعل في موقفٍ يَصعُب عليه تحمّله ولكنه مع كل مرة يطمئن فيها أن أهله بخير، تقضي على ثباته مشاهد الشهداء والأطفال، خصوصًا مع تأثير الأسلحة المحرمة دوليًا عليهم. «المشاهد كانت صعبة ومؤلمة جدًا» يقول، ومع ذلك لا يستطيع البكاء خوفًا من انهيار الطاقم الذي يعمل معه. «اليوم نحن نبكي بصمت (..) نعود من المهام أجلس بغرفتي أبكي كالأطفال على الناس الذين رأيتهم».

يتطلب العمل في الدفاع المدني بغزة اليوم الكثير من تحييد المشاعر. يقول شريف إنهم جميعًا واجهوا العديد من المواقف الصعبة، وإن لم يفقدوا أحد أفراد عائلتهم، فقد شاهدوا زملاءهم يحصل لهم ذلك، وشاهدوا انهيارات الناس أمامهم. ورغم الليالي الصعبة التي لا تفارقه فيها هواجسه حول إن كان أهله بخير، وإن كان بيتهم بخير. يحاول هو وزملاؤه احتواء الناس في هذه المواقف. يحكي أن واحدة من أصعب المواقف التي واجهته في العمل هي عندما تفاجأوا باستشهاد أخت زميله، وذلك بعد أن توجهوا لمهمتهم بعد أذان المغرب، كان كل أهلهِ تحت الأنقاض وكان هنالك عشرون نازحًا تقريبًا، استطاعوا إخراج عدد كبير من تحت الأنقاض ولكن أخته وابنتها استشهدتا، «الموقف كان صعب، أول ما وصل تقريبًا صارت معاه حالة هستيريا»، لكن رغم هذا، وبعد تهدئة زملائه له، هدأ قليلًا، بل وواصل العمل معهم.

أهلي على عيني وراسي، يقول أبو العبد، مضيفًا، لكن «والله أنا بالنسبة إلي كل قطاع غزة أهلي».

يروي أبو أكرم قصة حصلت معه خلال العدوان، وقتها كان في عطلة، ولكن حصل استهداف لمنزل بالقرب من مكان تواجده، فخرج مرتديًا سترة الدفاع المدني، «ضليتني أشتغل، الحمدلله طلعت ثلاثة عايشين» يقول مبتهجًا.

  • الهوامش

    [1] ذكرت أسماء بعض الشخصيات بالكنى، بناء على طلب من أصحابها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية