بكاء الديوك: هكذا رقص «زينهم»

الأحد 01 تشرين الأول 2023
خالد الصاوي في مشهد من الفيلم.

تعود كاميرا الفيلم في أول مشهد نرى فيه زينهم في صيوان الفرح بعد موت والدته، وانصياعه لنصيحة المعلم حبشي بتأجيل إعلان وفاتها، واستكمال هذا الفرح المزيف لجمع النقطة، ملتقطةً مناداة حسن الحشاش له لتحية الجمهور وتكريمهم برقصة، وعلى أنغام أغنية أنا مش عارفني لعبد الباسط حمودة، يبدأ رقصته، أو من الأصح القول؛ بكائية زينهم الاستعراضية.

بعد صدور فيلم الجوكر 2019، انتشر احتفاء هائل برقص البطل المكسور في الفيلم، حيث وداخل الحمام نرى لقطة أدائية مفعمة بالثبات، الجوكر الذي كان منحني الظهر نتيجة نحافته المفرطة، بمشية غريبة لاتساع حذائه عليه يرقص الآن ويتحرك باتزان وتجانس، بمجموعة جمل فنية حركية تنم عن وعي بمساحات هذا الجسد وقدراته. ليخرج بعدها من ذلك الحمام وكأنه إنسان جديد واثق غير مهزوز.

في فيلم الفرح (2009) نرى بذور شخصية زينهم منذ تساؤله الأول وهو ينظر في المرآة في بداية الفيلم مستنكرًا: «إيه ياض، إنت كبرت ولا إيه؟»، ومن ثم تطورها الأساسي بموت والدته وهي غاضبة عليه، وتحوّله من روح المشاغبة والمشاكسة الشابة، إلى شخص ضعيف وغاضب، وكأن العمر مرّ في ثانية وزينهم قد كبر فعلًا وفجأة، والأهم هو تسليمه بهذا الواقع، متوّجًا ولوجه إلى دنيا خاوية بلا أم باكيًا بالرقص، محولًا الاستجابة الطبيعية للألم من شكلها المألوف إلى تعبير أدائي يمثل الانكسار والعجز، بمنتهى الإبداع والفردية، كطير لم يعد يقوى على الطيران، أو ديك فقد الحلم بهذه اللحظة.

يخرج زينهم، والذي يؤدي دوره خالد الصاوي، بعد إلحاح من حسن (يلعب دوره باسم سمرة) ليعتلي المنصة، وبين تحيات المعازيم و«زيطة» النبطشي العسلي (ماجد الكدواني)، الذي يوقف جمع النقطة -محور كل هذا اليوم- لجلالة حدث رقص زينهم وأهميته، ولكون «الأهم فالمهم» كما قال، يتحول المشهد إلى طقس اجتماعي بعنوان تأدية واجب الضيوف. يرقص زينهم بسلاح أبيض وبأداء بين التحطيب[1] والتشكيل.[2] وتحت إضاءة حبال الإنارة الملوّنة، نتمكن من رؤية عتم روحه بوضوح، منعكسةً أيضًا بلون جلابيته السوداء، التي لبسها على تلك البيضاء التي كان يرتديها أولًا، فجأة، في لحظة انتقال الفيلم من صباح اليوم إلى ليله، ومن هموم الحياة اليومية، إلى ذروة التأزم الدرامي والمصائب.

يتناول زينهم سلاحًا أبيض، ويبدأ بإدارته وتشكيله في حركات تشبه الذبح في بعضها والعزف على الربابة في بعضها الآخر، في دورانات متكررة، بالسلاح حول رأسه وجسمه، أو بنفسه حول نفسه. يتكرر الدوران في الرقص بشتى أنواعه، سواء حول شيء أو حول النفس، بشكليه الجماعي والمنفرد، وهو ما يعتقد بأنه مرتبط بشدة بالميثولوجيات الدينية، التي تقوم على أساس الدوران حول المكان المقدس، في محاكاة رمزية لأساطير الحركة الأولى لخلق الكون، ومحاكاة لحركة الكواكب والنجوم. كما أن الرقص بالسلاح، كان واحدًا من طقوس الاستعداد للحرب وشحذ الهمم، وهو أسلوب استعراضي أدائي ما زال ملحوظًا في العالم العربي، من بلاد الخليج إلى اليمن والشام وشمال إفريقيا، مع اختلاف نوع السلاح المستخدم بحسب المنطقة، بين أسلحة نارية كالبارودة وأخرى بيضاء كالسيوف، أو العصي كما في الصعيد مثلًا. وربما ينتشر هذا النوع من الرقص حتى يومنا هذا دون وجهة حربية واضحة، لما يحمله من قدرة على قلب إرباك الرقص للذكورة، وتحويله بكونه رقصًا بالسلاح إلى ترميز وإحالة لها كتمجيد للقوة.

وبينما رقص خواكين أمام مرآته، كأنه أمام جماهير أكبر المسارح بحركات تستحضر الرقص المعاصر والتانغو، بالتركيز على الجسد كأداة، يقوم زينهم بعرضه أمام حشد من الجمهور «المسطول»، كأنه وحده، ينظر إلى داخل روحه، مكررًا حركتين أو ثلاثًا لا أكثر، إنما بفيض شعوري يتعاظم، كأنه في جنازة داخلية يقيمها لوالدته التي ما زالت جثتها ممدودة بالكفن في إحدى غرف البيت. فيما يبدي جمهور الفرح من معازيم إعجابًا رهيبًا بحركاته، وثقة واضحة بقدرته على السيطرة على الساطور بين يديه، بالأخص إذا ما ركزت في نظرة العسلي له. وفي بعدٍ كوني آخر تمامًا؛ يستغل زينهم لحظات التجلي هذه ليخرج شيئًا من حداده المكتوم، وكأن البكاء سيطر على جسده كاملًا.

وعلى عكس ما يحمله الرقص من دلالات السعادة، يتعرّف الحزن في رقص زينهم، كأن الكون وقف من حوله، وبقي هو يدور، عاكسًا فقدانه القدرة على السيطرة ومسايرة الحياة أو محاولة إخضاعها، على عكس شخصيته في بداية الفيلم، حيث كان ابن الحيلة، الذي يناكف الحياة، ويستخدم أي وسيلة للفوز عليها، كأن يخترع أختًا وهمية ويقيم لها عرسًا ليجمع المال، في سبيل شراء ميكروباص. معلنًا أن ما بقي منه ما هو إلا صورة لزينهم الذي خشيه أهل المنطقة وقدّروه في ذات الوقت، وهو ما تراه ليس فقط في عينه ووجهه، إنما في حركات جسده التي تشعرك بالثقل، على عكس الحركات السريعة العنيفة التي يقوم بها الأخرون من حوله، والتي تصور عادةً فخرًا بالقوة والنشاط وخفة الحركة.

في كل مرة أعود فيها لمشاهدة مشهد الرقصة من فيلم الفرح، لا أستطيع الكف عن التفكير في بيت شعر أبو الطيب المتنبي: «لا تحسبنّ رقصي بينكم طربًا … فالطير يرقص مذبوحًا من شدة الألمِ»، وللمصادفة العجيبة جدًا يقول ابن سيرين في تفسير حلم بكاء الديك في المنام :«إذا شاهد شخصٌ في منامه ديكًا يبكي فإن تلك الرؤيا تدل على أن الرائي قد تعرض لخلافات مع شخص قريب لقلبه، وقد صدر منه بعض الأقوال أو الأفعال التي أغضبت ذلك الشخص، ويتمنى أن يعاتبه على ما فعل». وهو تحديدًا ما حدث مع زينهم، الذي أغضب أمه وماتت قبل أن تسامحه، لتتملكه الحسرة، بقوله لزوجته صفية التي تلعب دورها روجينا: «ليه كدا يما، ليه دلوقتي يما، استخسرتي فيّا خمس دقايق أصالحك فيهم… دي ماتت وهي زعلانة مني يا صفية!»، تاركًا للرقص استكمال مسيرة الحوار، وقول ما لا يقال بالكلام.

يقول نيكوس كازانتزاكيس في رواية زوربا اليوناني «يبدو لي هكذا أنني أفهم شيئا ما، لكن لو حاولت أن أقوله لهدمت كل شيء وذات يوم عندما أكون مستعدًا سأرقصه لك».

«على عكس ما يحمله الرقص من دلالات السعادة، يتعرّف الحزن في رقص زينهم، كأن الكون وقف من حوله، وبقي هو يدور، عاكسًا فقدانه القدرة على السيطرة ومسايرة الحياة أو محاولة إخضاعها»

بالطبع لم تكن هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها السينما المصرية الرقص كلغة تعبيرية أدائية يستعاض بها عن الكلام أو الأداء أو غيره، فمثلًا في فيلم «إسكندرية كمان وكمان»، عندما خسر عمرو الذي لعب دوره عمرو عبد الجليل جائزة كان، خرج يرقص على ألحان أغنية أم كلثوم فات الميعاد، بأداء استثنائي، مهزومًا بفوات ميعاده، بين التقدم والهروب، والتوهان والحلم، بحركات تشبه اللطم، أو عفر التراب على الرأس، كأنه يحكي بجسده قصة شاب كاد أن يملك الدنيا التي حَلُم، لكنها خذلته وضاقت عليه حد الاختناق، غير قادر على الوقوف، جارًا نفسه متحاملًا على الحياة، ثقيلًا حزينًا بظهر مكسور في بلد أجنبي. على عكس عمرو قبل الخسارة الذي رقص مع يوسف شاهين بدور يحيى كأنه في فيلم أمريكي كلاسيكي في الخمسينيات، محتفلًا بحصوله على تكريم آخر على أدائه وموهبته التي فقد ثقته بها الآن. وبالطبع رقصة عبد الجليل تختلف عن رقصة محسن محي الدين، يحيى في فيلم «إسكندرية ليه»، حيث أتت الثانية كرقصة يؤديها رجل حزين، وليست رقصة حزن خالص كما الأولى.

كذلك تستعيض أفلام كثيرة بالرقص عن الكلام، كأداة سينمائية توازي الأزياء والإضاءة والنص، وتوظفها تعبيرًا عن انفعالات ومشاعر معقدة ومركبة، فللرقص تفرّد لا يؤطره حوار أو زاوية كاميرا، مثل رقصة بيبة في فيلم «عرق البلح»، التي ترمز للحرمان، ونفاد الصبر، ورقصة ارقص في فيلم «المصير»، التي تحكي التخبط، ورقصة سعاد حسني في فيلم «خلي بالك من زوزو»، التي حملت شيئًا من الانكسار وشيئًا من الفخر في الوقت ذاته، وياسمين رئيس في فيلم «فتاة المصنع»، التي عكست رقصتها تخطيًا للزمان وتصالحًا معه وشيئًا من الثأر للنفس، إضافةً إلى رقصة منى زكي في «أفراح القبة» المكسورة بالغيرة والقهر ومعاندة الظروف لها.

وعلى هامش هذا كله، لا شك بأن أحداث الفيلم وقصته إلى جانب الموسيقى وكلمات الأغنية إن كانت موجودة تدفع باتجاه فهم دواخل الشخصية خلال الاستعراض، لكن وعلى وجه الخصوص في حالتي زينهم وعمرو، فقد كانت حركات الاستعراض كافية لفهم الشخصية والإحساس بها، وهو ما لا نجده في معظم عروض الرقص المتخصصة، رغم إمكانيات هذا الفن الدلالية العالية. هذا وقد تميز الاستعراض في فيلم الفرح كونه وببساطة استعراضًا داخل فيلم يصنف على أنه تجاري، وهو ما يدفعك للإعجاب أكثر بالجهد، من كتابة للقصة، وتصميم للرقصة، وبالطبع أداء خالد الصاوي.

  • الهوامش

    [1] التحطيب: رقصة شعبية مصرية، يشتهر بها صعيد مصر، تطورت عن فن قتال كان يسمى «فن النزهة والتحطيب» أو «فن الاستقامة والصدق من خلال استخدام العصا». تأتي رقصة التحطيب أو «رقصة العصا» و«رقصة القصب»، كطقوس قتال وهمي مصحوبة بالموسيقى تستخدم فيها العصا.

    دخلت في العديد من الرقصات الشعبية الحديثة، بالاقتباس من روحها القتالية، وتجريدها من قواعدها الأدائية وفهمها التراثي، ويتم فيها استخدام أسلحة متنوعة ومختلفة.

    [2] التشكيل: رقصة شعبية، عادةً ما تصاحب موسيقى المهرجانات، تعتمد على تحريك الجسم في اتجاهات مختلفة وفي نفس اللحظة، مع الحفاظ على الإيقاع. تأتي على شكل حركات سريعة باليدين، تشبه التحطيب باستعراضها لقتال وهمي، على الرغم من رقصها بشكل منفرد، وتعتمد على أسلحة بيضاء كالمطوى، والشفرات، قد تكون موجودة أو وهمية. وتكون حركاتها حركات هجوم بالغالب كالطعن، والشق. ويتميز الراقص فيها بامتلاكه السرعة والقدرة على التوازن.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية