«مرايا» سوريا المعاصرة: رحلةٌ في كوابيس ياسر العظمة

تصميم ندى جفّال.

«مرايا» سوريا المعاصرة: رحلةٌ في كوابيس ياسر العظمة

الإثنين 14 كانون الأول 2020

بعد أن فُرِضت القيود على الحركة بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد في شهر آذار الماضي، تضخّم فجأةً الوقتُ الذي أقضيه بين جدران الغرفة. لم أعرف كيفية التعامل مع فائض الوقت هذا سوى بالعودة لمشاهدة مسلسلات عربيّةٍ سبق وأن شاهدتها في طفولتي. بدأ الأمر كحلٍّ لتمرير ساعات الليل الطويلة في الشتاء، وبابًا لتلمّس فهمٍ جديد، أفترض أنه صار أكثر نضجًا من نظرتي الطفولية الماضية. مع مرور الأيام، وجدت نفسي وقد انقطعت عن مشاهدة أيّ مسلسل باستثناء «مرايا» ياسر العظمة. في لحظة معيّنة، انتبهت أنّ وجوه الممثلين التي اعتادها بصري في الفترة الأخيرة غابت، ولم يبقَ في رأسي شيءٌ سوى سكتش لياسر العظمة، باروكته وحاجباه وشاربه على وجه التحديد.

ربّما لعب الوقت الميّت في كثيرٍ من قصص مرايا دورًا في انجذابي لها في البداية، إذ أتاح لي القيام بأمورٍ أخرى دون الحاجة لصرف جلّ تركيزي إلى الشاشة. لكنّني، وبالتدريج، وجدت نفسي أستغرق في مشاهدة العظمة، يبدّل شخصيةً تلو الأخرى، ويكتسب اسمًا تلو الآخر، يرتقي إلى القمّة في لحظةٍ ويهوي إلى قعر البؤس في لحظةٍ أخرى، ويتقمّص في كلّ قصّة صوتًا ولهجةً وحركةً مختلفة.

مثلما يجرّ سراب الصحراء التائه للاستسلام لغواية الكثبان، صارت اقتراحات «يوتيوب» تعرفني جيّدًا، فتجرّني للغوص في عالم العظمة أكثر. انسقت خلف الخوارزميات بلا وعي فتهت في الدهاليز. مع كلّ مشاهدة إضافيةٍ تتغيّر الشخصيّة، تتمدّد وتتوسع بلا توقّف، كأنّ لا قرار لها.

بلا انتباه، أدخلتني مرافقتي اليومية للوجه المتكرّر والمتغيّر في حالة هذيانية. لا أفكّر في شيءٍ غير «مرايا»، وأستعين بالأحاديث المطوّلة عنها مع رفاقي لتفكيك شيفرة افترضت وجودها. وفي لحظة تجلٍّ أو هلوسة انفتحت أمام عينيّ بوابةٌ عبرت منها إلى ما عرفت أنّه عالم ياسر العظمة، وعندما رجعت اعتقدت أنّني أدركت كلّ شيء عن شخصيته.

يبدو هذا العالم سوداويًا ومظلمًا بشكل مشابهٍ للعالم الواقعي، لكنّه يُغلف بالسخرية والهزل أنواع الرعب والخوف والعنف المعشّشة فيه وفي ناسه.

بدأت بتدوين ما عرفته، فخفتَ اليقين في داخلي، وأدركت مع الكتابة وإعادة المشاهدة أنّني شططت في بعض الاستنتاجات وانسقت أحيانًا وراء انعكاسات ذاتية لا أثر لها عند ياسر العظمة. لذلك، حرصت خلال كتابة هذا المقال على استبعاد أيّ فكرة أو رأي، ما لم أجد مثالًا أو دليلًا يمكن ملاحظته ورؤيته في قصص «مرايا» نفسها.

قبيل البدء بالكتابة، بحثت مطوّلًا عن ياسر العظمة على الإنترنت وبالكاد عثرت له على أثر. يتعمّد الرجل الابتعاد عن الكاميرا خارج موقع التصوير، ويضع شخصيته الحقيقية في منطقةٍ معتمةٍ بعيدةٍ عن الأعين. 

من جهة، يصعب إيجاد أيّ كتابات نقديّة عن تجربته باستثناء حلقة تلفزيونية من إنتاج قناة «أورينت» السورية في العام 2018 ضمن برنامج «حكاية سورية». اعتمدَت الحلقة بشكلٍ أساسي على مقابلتين مع المخرج مأمون البنّي والممثل جهاد عبدو اللذيْن عملا مع العظمة سابقًا. رغم أهميّة الاستماع إلى شهادتيهما حول «مرايا» وظروف إنتاجه وحول الممثّل وشخصه، إلّا أنّ معدّي البرنامج استغرقوا في محاولة تقصّي موقف العظمة غير المعلن من الثورة السوريّة. نتيجة ذلك، خرجت الحلقة مشتّتة، تبدأ وتنتهي محتارةً فيما تريد قوله، كونها غير قادرةٍ على تحديد موقع العظمة في الصراع القائم.

من جهة أخرى، ورغم دخوله مجال التمثيل في الستينيات، إلّا أنّني لم أجد للعظمة سوى مقابلتين، واحدةٌ منهما مع قناة الشروق الجزائرية، أمّا الثانية فمع التلفزيون السوري الرسمي. أجريت مقابلة الشروق في العام 2012، وهي مختصرة وموجزة ويغلب عليها طابع المجاملة، حيث يتحدّث فيها بإيجاز عن تجربة إنتاج مرايا 2013 في الجزائر. أمّا مقابلة التلفزيون السوري، وهي الأقدم والأهم، فسُجّلت في منتصف الثمانينيات، حيث يظهر العظمة، مع عددٍ من الشخصيات التي عملت معه ورافقته في مسيرته الفنيّة، ليتحدّث عن رؤيته للفن ودور الفنان ووظيفته، وكذلك عن فهمه للحياة وكيفية انعكاس ذلك في أعماله. رغم قدم هذه المقابلة، إلّا أنّها شديدة الأهمية كونها الوثيقة الوحيدة التي يحكي فيها عن تجربته. 

الجزء الأول من مقابلة ياسر العظمة.*

في هذه المقابلة، يردّ ياسر العظمة غيابه عن الصحافة إلى حقيقة أنّه يقول ما يريد قوله عبر أعماله. خلق الممثّل «مرايا»، كما يدلّ الاسم، كانعكاسٍ للواقع الذي يعيشه. هنا، يختار بنفسه القصص وفريق العمل والممثلين ويؤدّي بنفسه أدوار البطولة المختلفة، وبالتالي لربّما أمكننا القول إنّ «مرايا» انعكاسٌ لشخص ياسر العظمة وأفكاره ورؤيته ومواقفه. أُنتجت أجزاءٌ عديدةٌ من البرنامج، وامتد عرضه لسنوات طويلةٍ، تناول فيها العظمة المواضيع نفسها، مستعينًا بطاقمٍ شبه ثابتٍ من الممثلين. هذه الصفات، حوّلت «مرايا» من مجرّد مسلسل إلى عالمٍ موازٍ، يملك خصائص مميّزة ومنطقًا خاصًا لمجرى الأمور فيه، حيث تقوم في داخله أشكالٌ مختلفةٌ من العلاقات والبنى الاجتماعية. في الوقت نفسه، يبدو هذا العالم سوداويًا ومظلمًا بشكل مشابهٍ للعالم الواقعي، لكنّه يُغلف بالسخرية والهزل أنواع الرعب والخوف والعنف المعشّشة فيه وفي ناسه.

يكشف ياسر العظمة في رحلته داخل عالم مرايا مقدار العنف الكامن والظاهر الذي يحكم علاقة الفرد بالدولة وممثّليها، وكيفية انعكاسه في علاقته بالأفراد الآخرين في المجتمع.

خلق ياسر العظمة هذا العالم عندما حدّق في مرآته، رآه فعبر إليه. هناك، أدرك سريعًا أنّه وإن كان خالقَ هذا العالم فهو لا يملك حريّة مطلقةً فيه، فالرقابة هنا أيضًا، وكذلك المخابرات والدولة والجيران وزملاء العمل والأقارب والأصدقاء. في الوقت نفسه، اكتشف أنّه كخالقٍ يمتلك القدرة على التقمّص والحلول، فراح ينتقل من شخصيةٍ إلى أخرى ومن وعاءٍ إلى آخر، مشكّلًا كلّ واحدٍ منها على مزاجه، معطيًا إياها طباعًا ولهجات وسلوكيات مختلفة، ليصرّح ويلمّح من خلالها عمّا يجول في خاطره. في رحلته الطويلة بين هذه الشخصيات رسم العظمة للمشاهدين ملامح لواقعٍ مرعب يغدو فيه كلّ آخر جحيمًا لا يمكن للفرد النجاة منه.

منذ العام 1984 وحتّى اليوم، أُنتج من «مرايا» 18 جزءًا، وأثناء عملي على إنجاز هذا المقال، أعلن ياسر العظمة في تشرين الأوّل الفائت عبر صفحته الرسميّة على فيسبوك أنّه يحضّر لعمل تلفزيوني جديد للموسم الرمضاني المقبل، دون أن يفصح عمّا إذا كان المنتج القادم استمرارًا لـ«مرايا» أم لا. على كلّ حال، لن أتبع التسلسل الزمني للإنتاج في استعراضي للسلسلة، بل سأتعامل معها ككلٍّ واحد. لتضييق عيّنة البحث، ركّزت اهتمامي ومشاهداتي على الحلقات التي أنتجت بين العامين 1997 و2003. وذلك لاعتقادي الشخصي بأنّ الأجزاء التي أنتجت في هذه الفترة، على التفاوت في المستوى بينها، هي الأفضل بين إنتاج العظمة.

في النهاية، لا أدّعي في المكتوب أدناه أن روايتي لسيرة ياسر العظمة في «مرايا» هي الرواية الحقيقية أو الوحيدة، بل أقدّمها كمدخلٍ معقول وممكن لفهم هذا العالم وموقع الفرد فيه.

عالم اليقظة

«التوبة ما بقا عيدا، لوعني كتير الغرام، كلن قالوا من إيدها الله يساعدها حرام، التوبة التوبة التوبة التوبة التوبة التوبة، التوبة ما بقا عيدا». لا يعرف شريف سلامة (مرايا، 2000) ما هو الأمر الذي يعلن توبته عنه، لكنّه لا يجد أنسب من كلمات أغنية نجوى كرم لينشدها بصوته المزعج، تعبيرًا عن ندمه، ندمه لمجرّد وجوده.

قبل ساعةٍ واحدة كان شريف يجلس بأمانٍ الله على مقعده في الحديقة، يقرأ جريدة الحكومة ويقصقص البزر، حين ظهرت له امرأةٌ مجهولة اتهمته بسرقة سلسالها الذهبي. بعدها تتالت المواقف السيئة: شُدّ من ثيابه، وتلقى لكمةً مباشرةً في عينه اليسرى، مع سلسلة من الإهانات والشتائم، وانقلب الوسيط بينه وبين المدعين عليه إلى جانبهم، ثمّ ظهرت امرأةٌ تتهمّه بسرقة حقيبة يد شقيقتها بهيجة. وفي النهاية وصل الضابط لينبئ الجميع بأنّ هذا الرجل ليس لصًّا وحسب، بل مجرم وقاتل وسفاح. 

بعد أن ينهي شريف وصلته الغنائية تنفيذًا لأمر الضابط، يبدأ الأخير بالضحك ويندفع الزوجان المدعيان ومن معهما بالتصفيق. رغم شدّة ذهوله، إلّا أنّ ما يجري يزيد من صدمته. عندها تقترب ضحيّته المفترضة منه وتكشف له حقيقة ما يجري: هي وكلّ المتواجدين في المكان ممثلون، وهو وقع ضحية لمقلب الكاميرا الخفيّة، ثم تشير له إلى مكان الكاميرا. يبحلق شريف محاولًا إيجادها، وبمجرّد أن يراها يبتسم ابتسامة مجاملة أشبه بالتكشيرة ترتسم على وجهه.

تمثّل هذه الابتسامة تعبيرًا عن اكتمال عملية الإخضاع التي مارستها الكاميرا على شريف، وتلخّص طبيعة التواصل القائم على العنف أحادي المصدر الذي يحكم العلاقة بينهما. يبدأ هذا العنف من حقيقة أنّ الكاميرا تصوّر الرجل دون معرفته ودون إذنه، ويتواصل في توثيقها تعرّضه لصنوف الإذلال والتعنيف بغية عرضها علانية للجمهور، ويصل إلى ذروته عندما تسأله الكاميرا الابتسام، ليس فقط كإعلانٍ منه على موافقته عرض مذلته ومهانته للجمهور وفرحه بذلك، بل كإعلانٍ منه بقبوله الخضوع لسلطتها أيضًا.

تأخذ الأحلام حيّزًا لا بأس به في مرايا، وغالبًا ما تأتي كانعكاسٍ لما يمرّ به الفرد في عالم اليقظة.

لا تنحصر عملية الإخضاع التي يمارسها طرفٌ قويٌّ على آخر ضعيف في علاقة الكاميرا بشريف فقط، بل تظهر في موقعه الدوني من ضحيته المفترضة، أي المرأة التي تعلوه طبقيًا، وفي صراخ زوجها عليها في العلن أمام الناس، وفي رضوخ الثلاثة لأوامر الضابط وسكوتهم عن إهانته لهم كممثل لسلطة الدولة التي يخضع لها الجميع. يقوم التواصل في هذه العلاقات على العنف الموجّه من الأعلى إلى الأسفل. يعنّف الشرطي الزوج، الذي يعنّف زوجته، التي بدوّرها تعنّف شريف.

تسود آلية تلقّي العنف من الأعلى وتصديره إلى الأسفل عالم مرايا بأسره، وهي الناظم لكل العلاقات القائمة فيه. في مجتمعٍ كهذا، لا يعود رأس المال المادي أو الثقافي أو المهني هو ما يحدّد موقع الفرد في هرمية المجتمع، بل ما منحته إياه الدولة من رأسمال سلطوي، والذي يعبّر عنه بممارسة العنف تجاه من يملكون رأسمالٍ سلطويٍ أقل. ينتظم الناس في هرميّة معقّدة يتلقّون فيها العنف من مصادر متعدّدة، ويصدّرونه بدورهم إلى متلقّين متعدّدين.

هذا ما توضحه قصّة عمر بيك (حكايا المرايا، 2001) وما جرى معه ومع رفاقه خلال زيارتهم لأحد المطاعم. يشغل عمر بيك ورفاقه مناصب مهمّةً في الدولة، يملك كلّ واحدٍ فيهم أسطولًا من السيّارات وعشرات العقارات، ويعمل تحت إمرتهم عددٌ كبير من عناصر الحماية والأمن. يلتقي الأصدقاء، ويتبادلون حكاياتهم «الطريفة» حول العقوبات الأكثر إذلالًا التي أنزلوها بعناصرهم، مثل تنظيف السيارة بفرشايات الأسنان، وتشذيب العشب بملاقط الشعر. يضحك الأربعة فرحًا بسلطتهم التي تخوّلهم فعل ما يشاؤون، وتنفتح شهيّتهم للذهاب لتناول الغداء في الخارج.

منذ لحظة وصولهم إلى المطعم يبدأ عمر بيك وأصدقاؤه بالتسلّط على النّاس. يسطون على موقفٍ لسيارتهم، ومن ثمّ يجبرون مدير المطعم على إعطائهم طاولةً مشغولة، بالنسبة إليهم القيام بذلك ضروري لأنّ «الناس ما بيجوا إلّا هيك»، كما يقول أحدهم، و«هيك» تعني قهرهم وتحقيرهم. يواصل الرباعي على المنوال نفسه، وبينما يزجون الوقت بالضحك والكلام في انتظار أن ينزل الطعام على طاولتهم، يدخل رجلٌ مخيف الهيئة مع عناصره إلى المطعم ثمّ يشير إلى طاولتهم معلنًا أنّه يريد الجلوس عليها. يصاب الرباعي بالفزع، ويصرخ عمر بيك قائلًا: «هادا أبو الجماجم»، قبل أن يفرّوا بعيدًا.

هكذا، يصغر البيك في لحظةٍ واحدةٍ أمام بيك آخر أكثر قوّة ونفوذًا. يذكّر أبو الجماجم عمر بيك ورفاقه بأنّ لسلطتهم ولسطوتهم حدودًا تنتهي عنده هو شخصيًا. سيصطدم المسؤول دائمًا بمسؤولٍ يفوقه قوّة، ينطبق ذلك على عمر كما ينطبق على أبو الجماجم. يشكّل الاثنان جزءًا من حلقةٍ طويلةٍ ممتدة، لا يستثنى أحدٌ فيها من تلقّي العنف، إلّا القابع في قمّتها تمامًا، أو مصدر السلطة والمسؤول عن توزيعها وتقسيمها على أفراد المجتمع. مع ذلك، يظلّ هذا المتربّع على رأس الهرم مستترًا وخفيًّا، ويغيب كليًّا في عالم مرايا، بما في ذلك صورته التي تُلازم عادةً جدران المكاتب الحكومية. 

من حينٍ إلى آخر، يحدث أن يحاول البعض أن يترقّى في الهرم، عبر ادعاء امتلاك رأسمال سلطويٍ يتيح الحصول على مغانم أكبر. يصحّ فؤاد، وهو موظّف من الدرجة الثالثة في مصلحة المياه، كمثالٍ ناجح للتحايل على النظام. يتجوّل الرجل مرتديًا بذلة رسميّة طوال الوقت، ينظر للناس بازدراء، ويحدّثهم باحتقار.

حين يجيء قريبه عصام (مرايا، 1997) في زيارةٍ من اللاذقية يفاجأ بالسطوة التي يملكها فؤاد أينما حلّ. في المطعم وفي الدائرة الحكومية وحتّى في سيارة الأجرة، يحسم فؤاد أيّ مشاجرة لصالحه ويخضع كلّ خصمٍ محتمل بحركةٍ واحدةٍ فقط: يسحب من جيبه بطاقة وهو يقول بازدراء: «شكلك ما عرفتني يا ابني». يحيّر ذلك عصام ويلحّ بالسؤال عن سرّ هذه البطاقة، ثمّ تتضاعف حيرته عندما يكتشف أنّها مجرد بطاقة اشتراك في المسبح. عندها يتدخّل فؤاد ليشرح الأمر: ليس لنوع البطاقة أيّ أهميّة، بحسب الأخير، فما يصنع الفارق هو سلوك حاملها. عندما «يعبي مركزه» وعندما «يحكي مع الناس من فوق ومن روس المناخير»، لن يجرؤ هؤلاء على مجرّد النظر إلى البطاقة وبالتالي يخضعون، ظنًّا منهم أنّه «مسؤول أمنّي أو سياسي» أو «شخصية مهمّة».

ترتبط أهميّة الفرد هنا بما يملكه من سلطة يمنحها له انتسابه إلى جهاز الدولة راعية العنف ومصدره. عند افتقاده لهذه السلطة يكفي الفرد الإيحاء بامتلاكها ليحصّل ما يريده. يفهم فؤاد ذلك جيّدًا، فلا يدّعي أبدًا صفةً أمنية أو رسميّة، بل يوحي عبر سلوكه بذلك. 

على الرغم من فهمه الدقيق للآلية التي تسير فيها الأمور إلّا أنّ فؤاد ينكر معرفته سبب خوف الناس من الدولة، وهو ما سيدركه رجلٌ آخر ينتمي إلى طبقة الموظفين. يعيش أبو حسام (مرايا، 1998) منزويًا على نفسه وعائلته، موظفًّا حكوميًا سعيدًا بالعيش على الهامش، لكنّ هذه الفقاعة تتبخّر لحظة عثوره على دفترٍ يحوي أرقام هواتف كبار المسؤولين في البلد، شخصيات عالية المستوى من فئة المجيد أوّل والبعبع ركن والبلاء الأعظم وغيرها. يفقد الرجل صوابه، ويعلن أنّ ساعة رحيله أزفت، إذ لا شكّ أنّ رجال المخابرات قد عرفوا بامتلاكه دفترًا من هذا النوع وهم في الطريق للقبض عليه. يعرف أبو حسام أنّ مجرّد معرفته بأرقام هواتف مسؤولين مهمّين تعدّ تجاوزًا خطيرًا لموقعه في الهرمية الاجتماعية، وهو تجاوزٌ لا بدّ سيعاقب عليه. 

بعد ليلةٍ عصيبة يجافيه فيها النوم، يكتشف أبو حسام أخيرًا أن الدفتر يعود لصديقه سعيد، فيلومه على الرعب الذي سبّبه له. يهزأ الأخير بكلامه، ويخبره أنّ لهذا الدفتر مفعول الحجاب والرقية، أو حتى يمكن اعتباره تأمينًا ضد الأخطار. بحسب تجربته، يهاب عناصر الأجهزة الأمنية والشرطة أسماء كبار المسؤولين، ويرتعدون خوفًا منهم، حالهم في ذلك حالُ المواطنين العاديين. وهم بالتالي لن يجرؤوا أبدًا على سؤال حامل الدفتر عمّا إذا كان يعرف هؤلاء المسؤولين أم لا. من جهةٍ أخرى، يحصل حامله على إحساس مزيفٍ بالقوة، «بتصير تحس إنك واحد منهن وفيهن وصديق شخصي لكل واحد من هالمسؤولين الكبار اللي موجودين بدفترك، ولو عن وهم». 

ينطلق سعيد من فكرة فؤاد نفسها: الإيحاء بالسلطة والارتباط بمصدرها بغية تجنّب عنفها في حالة الأول والكسب من خلالها في حالة الثاني. بعد اقتناعه بأهميّة الدفتر، ينسخ أبو حسام الأرقام عن دفتر رفيقه، ويمضي إلى الشارع ممتلئًا بطمأنينة لا تفارقه، حتّى بعد القبض عليه إثر مشاجرةٍ لا علاقة له فيها. في غرفة التحقيق يتفاجئ الشرطي بامتلاك مواطنٍ مثله رقم هاتف المجيد أول عبد المجيد، فيدّعي أبو حسام وجود قرابةٍ بينهما. عندها يبتسم المحقّق فيبادله أبو حسام الابتسام موقنًا باقتراب الفرج، قبل أن يتفاجئ بأخذ العناصر له إلى الفرع تسعة تسعة تسعة (فرع المخابرات الأكثر شهرةً في مرايا) ليلتحق بالمجيد أوّل الموقوف بجرم الاختلاس.

يحترق أبو حسام بنار السلطة لمجرّد ادعائه وجود علاقةٍ تربطه بأصحابها، وهو ينجرّ إلى ذلك رغم معرفته المسبقة بأنّ أيّ احتكاكٍ بها سيسبّب له المشاكل. بشكلٍ معاكس، يقرن المهندس الحكومي صبحي (حديث المرايا، 2002) هذه المعرفة المسبقة بالفعل، لكنّ ذلك لن يكون كافيًا للنجاة من العنف. يخاف صبحي من الدولة، ويؤدّي ما يظنّه دور المواطن المثالي. يتجنّب التذمّر والاعتراض على المشاكل الحياتية، ويتمنّع عن مشاهدة البرامج السياسيّة، وهو إلى ذلك يخاف من مجرّد الاستماع لأيّ إهانة أو تشكيك بحقّ أيّ مسؤولٍ علت رتبته أم انخفضت. لكنّ الناس لا يتركون الرجل في حاله، ويصرّون على تحويل أيامه كلّها إلى جهاد وكفاحٍ متواصل، فيندفع كلّ واحدٍ فيهم لإعطاء رأيه بالوضع وللإدلاء بدلوه؛ الزوجة، والجار وركّاب الميكروباص وسائق التكسي وزملاء العمل. حتّى عندما يقرّر صبحي أن «يروّق» رأسه بنفس أرجيلة في المقهى يتفاجأ بشابين يعرّضان بسيادة الباشق وفساده، فتخرب جلسته ويخرج غاضبًا ليتلقفه عناصر الشرطة والمخابرات.

في التحقيق، يخبره الضابط بدقّة وتفصيل عن كلّ ما سمعه في يومه من انتقاداتٍ وإساءات للدولة، ويعلن أنّ سكوته عنها هو تهربٌ من المسؤولية، فـ«كلّ مواطن غيور على مصلحة البلد يجب أن يكون بوقًا في وجه المشكّكين والمسيئين». بالتالي، تصير «بلبصة» عيون رجليّ المقهى واجبًا قصّر عنه صبحي المتخاذل ممّا يوجب تأديبه على أيدي العناصر. في زيارته التالية إلى المقهى يصادف صبحي نفس الشابين يتعرّضان للمسؤول الكاسر. هذه المرّة لن يكتفي بالصمت بل سيؤدّي واجبه في معاقبة «العملاء والأذناب» فيتهجّم عليهما ويناول أحدهما لكمةً في عينه. في زيارته الثانية للفرع، يقف صبحي مطمئنًا وفخورًا بفعلته، قبل أن يفاجأ بتقريع الضابط الذي يكشف له أنّ المعتدى عليه ليس سوى مخبرٍ مندسٍّ بين الناس.

في المرّة الأولى يكتشف صبحي أنّ الدولة لا تكتفي بموقفٍ حياديٍ، وبأنّ الصمت والسكوت ليسا مقبولين. تأتي جرجرته إلى فرع المخابرات كتأديب يهدف لتكريس وتأكيد خضوعه، وليدرك موقعه في الهرمية ودوره كبوق، وكبوقٍ فقط. في المرّة الثانية يكتشف صبحي أنّ لكمته للمخبر في المقهى فيها تجاوز لموقعه ودوره، فالضابط لم يمنحه رأسمالٍ سلطوي يتيح له ممارسة العنف الجسدي ضدّ الآخرين. نتيجةً لمخالفته هذه يستحق صبحي عقوبةً وعلقةً جديدة. بقدر ما يبدو العنف الجسدي مرعبًا، يظلّ الكشف عن هوية المخبر أشدّ الأمور رعبًا وأسوأها. فأيّ حياةٍ هذه التي لا يستطيع الرجل فيها أن يطمئن إلى أحد! وما أدراه الآن إن كان جميع من يصادفهم في يومه مخبرين وكتبة تقارير يهدفون للإيقاع بمن هم مثله. 

هكذا، ومن حلولٍ جسدي إلى آخر، يكشف ياسر العظمة في رحلته داخل عالم مرايا مقدار العنف الكامن والظاهر الذي يحكم علاقة الفرد بالدولة وممثّليها، وكيفية انعكاسه على علاقته بالأفراد الآخرين في المجتمع. تكرّس الدولة القوّة والعنف كمرجعيةٍ قيميةٍ وحيدةٍ في المجتمع، وتعمل تبعًا لذلك على تقسيم الناس في هرميّة تتيح لها إخضاعهم والسيطرة عليهم.

عالم الأحلام أم عالم الكوابيس؟ 

يحدث أحيانًا في مرايا أن يقع خللٌ في «المصفوفة»، إن جاز التعبير، فتقتحم الأحلام أو بعض عناصرها عالم اليقظة. أحيانًا يبدو الفرد محصورًا في إطارٍ مكانيٍّ ضيّق ومغلق تدور فيه جميع الأحداث، وأحيانًا تتّخذ الشخصيات قراراتٍ تفتقد للحد الأدنى من المنطق في عالمنا العادي، ومن وقتٍ لآخر تواجه مواقف أشدّ غرابة وعبثيّة «لتكون حقيقية». 

ثمّة أمثلة عديدة على ذلك، لكن يظلّ ما جرى مع أبو شاهر سكر (حكايا المرايا، 2001) أوضح دليلٍ على هذه الأعطال التي تؤدّي إلى تداخل الحلم باليقظة. أثناء مشاهدة كلمةٍ متلفزةٍ لمسؤولٍ مهم، يقوم أبو شاهر بالخبطِ بيده على تلفاز المقهى المتهالك ليصلح الصوت والصورة المشوّشَيْن. لاحقًا، سيرى أبو شاهر نفسه في منامه رهن الاعتقال للتحقيق معه حول ما اعتُبر إهانةً للمسؤول. ثمّ، بعد استيقاظه مضطربًا وعودته إلى المقهى، سيستحيل كابوسه حقيقة مع ظهور عشرين عنصر من المخابرات آتين للقبض عليه. 

في عالم مرايا يصير الجنون، بما يستلزمه من ثمنٍ متمثّل بتخلي الإنسان عن كل مظاهر الحياة العادية، الإمكانية الوحيدة لتفادي الإخصاء وبتر اللسان.

تأخذ الأحلام حيّزًا لا بأس به في مرايا، وغالبًا ما تأتي كانعكاسٍ لما يمرّ به الفرد في عالم اليقظة. بالتالي، إن كان عالم اليقظة مرآة لواقعنا، فإن الأحلام أشبه بمرآةٍ للمرآة. وبما أنّ الواقع ومراياه أشبه بكوابيس متواصلة، يصير عالم النوم عبارةً عن كوابيس داخل الكوابيس. لا مفرّ لياسر العظمة إذًا. تلاحقه المنامات السيئة مهما كثرت انتقالاته بين الأوعية التي يحلّ فيها. تقتفي أثره وتتبعه من جسدٍ إلى جسد، ومن شخصيةٍ إلى أخرى، وتنقضّ عليه في كل حالٍ من أحواله المتبدّلة: غنيّ، فقير، قوي، ضعيف، مسؤول، مواطن، لا فرق. يختلف ما يراه الدكتور والمدير العام جواد ناتف الريش عمّا يراه أبو حسام صاحب دفتر المسؤولين أو القهوجي أبو شاهر، لكنّهم يتشاركون جميعًا الإحساس بالقمع والخوف والاتهام.

يلازم الخضوع كلّ فردٍ في نومه وفي يقظته، باستثناء حالاتٍ شديدة الندرة يحاول فيها البعض التمرّد على وضعهم من خلال الأحلام. ينطبق ذلك على السنكري أبو حمزة (مرايا، 2003) الذي يتم إيقافه بعد أن دهس بدراجته المتهالكة المسؤول الكبير في الدولة رمزي بيك دون قصد. بعد جلسة تحقيق طويلةٍ يتعرّض فيها للإذلال والتصغير، يغفو أبو حمزة في زنزانته ليجد نفسه متَّهمًا في محاكمة أمام غريمه. لكن، وبدل أن يسكت ويرضخ لهجوم فريق الادعاء عليه، يقرّر أن يردّ التهم عن نفسه، ويندفع في خطبةٍ طويلة يفنّد فيها ويعرّي المدّعي المجرم والفاسد. لا يقطع استرساله سوى صراخ المحقّق الذي يوقظه من النوم وينهي حلمه.

يفتح أبو حمزة عينيه ليجد نفسه عالقًا في الزنزانة البائسة نفسها، حيث تتواصل عملية تأديبه وإخضاعه. ينهي رجل الأمن وهمَ السنكري بالتمرد بغريزته العنفيّة، فهو منطقيًا لا يعرف ما يدور في رأس النائم ولا هو قادرٌ على إدراك ما يراه في حلمه. لكن، بعد كلّ ما رأيناه هل يظلّ بإمكاننا الركون إلى منطق عالمنا لفهم عالم مرايا الكابوسي؟

تأتي الحادثة التي وقعت مع الموظف الحكومي المتذمّر صلاح طبشورة (حكايا المرايا، 2001) لتشكّكنا حتى بفكرة الجهل المفترض للمحقّق أو رجل الأمن بأحلام مُواطن عالَم مرايا.

يستيقظ صلاح طبشورة مرتاعًا بعد رؤيته لكابوسٍ طويل ومرعب. يخشى الموظّف الحكومي من مجرّد سرده حتى، فحلمٌ كهذا «ما بيتخبر»، حسب قوله. يبثّ هذا التمنّع الغضب في نفوس الآخرين، بدءًا من زوجته، ومرورًا بجاره وحماته، وانتهاءً بمديره. يتعرّض صلاح لجرعاتٍ خفيفةٍ من العنف على شكل تهديد ووعيد، لكنّه يظلّ مصرًّا على صمته. يدفع ذلك بأجهزة الأمن للتدخل إذ لا يحق له في عالمٍ مكشوفٍ ومراقب ومتحكّمٍ بكلّ تفاصيله أن يمتلك المواطن شيئًا واحدًا لنفسه، ولو كان كابوسًا. لذلك ربّما لا يتفاجأ الرجل كثيرًا حين يتلقّى استدعاءً إلى فرعٍ لم يسمع به من قبل: الفرع 14، الذي سيكتشف أنه مختصّ بالأحلام والمنامات.

في التحقيق، يواصل صلاح تمنّعه عن الكلام من شدّة الخوف، ممّا يضطرّ المحقّق إلى توصيله بجهازٍ عجيب يتلفّظ الموقوف لمرآه بالشهادتين. بعد تشغيله، يُعلن المحقّق أنّهما سيشاهدان سويًّا ما رآه صلاح في نومه على الكومبيوتر. بالفعل، تتوالى مشاهد الكابوس على الشاشة: يرفع صلاح مديره الفاسد «فلقة»، ينعت مسؤولًا حكوميًا في المقهى بالكذاب ويهتف ضده، يضرب ابن مسؤولٍ أرعن كاد يدهسه، ويحمل يافطةً في الشوارع يُعلن من خلالها أنّه «مستاءٌ وممتعض». كلّ الأفكار والمشاعر التي يصارع لكبتها وقمعها في وعيه، انفجرت في لاوعيه الرافض للإخضاع، إلى حدٍّ يتجرأ فيه مع المشهد الأخير على طرد المخبرين القادمين من الفرع 14 من أمام باب الدار.

في رحلته الطويلة والمستمرّة في مرايا يرسم ياسر العظمة ملامح عالمٍ مظلم، مسدود الأفق، لا تقف الدولة فيه عند حد، وصولًا إلى الإخصاء الكامل للمجتمع.

يعرف صلاح أنّ الدولة لا تتسامح مع أيّ خروجٍ عن الدور المحدّد في الهرميّة ولا بمجرّد الامتعاض حتّى. بالتالي لا يجد ما يبعد به العقاب عن نفسه بعد انتهاء العرض سوى حقيقة انعدام سلطته على لاوعيه. يهدّئ المحقّق من روعه ويعطيه شريحةً يطلب منه ارتداءها أثناء نومه، وهي ستكون كفيلة بإعادة أحلامه إلى أرض الواقع، إذا صح التعبير. في زيارته التالية إلى الفرع 14، يُسلّم صلاح نفسه مطمئنًا للجهاز، إذ حلّت المشكلة وانتظمت أحلامه مجدّدًا كما يثبت ما يرونه على الشاشة: ها هو يسير طلق المحيا، حاملًا يافطة كتب عليها: «أنا مسرور جدًّا ومتفائل».

بعد أن سلبت الدولة المواطن كل سلطة ووكالة واحتكرتها، وأطبقت بقبضةٍ حديديةٍ على عالميْ اليقظة والوعي، ها هي تكمل سيطرتها على اللاوعي أيضًا. مع إتمامها لدورة العنف، تبلغ الدولة غايتها من عمليّة التغيير الاجتماعي لتنتج المواطن النموذجي، والذي أقترح هنا تسميته بـ«المواطن المخصي»، لتوخّي الدقّة.

المواطن «المخصي» 

لعلّ ندرة الأطفال في عالم مرايا أحد الأدلّة المباشرة على حالة الإخصاء السائدة فيه. في غالب الأحيان تمتلك الأوعية التي يحلّ فيها ياسر العظمة زوجةً وأقارب ورؤساء وزملاء عمل (أي محيطًا اجتماعيًا)، إلّا أنّها لا تمتلك أولادًا. حتّى في المرّات التي يكنّى الرجل فيها بأبو فلان أو أبو علان -وهي كثيرة- يندر الحضور الجسدي أو حتّى المعنوي لهؤلاء الأبناء المفترضين.

من جهة ثانية، يحتكم الأفراد في عالم مرايا لتوزبعٍ جندريٍ تقليديٍ للأدوار بين الرجل والمرأة: يقع على عاتق الأوّل مسؤولية الخروج من البيت وتأمين المعيشة، فيما تنحصر حياة الثانية داخل البيت وشؤونه اليوميّة. لكنّ الرجل، ونتيجة تعرّضه في كلّ مرّة يعبر فيها باب البيت إلى الشارع لمختلف أشكال الإذلال والإخضاع، يعود إلى منزله وقد هشّمت صورته عن نفسه التي تشكّل ذكورته عنصرًا أساسيًا من عناصرها. وبالتالي لا يعود قادرًا على مجاراة التوقّعات منه كذكر ولا القدرة على تحمّل الأعباء التي يفترض به تحمّلها كربّ منزل. في معظم الأحيان يؤدّي ذلك إلى اختلالٍ في الوضع الأساسي لعلاقة الرجل بامرأته، يخسر على إثره سلطته وقوامته عليها. 

في حالة أبو عادل (مرايا، 1999)، تنقلب الأدوار بينه وبين زوجته بالكامل. لا تكتفي أم عادل بـ«كسر كلمته» أو الاستهزاء به على سبيل المثال، بل تلاحقه بالإهانات والأوامر طوال اليوم وتجبره على إنجاز الأعمال المنزلية بالكامل كالتنظيف والطبخ وتجهيز الأرجيلة. حتّى عندما يهرب إلى المقهى الذي يقدّم فيه نفسه باسم «سوسو السفّاح» المجرم الخطير، تلحق به إلى هناك وتجرّه من أذنه أمام الرجال في المقهى من دون أي اعتبار لصورته. إذا كان سوسو السفاح يحاول الإيحاء بالقوّة للتغطية على «فقدانه لذكورته»، فإنّ عصام (مرايا، 1999) يتعامل مع وضعيةٍ مشابهةٍ عبر إنكار وجودها من الأساس. 

كغيره من المواطنين تعرّض عصام للتعنيف والإخضاع المتواصلَين منذ الصغر. أدّى ذلك إلى فقدانه شيئًا من الهيئة الذكورية التقليدية التي يمثّلها سوسو السفاح، فهو يصفّف شعره إلى اليمين ويمسّده بيده طوال الوقت، ويتحدّث بصوتٍ رفيعٍ تغلب عليه النبرة الاعتذارية.

مع مرور الوقت، ونتيجةً لما مرّ ويمرّ به، أصيب عصام بخوفٍ مرضيٍّ، جعله مرتعبًا من كلّ شيءٍ أو أحد، وفزعًا من أيّ شكلٍ من أشكال التواصل. يجفل عصام من رنين الهاتف ويتردّد طويلًا قبل الرد عليه، ويرتجف لمجرد أن جرس الباب قرع. شيئًا فشيئًا يُكثر من الإجازات المرضية وغير المدفوعة ليبقى في المنزل ويتجنّب الخروج. يثير ذلك قلق زوجته ويغضبها في الآن نفسه، لتجبره بالقوّة وتحت الضغط على زيارة الطبيب النفسي. هناك، ومع كلّ سؤالٍ يوجّه إليه عن مخاوفه يصرّ عصام على إنكارها: تغييره للطريق عند رؤيته للأستاذ الذي كان يضربه، نوعٌ من الاحترام والتبجيل للمعلم، أما تلبيته لطلبات زوجته التعجيزية فتعبيرٌ عن الحب والاهتمام، وكذلك الحال بالنسبة لتجنّبه الحديث مع زملاء العمل فهو آتٍ نتيجة حرصٍ على أوقات الدوام الثمينة. هكذا، يواصل عصام حتّى النهاية رفض قبول الخوف كسببٍ أوحد لكلّ سلوكياته. ليسأل في النهاية: «ليش الخوف؟» ويتابع مجيبًا نفسه: «ما في شي بخوّف». 

أما أبو سلام (حكايا المرايا، 2001) الموظّف في كافيتيريا مؤسّسة حكومية فهو رجلٌ عاقرٌ لا ينجب، وبالتالي فإنّ شعوره بالإخصاء يأخذ شكلًا ماديًا حقيقيًا، ممّا يجعله أكثر حساسيةً تجاه عملية الإخضاع. في محاولة لردّ الاعتبار لذكورته المفقودة، يركض أبو سلام إلى غرفته ويغلق الباب في كلّ مرّة يتعرّض فيها للإهانة. يتخيّل المعتدي أمامه في المرآة ويبدأ بتقريعه وتأديبه، ممّا يبث في نفسه إحساسًا بالسكينة ويعينه على الاستمرار. إذًا، يختلف تمظهر الإخصاء والتعامل معه بين فردٍ وآخر، وكذلك القدرة على التأقلم معه. بكلّ الأحوال، يظلّ ما جرى مع راضي ملتاش (حديث المرايا، 2002) التعبير الرمزي الأمثل عن حالة الإخصاء التي تحكم عالم مرايا والمسار المؤدّي لها.

يلخّص اسم وكنية المهندس الحكومي الكثير عن حاله، فهو «راضٍ» و«مِلتاش»، أي ضعيفٌ فاقدٌ للسيطرة. يتعرّض الرجل للكثير من المشاكل والأذية المقصودة وغير المقصودة، وفي كلّ مرّة يسمع عبارات الاعتذار فيسكت ويرضى. توقع حماته ركوة القهوة الساخنة عليه، وتصيبه مكنسة الجارة التي تلاحق ابنها، ثمّ تشوّه زميلته في المكتب مخطّطه الهندسي، وبعدها تُسحب منه البعثة التدريبية في إيطاليا قبل أقل من أسبوع على موعدها لصالح أحد المدعومين. يزيد الأذى والظلم من حادثةٍ إلى أخرى، ومع ذلك يتواصل صمتُ راضي. لا تتوقف المشاكل هنا، إذ يرمى في السجن لاتهامه بجريمة اختلاسٍ لم يرتكبها. بعد تبيان الخطأ وتلقيه اعتذارًا آخر، يحسّ راضي عند عودته إلى المنزل بالتهابٍ في اللسان، ويقرّر الطبيب إثر رؤيته أنّه ورمٌ يستوجب بتره خشية تفشيه. بالفعل، يقصّ لسان الرجل تاركًا إياه في حالةٍ يرثى لها. يأتي بتر اللسان أشبه ببتر العضو الذكري، إذ يصير راضي عاجزًا عن نطق معظم الحروف بشكلٍ صحيح، ويملؤه إحساسٌ بالخزي والعار. عندما تبيّن الفحوصات اللاحقة على العملية انعدام الحاجة إليها، ينفجر راضي أخيرًا في وجه اعتذار الطبيب، ساخطًا عليه وعلى كلّ من سبقه من معتذرين. يخرج راضي وقد أظلمت الدنيا في وجهه، ليرتطم بالخطأ بمسؤول حكومي، فلا يجد مفرًّا من استعمال العبارة التي اعتاد سماعها: «آسف يا سيدي، آسف»، لكنّ لن ينجو مع ذلك من علقةٍ ساخنة على يديّ عناصر الحماية.

يأتي العقاب الأخير تأكيدًا على تواصل عملية الإخضاع واستمراريتها، فحتّى تعرّضه الرمزي للإخصاء وخسارته لسانه، لا يعدّ رضوخًا وخضوعًا كافيين للدولة، إذ سيدفعها لطلب المزيد في كلّ مرّة، إلى ما لا نهاية.

خاتمة

في رحلته الطويلة والمستمرّة في مرايا يرسم ياسر العظمة ملامح عالمٍ مظلم، مسدود الأفق، لا تقف الدولة فيه عند حد، وصولًا إلى الإخصاء الكامل للمجتمع. هناك يجد العظمة نفسه مكشوفًا أمام عنفٍ متعدّد المصادر، ومحاصرًا دون أيّ أمل بالنجاة. في وضعٍ كهذا يظهر الجنون مهربًا نهائيًا ووحيدًا للخلاص.

أحيانًا يَفرض الجنون نفسه كما في حالة أبو الفوز (مرايا، 1999) الذي يدور بعربته في شوارع المدينة، وأحيانًا يُأتى طوعًا كما في حالة أبو كعكة (حكايا، 2000) الذي يمضي إلى قريّة نائيةٍ يدّعي فيها فقدانه العقل. في الحالتين، «يُرفع التكليف» عن الرجل، فيُتاح له فعل وقول ما يريده دون رادع، إذ يضعه الجنون تلقائيًا خارج هرميّة المجتمع، فيتحرّر بشكلٍ كليّ من دوره في المنظومة القائمة وعلاقاتها. بمعنى آخر، يصير الجنون، بما يستلزمه من ثمنٍ متمثّل بتخلي الإنسان عن كل مظاهر الحياة العادية، الإمكانية الوحيدة لتفادي الإخصاء وبتر اللسان.

لكن مهلًا، هل يبدو هذا الحلّ مألوفًا بشكلٍ من الأشكال؟ دعونا نوسّع الإطار قليلًا ونبتعد عن المرآة لنرى المشهد كاملًا. يتبدّى لنا ياسر العظمة، الذي أسرّ مسبقًا أنه إنّما يقول ما يفكّره في عالمه المصوّر حصرًا، واقفًا أمام مرآةِ كل المرايا، وها هو قرينه المنعكس أمامه، الكوميدي الذي يلبس ثوب بهلولٍ حكيمِ معاصر، يقفز من مرآة لأخرى ليقول ما يريد كيفما يريد.

*لمشاهدة بقية أجزاء المقابلة: الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية