شهِد الأردن ماراثونًا نيابيًّا ضدّ صفقة الغاز يومي الثلاثاء والأربعاء. فبعد افتتاح وزير الطاقة محمد الحامد للجلسة، أعاد الحامد مغالطاته حول أنّ مصدر الغاز من المتوسط، ومن شركة أمريكية، وأنّ هذه الصفقة ستوفّر على الاقتصاد الأردني الكثير. أبدت الغالبية الساحقة من النواب رفضها لصفقة الغاز الإسرائيلية، بينما عبّر 15 نائبًا عن دعمهم المشروط لهذه الصفقة بإمكانية عدم وجود بدائل أخرى.
وبعد انتهاء هذا الماراثون النيابي، قدم رئيس الوزراء عبد الله النسور بمرافعة تشبه ببلاغتها مرافعته الشهيرة إبّان «هبة تشرين» بهدوء وأبويّة حنونة، قال فيها : «لسنا عملاء لأحد» و«لم نؤمر من جهة». الغريب في خطاب النسور الذي التزم المضي في هذه الصفقة وتحمّل «المسؤولية التاريخية والسياسية والاقتصادية»، هو أنّه يتحدّث وكأنه سيتحملها وحده، لا الشعب الأردنيّ الذي سيدفع ثمن الغاز المسروق.
كان الخطاب الحكومي في الجلسة ركيكًا جدًّا، حتى وإن حاول الحامد ومعه «اليساري الاجتماعي» الوزير خالد الكلالدة ممارسة الابتزاز على الشعب الأردني، بعد أن «أحرجه» النائب سمير عويس بحديثه عن تشجيع الكلالدة له على تحشيد الرأي العام الرافض لهذه الاتفاقية كوسيلة وحيدة لوقفها.
يفترض العديد من المواطنين أن التطبيع والدمج الهيكلي مع إسرائيل سيعود بالفائدة المباشرة عليهم وعلى «الوطن»، لماذا إذن تقدم حكومة النسور على هذه الخطوة إن لم تكن في خدمة «مصلحتنا»؟ فالرئيس يريد «تدبير شؤوننا». لكن ماذا إن لم يكن هنالك أي نوع من الفائدة؟ أو ماذا إن كانت الفائدة محدودة ببضع ملايين قد نوفرها في الكثير من السياسات التي يطالب بتنفيذها الشعب الأردني منذ سنوات؟ كيف سنفسر عندها إقدام الحكومة على قرار ذي ثمن استراتيجي واضح إن لم تكن «المصالح الاقتصادية للأردن» تبرر الاعتبارات «العاطفية»، الوصف الذي أطلقه فهد الفانك على كل آراء المناهضين للغاز؟
إن لم تنصع لإسرائيل، ستطفئ الحكومة أضواء بيتك
يهدد الحامد الشعب الأردني بـ«انقطاعات مبرمجة للكهرباء قد تصل إلى 8 ساعات يوميًّا»، و«رفع أسعار الكهرباء بنسب عالية جدًا للوصول إلى استرداد الكلف». ويعود وزير التنمية السياسيّة بعد انتهاء الحامد، بحديث عن الانطفاءات ورفع التعرفة. قد يتعجب الخبراء في الاقتصاد والطاقة من هذا الخطاب؛ فكما صار معلومًا لدى الأردنيين أنّ الغاز من حقل ليفياثان، وإن نجح المطورون باستخراجه لن يخرج قبل عام 2018 على أحسن تقدير، وفي الغالب سيتأخر حتّى عام 2019 في حال وجود تأخيرات وصعوبات في تأمين التمويل. فإن كانت شركة الكهرباء تخسر الآن ولأربعة أعوام قادمة، فلماذا لم تبدأ الانقطاعات؟ قد يكون السبب هو أنّ موضوع الانقطاعات أمرٌ غير وارد أصلًا في كامل قطاع الكهرباء الأردني؛ إذ تتوفر قدرة إنتاجية أعلى من الطلب، وحيث مشكلة الخسائر ناتجة عن وضع طارئ لن يدوم ولا يجوز أن يدوم حتى عام 2019، ولا يبرر الانقطاعات اقتصاديًا.
أمّا بخصوص رفع التعرفة، فهي قائمة حتّى وإن وقّعت الحكومة اليوم على صفقة استيراد الغاز الإسرائيلي، ولن تنخفض في عام 2018. وأي قارئ للاقتصاد من غير المدرسة النيوليبرالية، سيعرف بأنّ رفع التعرفة ليس أمرًا حتميًّا، لا الآن ولا حتى في عام 2018؛ فالمحدد الوحيد لرفع التعرفة هو الانصياع طوعًا إلى ما اتفقت عليه الحكومة نفسها مع صندوق النقد الدولي.
الحكومة تصوّر الموازنة وبنودها ومؤشراتها بإيجابية، خاصة مع دخول مشاريع الطاقة البديلة، والأهم من ذلك عمل ميناء الغاز المسال في منتصف العام القادم، والانخفاض الحاد بأسعار النفط، والذي قد يوفر 1.6 مليار دولار على الاقتصاد الأردني بحسب تقديرات زياد فريز رئيس البنك المركزي: (انخفاض 20% يعني 800 مليون دينار، وعليه فانخفاض 40% كما هو الآن يعني 1600 مليون دينار). فلماذا ترهب الحكومة الشعب الأردني بهذه الطريقة؟
كذبة بمليار دينار (أو أكثر قليلًا)، أم خطر استراتيجي على الأردن؟
تضخّمت «تقديرات» الحكومة للوفر المتوقع إذا ما تمّ استيراد الغاز الإسرائيلي في ظرف شهرين فقط؛ فمع إعلان «رسالة النوايا» في أيلول/سبتمبر الماضي كانت أوّل التقديرات والتي صرّح بها رئيس لجنة الطاقة في الأعيان جواد العناني، ومعه الكاتب الاقتصادي فهد الفانك، إذ بدأ الوفر بـ700 مليون دينار أردني أي مليار دولار. مع نهاية تشرين الأول/أكتوبر، رفع الوزير محمد الحامد في قمة رويترز «الوفر» إلى مليار دينار أردني أي: 1.4 مليار دولار.
في خطابه الأخير أمام مجلس النواب، يزيد الحامد ذلك الوفر إلى 1.3 مليار دينار! (أي: 1.8 مليار دولار). كما ويدّعي الحامد ومعه وزير المالية أمية طوقان، بأن استيراد الغاز من إسرائيل لا يشكّل خطرًا على أمن التزوّد بالطاقة، لأنه لن يشكّل أكثر من «20% من خليط الطاقة».
بعيدًا عن استفزاز طوقان للرفض الشعبي والنيابي بتصريحه عن مضيّ الحكومة بالاتفاقية، فقد غفل وزير المالية عن أنّ تصريحه ذلك يتعارض مع الادعاء بالوفر، ويتعارض أيضًا مع تهديدات الوزيرين برفع التعرفة والانقطاعات بسبب الخسائر.
كامل مصاريف شركة الكهرباء الوطنية، والتي تتحجج الحكومة الأردنيّة بخسائرها لاستيراد الغاز الإسرائيلي، بلغت 2.22 مليار دينار أردني في عام 2013 (3.177 مليار دولار). فإذا كان الغاز الإسرائيلي لن يستبدل إلا 20% من الحِمل الكهربائي، فذلك يعني أنّه لن يستبدل إلا 20% من المصاريف (أي 20% من 2.22 مليار دينار). وبذلك، فإن الوفر الممكن من الغاز الإسرائيلي يكمن في كهرباء تكلّفنا حاليًا في أسوأ الأحوال 444 مليون دينار سنويًا* فقط. لماذا إذن نوقع صفقة لشراء الغاز بمليار دولار سنويًا؟
حكومة نيوليبرالية صهيونيّة؟
لن أدّعي عدم وجود وفر من الغاز الإسرائيلي؛ الوفر الذي يشكل ورقة التوت الأخيرة لهذه الحكومة الخاضعة للمحددات النيولبيرالية (في رفع التعرفة) والصهيونية (في دعم مشروع تطوير حوض ليفياثان) التي تحكمها اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا ولو على حساب المصلحة العامة. فبالنسبة للمواطن، مهما بلغ ولاؤه، وللنواب الذين عبّروا عن دعمهم المشروط بعدم وجود بدائل للغاز الإسرائيلي، قد يكون الوفر أمرًا فارقًا.
لكن بصرف النظر عن وجود الوفر من عدمه، فإن الحقائق تضعنا أمام احتمال من اثنين: إمّا أنّ الحكومة تكذب في مبالغتها بالوفر الناتج عن استيراد الغاز الإسرائيلي، وإما أنها تكذب بعدم اعتمادها على الغاز الإسرائيلي بأكثر من 20% من خليط الطاقة. وقياسًا على ذلك، نستنتج بأنها إما تخدم مشروع تطوير الحقل الإسرائيلي بدون مقابل، أو أنّها تهدد أمننا بدفعنا للاعتماد على الغاز الإسرائيلي بأكثر من 80%** من إنتاج الطاقة على الأقل. في الحالتين، تشكل هذه الحكومة ومَنْ وراءها خطرًا استراتيجيًّا على الأردن.
أما النسور، وحديثه بأنه وحكومته ليسوا عملاءً لأحد، فنتركه للتاريخ الذي أصر النسور على مواجهته بعنجهية حين دفع صفقة الغاز الإسرائيلي. وليبتعد هو وحكومته عن ربط وضع المواطن المعيشي بمشاريع الهيمنة الصهيونية، لأنها علاقة غير قائمة منذ وادي عربة وحتى يومنا هذا.
___________________
* الـ444 مليون دينار هي كامل الكلف، بينما كلف الوقود فحسب أقل من ذلك.
**حتى إن تم استيراد 80% من احتياجات الطاقة للكهرباء من إسرائيل لن نوفر هذا المبلغ، لأن المبلغ يفترض أسعار الغاز المصري، أي 3 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. والواجب هو المقارنة مع الديزل لا مع خليط من الطاقة يمكن أن يكون عاملاً عام 2018.