«أغنية الغراب»: سينما سعودية بلا سياسة؟

الأربعاء 16 آب 2023
مشهد من الفيلم.

الشهر الماضي، تضمن برنامج مهرجان «سفر» للأفلام العربية في بريطانيا، عرضًا للفيلم السعودي، «أغنية الغراب» (2022) للمخرج محمد السلمان. وفي بداية أمسية عرض الفيلم في لندن، قدم منسق برنامج المهرجان مخرج الفيلم للجمهور، مشيرًا إليه باسم: محمد بن سلمان. لم يكن واضحًا إن كانت تلك زلة لسان أم خطأ مني في السمع، لكن في كلتا الحالتين، فإن خلط الاسمين بهذه الطريقة أو تهيؤه يكشف دون قصد عن معضلات يواجهها تلقي السينما السعودية الناشئة خارج المملكة، على خلفيات سياسية بالضرورة. 

أشار منسق المهرجان في المقدمة نفسها إلى أن «أغنية الغراب» هو «فيلم مرحلة» (period movie). وتعد أفلام المراحل صنفًا أوسع من الأفلام التاريخية، فهي أفلام تدور في الماضي وتتميز بتركيز على الأزياء والديكورات الداخلية والمشاهد الخارجية وكذا شريط الصوت لمحاكاة فترة تاريخية من الماضي. كما أنها -وفي الأغلب- تتعامل مع تغيرات اجتماعية وإزاحات سياسية مؤثرة حدثت أثناء تلك الفترة، أو تعمل على ترسيخ مقارنة ضمنية بين الماضي والحاضر، وتلميع تلك الفوارق عبر روافع عدة من بينها الحنين.

تدور أحداث الفيلم بمدينة الرياض في العام 2003، أي قبل عقدين فقط، فهل تعد تلك المسافة الزمنية كافية لإنتاج فيلم مرحلة؟ الإجابة الضمنية التي لم تعد في حاجة إلى تدليل هي نعم، فالسعودية قبل العام 2017، أي تاريخ تعيين محمد بن سلمان في منصب ولي العهد، هي بلد آخر مقارنة باليوم. ولعل الدليل الأوضح على ذلك في قاعة السينما ليلتها، أي أن إنتاج سينما سعودية صار أمرًا ممكنًا مرة أخرى. تلك الدلالة السياسية تفرض على الفيلم كونه فيلمًا سعوديًا، لا أكثر ولا أقل، وخاصة في هذا التوقيت، حيث يوضع بشكل تلقائي أي نشاط فني أو رياضي على الساحة السعودية في خانة التبييض السياسي. وفي ذلك بعض المنطق وبعض الإجحاف أيضًا.

«أغنية الغراب» ليس مجرد فيلم سعودي آخر، فالفيلم الذي أنتجته استوديوهات تلفاز 11، اختارته هيئة الأفلام السعودية ليمثل المملكة في مسابقة الأوسكار هذا العام، وذلك بعد حصوله على ثلاث نخلات ذهبية في مهرجان أفلام السعودية 2023، وهي جائزة لجنة التحكيم وجائرة أفضل تصوير سينمائي وجائزة أفضل ممثل نالها عصام عواد بطل الفيلم. أما العرض اللندني نفسه فتم دعمه بواسطة مبادرة جيل 2030، السعودية-الفرنسية المشتركة، والتي يبدو اسمها مستلهما من مشروع «رؤية 2030» الرسمي.

في المشهد الافتتاحي، يقف الشاب ناصر مراقبًا والده ينهال بمطرقة هائلة على شرائط الكاسيت خاصته ويحطمها، وبعدها تبدأ السماء في الخارج بإمطار أمخاخ بشرية، سرعان ما تغطي أرضية الشارع. يهيئنا ذلك المشهد لباروديا للماضي، لا مجرد فيلم مرحلة؛ محاكاة ساخرة شديدة العبثية. الباروديا تظهر حتى قبل أن يبدأ الفيلم. في أفيش الفيلم الدعائي نرى وجه ناصر شاخصًا إلى أعلى وعلى رأسه حمامة بيضاء، على مثال الأيقونة الشهيرة للمسيح حين يحل عليه الروح القدس في صورة حمامة. وإن كانت تلك الصلة الأيقونية يصعب التعرف عليها من قبل جمهور الفيلم في السعودية نفسها، فإن الفيلم لا يخلو من تهكم يمكن لهذا الجمهور التعرف على مرجعياته بسهولة. في مشهد لاحق، يذهب ناصر إلى عيادة طبيبه المصري، الذي يصر على إجراء عملية استئصال لورم في المخ، لا يشعر ناصر بأي من أعراضه. وفي وسط حوارهما العبثي، ينظر الطبيب في ساعته وينهض من على كرسيه ويستأذن مريضه وهو يفرد سجادة صلاة على الأرض. وبدل من أن يفعل الطبيب ما هو متوقع، فإنه يشرع في ممارسة التمارين الرياضية على السجادة.

التلاعب بالتوقعات على هذه الشاكلة يقتنص ضحكات عالية من الجمهور، لكنها لعبة معقدة أكثر مما تبدو وأكثر جدية، فكوميديا هذا المشهد تقترب من حواف منطقة خطرة. فمع أنها لا تتناول الدين، فإنها توظف أحد العناصر المرتبطة به لتفعيل المفارقة المضحكة. وهذا ما يقوم به الفيلم طوال الوقت، أي الاقتراب من حدود التابوهات والدوائر الشائكة دون التجرؤ عليها، مكتفيًا باستغلال مفردات وصور منها لتفعيل السخرية. وفي هذا ثمة خط رفيع يفصل بين الرقابة الذاتية ومستويات آمنة من تهكم غير راغب في نقد الواقع ولا معني بهذا، لكن لا يمانع في استغلال تناقضاته كوميديًا. 

ناصر شاب نحيل البنية، بوجه يبدو بريئًا مع مسحة من السذاجة، وتضاعف الصور المقربة لوجهه من تأثير ملامحه. لكن ناصر ليس ساذجًا، ولا منقادًا بالكامل، بل يبدي مقاومة بأشكال مختلفة وإن كانت خافتة، يوجهها ضد صور القمع الأبوي الذي يتعرض له، ممثلةً في والده وصاحب الفندق الذي يعمل فيه وصديقه «بو صقر» والطبيب الذي يحاول إرغامه على الخضوع إلى جراحة لا يحتاجها على الأغلب. 

أغنية الغراب ليس مجرد فيلم سعودي آخر، فالفيلم اختارته هيئة الأفلام السعودية ليمثل المملكة في مسابقة الأوسكار هذا العام، وذلك بعد حصوله على ثلاث نخلات ذهبية في مهرجان أفلام السعودية 2023.

تغطي المشاهد الخارجية غلالة صفراء شبه دائمة، أما المشاهد الداخلية فمهجورة بشكل شبه دائم. ثمة شعور مقفر وبارد وموحٍ بالوحدة يهيمن على صورة الفيلم. يعيش ناصر في عالم بلا نساء، حيث يفرض فصل شبه كامل بين الجنسين. لكن ومع ظهور مفاجئ لامرأة جميلة في الفندق، تنطلق سلسلة من الأحداث العبثية، فبعد أن يقنعه صديقه بو صقر بكتابة قصيدة للفوز بقلب هذه المرأة، يتحول إلى شاعر فعلًا فقط لقيامه مع بوصقر بخطف صحافي وإرغامه على نشر موضوع عنه وعن أشعاره، ويشرع بوصقر في تلحين القصيدة التي لم تكتب بعد ولن تكتب أبدًا. لاحقًا، تختطف مجموعة من النقاد ناصر، وترغمه على حضور نقاش في مؤخرة باص صغير حول الشعر العمودي وشعر التفعيلة، فناصر ورط نفسه دون أن يدري في معركة محتدمة بين المحافظين والحداثيين. وليست هذه نهاية العبث، فثمة ماعز كثيرة تظهر وتختفي وشاعر شاب مقتول، وجريمة قتل أخرى، وخطاب غامض تودعه المرأة الجميلة داخل إحدى غرف الفندق، وممثل متقدم في السن وشبه مختل يسكن هذه الغرفة بالذات، وصلة ما بين كل هذا. 

بلا شك هناك تشهير بالفصل القاسي بين الجنسين، وهو يعالج بعبثية تليق بتعسف التنظيم الاجتماعي وتعكسها، وهناك أيضًا إشارات إلى صدام بين حداثيين وتقليديين يمكن تأويله سياسيًا. لكن الفيلم لا يبدو معنيًا بتقديم نقد أو إسقاطات سياسية، بقدر ما يظهر راغبًا في العبث بصورة الماضي، وإعادة إنتاج ذكريات قريبة بصورة تهكمية، وإضحاك جمهوره على نماذج قد يرون أنفسهم فيها. 

يقدم الفيلم معالجة كوميدية مدهشة ومتقنة، إلا أن العبثية التي أتاحت له مساحات واسعة للعب أضحت أضعف نقاطه بقرب نهايته. فالرغبة في الحبك وتفعيل لذة الكشف، دفعت صناع الفيلم إلى ربط كل تلك الخطوط غير المنطقية ببعضها بعض في النهاية مع محاولة لفرض منطق ما على كل هذا العبث، ولم يكن هذا ضروريًا بأي حال. وجاءت الحبكة النهائية ركيكة وغير مقنعة ومترهلة. 

بعد انتهاء العرض اللندني، وجه الحضور أسئلة إلى مخرج الفيلم. وكما هو متوقع دارت في معظمها حول الإسقاط السياسي والرقابة وتأثيرها، وأحيانًا أخرى طلب من المخرج بإلحاح فك شفرة رمزيات الأحداث والشخوص. اكتفى السلمان بتكرار إجابته المرة بعد الأخرى عن أن مقصده من صناعة الفيلم ليس سياسيًا، لكن ذلك الرد لم يظهر مرضيًا للجمهور الذي لا يستطيع التعامل مع فيلم سعودي إلا على تلك الأرضية. 

في حديثه الختامي للجمهور، يروي السلمان ملابسات إنتاج الفيلم بالتزامن مع وباء كورونا. فأثناء التصوير استعانت وزارة الصحة السعودية بالفندق الذي كان موقعًا للتصوير، بغية استخدامه كمعزل للمسافرين. وكاد هذا أن يوقف العمل، لولا توصل السلمان إلى حل وسط، حيث فصل جزء صغير من الفندق لاستكمال العمل، فيما استخدمت بقية غرف الفندق كإقامات للعزل الوقائي. ولعل تلك صورة بليغة وغير مقصودة لعلاقة السينما السعودية بالسياسة اليوم، عن الأرضية المشتركة والفصل في آن، وعن إمكانات الحلول الوسط. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية