ناصر حمّاد يحرق نفسه بعد سنوات من ديون فواتير الكهرباء

الأحد 29 تشرين الثاني 2020
ناصر حماد أحرق نفسه
تصميم ندى جفّال.

مساء السبت، 14 من الشهر الحالي، في حيّ شعبيّ في منطقة القويسمة جنوب عمّان، وسط أنظار أبناء الحي المتجمعين حوله، وبعد سنوات من المحاولات المستمرة لحل مشكلة الديون المتراكمة عليه وعلى زوجته وابنته، سكب الجدّ الخمسيني ناصر حمّاد البنزين على جسده، وأحرق نفسه.

بدأت قصّة تدهور الوضع الاقتصادي لحمّاد قبل 20 عامًا تقريبًا، حين كان يعمل سائقًا في شركة لافارج للإسمنت في الفحيص، إذ كان من بين الذين سُرّحوا ضمن ما أطلقت عليه الشركة حينها نظام التسريح بحوافز، بحيث نال مكافأة مقطوعة قدرها 12 ألف دينارًا، بحسب شقيقه خليل. 

واصل حمّاد العمل في المهنة التي يتقنها؛ في البداية اشترى قلّابًا، وفي أحد أيام العمل، تعرّض لحادث سير في طريقه من عمّان إلى الحسا، توفي على إثره رجل سوريّ كان يستقل السيارة المقابلة في الحادث. حاول ناصر حمّاد معاودة العمل على القلّاب غير أن الحادث كان قد أثرّ فيه نفسيًا. «صار لمّا يطلع على السيارة ما يتحمّل. حاولنا نطلّعه من هذا الموضوع، إنه خلص هذا قضاء وقدر إنت مش قاصد وحادث. كل ما يطلع ويتذكّر إنه في واحد توفى، [يقول] أنا ما بقرّب على السيّارة، أطلع فيها أسوق 100 متر بجوز أقتل كمان واحد»، يقول خليل، مضيفًا أن ذلك دفع شقيقه في النهاية لبيع القلّاب قرابة العام 2002.

عاد ناصر حمّاد، الأب لثلاث بنات وثلاثة أبناء، واشترى سيّارة تكسي، دفع من ثمنها 13 ألف دينار دفعة واحدة، وبدأ يقسط الباقي، لكنه ما لبث أن باعها هي الأخرى لشخصٍ أقنعه أن أسعار سيّارات التكسي ستهبط لوجود مستثمر ينوي إدخال عدد كبير من السيّارات إلى السوق، وفق ما يروي شقيقه خليل.

انتقل بعدها للعمل في نقل طلّاب المدارس، فاشترى حافلة نقل متوسطة مستعملة بالمبلغ الذي باع فيه التكسي، وعندما انتهى العمر الافتراضي للحافلة باعها بمبلغ بسيط واشترى به حافلةً صغيرة (باص هونداي) لنقل طلّاب المدارس. ومنذ ذلك الوقت في العام 2007، صارت الحافلة الصغيرة مصدر رزقه الوحيد، يصرف حين يداوم الطلّاب ويتدبر أمره بالعافية في إجازات المدارس، فتراكمت عليه الديون تلك الفترة.

«صار يسكّر حاله أول بأول، هان بلشت المعاناة، دخله بطّل يقدر يغطي مصروف بيته، وصار في عليه شوية ديون»، يقول خليل. خلال هذه الفترة لم يكن ناصر حمّاد قادرًا على تسديد فواتير الكهرباء التي صارت تتراكم عليه، ففصلت الشركة التيار الكهربائي عنه. لأيام، انتظر ناصر حلًا، وسط بيتٍ بلا كهرباء، قبل أن يسحب خطّ كهرباء من خلف العدّاد بطريقة غير قانونيّة.

عدّاد الكهرباء في منزل ناصر حمّاد وأحد فواتير الكهرباء المتراكمة عليه. تصوير عمّار الشقيري

يعد ناصر حمّاد ضمن 40% من مجمل المشتركين الذين عليهم أربع فواتير كهرباء أو أكثر غير مسددة، بين مشتركي شركة الكهرباء الأردنيّة، المختصة بتوصيل الكهرباء إلى محافظات عمان، والزرقاء، ومادبا، والبلقاء. فيما بلغت الذمم المترتبة للشركة على المواطنين قرابة 454 مليون دينار منذ بداية العام 2020 وحتى نهاية شهر أيلول الماضي. وبلغ مجموع الذمم على المشتركين لشركات الكهرباء الثلاث التي تزود الكهرباء في مختلف مناطق المملكة السنة الماضية نحو 844 مليون دينار. 

وفقًا للمادة 3 من التعليمات المنظمة لقطع الكهرباء عن المستهلكين، يفصل التيار الكهربائي بعد مرور 30 يومًا على آخر فاتورة صدرت دون تسديد، لكن المستشار القانوني في شركة الكهرباء الأردنية، صلاح خزاعلة، يقول لـ«حبر» إن الشركة تراعي في بعض الأحيان الحالة الاقتصادية للمواطنين ولا تفصل التيار مباشرة بعد مرور المدة المنصوص عليها. 

في عام 2016، كشفت الشركة تجاوز ناصر، وفصلت التيار الكهربائي عن بيته، فارضةً عليه جرّاء الاعتداء مبلغًا قدره 2339 دينار، هو بدل ما استهلكه من كهرباء بشكل غير قانوني، بالإضافة إلى الفواتير السابقة المتراكمة عليه.

قرّر ناصر حمّاد أن يخلّص ما عليه من أموال وفواتير متراكمة، فباع الحافلة الصغيرة بنحو 2500 دينار، وأخذت زوجته وابنته قرضًا بقيمة 1000 دينار من إحدى شركات التسهيلات المالية، كما يقول شقيقه خليل. كما لجأ ناصر حمّاد إلى ربحي عوض، أبو أحمد، أحد وجهاء المنطقة. «أجاني المرحوم على البيت، قال لي أنا الكهربا بدها مني ذمم، بس أنا المبلغ مش متوفر معي كامل، قلت له عمي مش مشكلة بنروح وبنشوف»، يقول أبو أحمد. 

تخوّف ناصر من سجن ابنته وزوجته لعدم تسديد الأقساط، وقال لزوجته أخيرًا «أنا بدي أريّحكم وتخلصوا من شركة الكهربا ومن القرض»، وفق ما يروي شقيقه.

زار أبو أحمد، وناصر، وابنه أحمد، شركة الكهرباء بقصد التفاوض على تقسيط المبلغ. وافقت الشركة من حيث المبدأ وطلبت منه أن يدفع دفعةً وأن يقسّط الباقي على قسطٍ شهري من 600 دينار. «قلت له والله يا عمي لو معانا 600 دينار ما جيناك، هذا رجل فقير والله يا عمي، إيش رأيك 200 يا 250 عند اللزوم ونخلص من هالموضوع؟»، يروي أبو أحمد، إلا أن الشركة رفضت بحسبه، فعاد ناصر إلى بيته، وأعاد وصل التيار الكهربائي مرة أخرى بشكل مخالف. وفي شباط 2017، اكتُشف أمر العداد مرة أخرى، وسجلت حالة عبث جديدة عليه بمبلغ 462 دينارًا. 

ولم تعلق الشركة على ملف ناصر وتفاصيل المفاوضات معه حول التقسيط، إلا أنها قالت إنها لا تحدد سلفًا أي مبالغ بعينها، وإنما يخضع الأمر للمفاوضات.

مع تراكم الفواتير السابقة، التي تجاوزت إحداها الـ760 دينارًا، والمبالغ المترتبة على سحب الكهرباء، رفعت الشركة عليه قضيّة نهاية العام 2017، وصار مطلوبًا للقضاء، فلم يعد قادرًا على العمل.

بدأ المبلغ الذي حصّله ناصر من بيع الحافلة الصغيرة والقرض يتقلّص، إذ كان بلا عمل. وبحسب ابنه أحمد وأحد أقربائه، دفع ناصر كذلك 750 دينارًا لوسطاء مقابل وعود حل مشكلته، دون جدوى.

ساء الوضع المعيشيّ لعائلة ناصر تلك الفترة، إذ بدأ ما معه ينفد. «[صرنا] نلملم حالنا الفترة هاي، ابنه متزوج وعنده بيت، أنا من هان، أخوي من هان، نستّر بحالنا تستير، وندعّ [ندفع] بحالنا» يقول خليل. وفي حزيران 2019، سُجلت على ناصر غير القادر على العمل حالة عبث أخرى بقيمة 3262 دينارًا.

في منتصف العام الحالي، عاود ناصر محاولة إنهاء موضوع مستحقات شركة الكهرباء، بمساعدة ابنه أحمد الذي يعمل موظفًا في أمانة عمان الكبرى بمرتب شهري قدره 320 دينارًا، في محاولة أخيرة لتسديد كامل المبلغ دفعة واحدة، إذ اتفقا على أن يأخذ أحمد قرضًا بـ10 آلاف دينار من أحد البنوك. وافق البنك في البداية، لكنه رفض المعاملة بعد فترة، كما يقول أحمد، بحجة أن الراتب لا يكفي لتغطية القرض.

كانت تلك هذه المحاولة الأخيرة قبل أن يستسلم ناصر للأمر، إذ لا عمل يسيّر فيه شؤون البيت، وليس لديه حريّة الحركة ليذهب للعمل كما كان سائقًا على سيّارة تكسي، وصار ملازمًا البيت معظم الوقت. يقول أهالي الحارة التي يسكن فيها إنه لم يعد حتّى يصل سوق السبت الشعبي، البعيد عن بيته أمتارًا قليلة، وإن خرج من البيت يظل يتلّفت في جميع الاتجاهات، خوفًا من القبض عليه.

الدرج المؤدي إلى منزل ناصر حماد في القويسمة. تصوير عمار الشقيري.

قبل الواقعة بليلة

«اسمي صلاح عبد الرحمن، من يوم ما وعينا على الدنيا وإحنا مع بعض». هكذا يبدأ صديق طفولته رواية ما جرى معه مساء الجمعة، 13 تشرين الثاني الجاري. إذ نزل صلاح من الطابق الثاني في بيته ليتفاجأ على غير العادة بأن ناصر نائم في المضافة المفتوحة لأبناء الحارة، في الطابق الأول من البيت.

ترك صلاح صديقه يكمل نومه، وعندما أفاق سأله: «مالك؟ قال والله ما أنا طايق لا الحارة ولا الدنيا، مش طايق حالي». أكمل ناصر السهرة مع صلاح حتّى الساعة الثانية عشرة، ثم توجه لباب الحارة ليجد ابنه أحمد، فبقي معه لبعض الوقت. «[كان] يمزح مع أولاد الحارة، طبيعته بيحب يمزح، ما كان مبين عليه إشي»، يقول أحمد الذي افترق عن والده قرابة الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل.

صباح السبت، أفاق ناصر على مكالمةٍ من الجهة المقرضة لزوجته وابنته، التي أخبرته بضرورة تسديد القسط الشهري البالغ 75 دينارًا، فردّ: «منين أجيب؟» إذ لم يكن يملك منها شيئًا. تخوّف ناصر من سجن ابنته وزوجته لعدم تسديد الأقساط، وقال لزوجته أخيرًا «أنا بدي أريّحكم وتخلصوا من شركة الكهربا ومن القرض»، وفق ما يروي شقيقه.

خلال حديثنا مع خليل، كان ابن ناصر، عبد الوهاب (12 سنة)، يجلس على الأرض ويستمع للحوار دون أن يعكس وجهه أي تعابير. لكنه تنبّه عندما بدأ خليل برواية ما جرى بعد مكالمة ناصر مع مندوب الشركة المُقرضة. يقول خليل وهو يشير إلى عبد الوهاب: «بعث ابنه، قال له روح اشتري لي بنزين، هذا الولد بيعرفش ليش، راح جاب له بنزين».

عبد الوهاب وعمه خليل حماد، شقيق ناصر. تصوير عمّار الشقيري.

ظهر السبت، اتصلت زوجة ناصر بابنه أحمد الذي يعمل في الأمانة، والذي اتصل بدوره بعمّه خليل قائلًا: «عمّي أنا بالشغل، أمي حكت معي وأبوي كأنه مشتري بنزين وبيقول بدي أحرق حالي».

خرج خليل مسرعًا وسط صيحات عائلة ناصر عليه عندما بدأ يسكب البنزين على غطاء لفّه حول جسمه. وعندما رأى شقيقه سكب باقي البنزين على رجليه، ومشى إلى الشارع. وصل خليل وفاوضه محاولًا إلهاءه حتى يتمكن من منعه. «هجمت على القداحة إني أوخذ القداحة، مستحكمها أكثر مني، تجاحشت أنا وإياه، شد القداحة (..) قدح شرارة النار أخذته كله مرة وحدة».

اشتعلت النار في جسد ناصر بين البيوت القريبة من سوق السبت، حيث يعمل الكثير من أهالي الحارة بنظام المياومة أو بأجور منخفضة. «كان عارف حتى اللي حواليه زي حالته، بدك تيجي تطلب؟»، يقول قريبه شعيب الذي كان شاهدًا على الحادثة.

نقل ناصر إلى مستشفى البشير بحالة حرجة، ووضع على جهاز تنفس صناعي، لكنه لم يكمل في المستشفى 24 ساعة، فمع ظهيرة يوم الأحد كان قد رحل.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية