عودة «الخطر الأصفر»: الولايات المتحدة ومواطنوها الآسيويون

الخميس 22 أيلول 2022
عنصرية أمريكا
خلال مسيرة مناهضة للكراهية ضد الآسيويين، في واشنطن، بتاريخ 13 آذار 2021. تصوير جيسون ريدموند.

يُطرح اليوم في المجتمع الأميركي سؤال يتحدى شيئًا عميقًا داخل النفس الأمريكية: هل الأمريكيون مستعدون لعالم يكون فيه للصين اليد العليا؟ أو هل هم مستعدون للتعامل مع الشعب الصيني والشركات والأفكار الصينية على قدم المساواة؟ وفي حال الصدام مع الصين، كيف يتعامل المجتمع الأمريكي مع الأميركيين الصينيين؟

خلال قرن ونصف القرن، منذ التقى الشعبان الصيني والأمريكي وجهًا لوجه، تغيّرت المواقف النسبية للبلدين بشكل كبير. خلال تلك الموجة الأولى من الاشتباكات في القرن التاسع عشر، كانت الصين إمبراطورية سلالة عظيمة تتمزق ببطء بسبب العدوان الاستعماري والصراع الداخلي. أما الولايات المتحدة فكانت أمةً صاعدة من المهاجرين، تمثل تجربة ديمقراطية غير مثبتة، تمزج بين المثل العليا والوقائع الفوضوية والقوة العسكرية المتزايدة. واليوم، يجري التعرف على شعوب هذين البلدين على أسس مختلفة: كمواطنين للقوتين العظميين في العالم.

تلعب الولايات المتحدة اليوم دور الطاغوت، فهي موطن للصناعات العالمية القوية والتقاليد الوطنية المتعالية، كما يحرّكها نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي مشحون بشكل متزايد. أما الصين اليوم فهي أمة واعدة، شقّت طريقها عبر عقود من الاضطرابات الداخلية لتتحدّى الولايات المتحدة من أجل قيادة العالم. وما زاد الأمور تعقيدًا أن الصين لم تصل هذا الموقف بالسير على الطريق التي رسمتها القوى الإمبريالية التي حلّت محل الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، على الأقل في الشكل الأيدلوجي الممتلئ عن بكرة أبيه بالشعارات الأخلاقية الجوفاء والقابلة للتحطيم من قبل صانعيها قبل التابعين. وفي تلك الأثناء لم يتبق من تلك العلاقة الطويلة والممتدة عبر عقود سوى الاحتقان بين القوتين، ولم يبق من التنسيق سوى حدّ أدنى من الاتصالات خوفًا من الانجرار إلى صدامات لا مفر منها، ولا يقدر أحد على دفع أثمانها.

ونظرًا لأنّ المستثمرين والمهاجرين الصينيين والأفكار الصينية تفرض وجودها على الأراضي الأمريكية بقوة، يقلب الوافدون الصينيون العديد من الأفكار الأمريكية حول الهجرة رأسًا على عقب، ويواجهون المجتمع بأسئلة معقدة حول القبول والاستيعاب والمواطنة. وقد لاحظ الكاتب والصحفي الأميركي، مات شيهان، في كتابه «تجربة عبر المحيط الهادئ: كيف تتعاون وتتنافس الصين وكاليفورنيا من أجل مستقبلنا»، هذا الانشقاق الصاعد بقوة داخل المجتمع الأميركي، وما يخلقه من مقصلة أخلاقية داخل المجتمع تجاه المهاجرين. اليوم، يتساءل الأمريكيون ماذا لو لم يكن المهاجر عاملًا فقيرًا، بل عائلة غنية تهرب من الضباب الدخاني في بكين؟ ماذا لو كانت الموارد التي ينافس الوافد الصيني الأمريكي عليها ليست وظيفةً ضمن الطبقة العاملة، بل منزل في بلدة أميركية؟ ماذا لو كان الوافدون الجدد ليسوا مثل العديد من العمال المهاجرين الأوائل، وليس لديهم نية للبقاء في البلاد على المدى الطويل؟ تلك الأسئلة وغيرها تُطرح حتى بين سكان المدن الساحلية التي سمح موقعها نسبيًا بوجود تنوّع عرقي فيها تاريخيًا، وأرضية للتضامن مع المهاجرين واللاجئين، حتى حينما كانوا مستهدفين من قبل الرئيس ترامب، مثل نيويورك وكاليفورنيا والعاصمة واشنطن.

التاريخ الطويل الذي جمع بين سكان الدولتين، رصده شيهان[1] ذاكرًا لأول لقاء فعلي بين الشعبين عقب اكتشاف الذهب في عام 1849. حينها وصل عشرات الآلاف من الرجال الصينيين إلى اليابسة في سان فرانسيسكو، المدينة التي أطلقوا عليها اسم «الجبل الذهبي». نهضة استخراج الذهب تزامنت مع بدء شركات السكك الحديدية في وضع المسارات لبناء الجزء الغربي من السكك الحديدية العابرة للقارات، فانجذب بعض المهاجرين الصينيين الجدد إلى الأجور المربحة التي يمكنهم كسبها من خلال العمل لصالح شركات السكك الحديدية، وبعددٍ أقل انضم صينيون آخرون لمصانع السجائر والنعال والصوف، أو وجدوا فرصًا أخرى في الغرب الأمريكي. كان أغلب القادمين من الفلاحين، الذين غالبًا ما يسافرون في مجموعات كبيرة من نفس القرية. لكن شيهان رصد ملاحظة مهمة حول تلك المجموعات، «لم يتخلوا عن تقاليدهم في الأراضي الجديدة، بل كانوا يفرون من وطن يعاني من التمرد العنيف والحرمان الاقتصادي» ومع نمو الوجود الصيني في أمريكا، بدأ يتزايد قلق الأمريكيين البيض.

حين دخل هؤلاء الرجال إلى أمريكا، كانت مليئة بالفعل بالقلق الاقتصادي والاستياء العنصري. كانت أمريكا، في منتصف القرن التاسع عشر، منخرطة في صراع ملحمي على العرق، وخلّفت الحرب الأهلية، حسب أحدث التقديرات، ثلاثة أرباع مليون قتيل. وفي السنوات المضطربة من إعادة الإعمار التي تلت ذلك، أعدم ألفا شخص أسود على الأقل. يحكي شيهان في كتابه: «بالنسبة للعمال الأيرلنديين في سان فرانسيسكو -رجال مثل جدي الأكبر- كان يُنظر إلى هؤلاء الوافدين الصينيين على أنهم تهديد لوظائفهم وإهانة لهويتهم. نشرت الصحف روايات ومخاوف من «خطر أصفر» يهبط على الشواطئ الأمريكية». وهو ما لاحظه الكاتب بن زيمر، في مقاله في «الأتلانتيك» بعنوان «من أين يأتي خطاب ترامب عن الغزو؟» وأشار إلى أنه «في أواخر القرن التاسع عشر، في ولاية كاليفورنيا، تحمّل العمال الصينيون المهاجرون العبء الأكبر من خطاب «الغزو». بينما استخدم المصطلح تاريخيًا للإشارة إلى توغل القوات المسلحة، كان ينظر إلى المهاجرين الصينيين على أنهم «غزاة» من نوع أكثر غدرًا».

عمال مناجم صينيون في منجم إدغار التجريبي التابع لمدرسة كولورادو للمناجم، في عام 1920. المصدر: ويكيميديا.

وفي نهاية المطاف، آتت إنذارات «الغزو» في كاليفورنيا أكلها، وانتهى بها الأمر إلى جذب الانتباه الوطني، وازدهر الديماغوجيون، وألقوا باللوم على الوافدين الصينيين الجدد عندما أدت الأزمات المصرفية إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي. ونفذ البلطجية عمليات إعدام خارج نطاق القانون في معسكرات العمل الصينية. وفقًا للبحث التاريخي المفصل الذي أجرته بيث لو ويليامز، أستاذة التاريخ في جامعة برينستون، في كتابها «الصينيون يجب أن يذهبوا»[2] أجبر ما لا يقل عن 168 مجتمعًا سكانه الصينيين على المغادرة حينها.

وفي إحدى الحوادث المروّعة، تحديدًا في عام 1885، قام عمال المناجم البيض في روك سبرينغز، في إقليم وايومنغ، بذبح ما لا يقل عن 28 من عمال المناجم الصينيين وطردوا عدة مئات آخرين. تلك المعاناة التي عاشها الصينيون في أميركا، كان لها غطاء قانوني ودعم سياسي غير محدود. فمرر الكونغرس قانون «الاستبعاد الصيني» لعام 1882، الذي يعد أول قانون على الإطلاق لحظر مجموعة عرقية بأكملها من دخول بلد ما. كانت تلك اللحظة المبكرة أول اختبار حقيقي «لمبادئ» الولايات المتحدة التي قام عليها مجتمعها «الاستثنائي».

رسم توضيحي من مجلة هاربر عام 1885 للمجزرة المرتكبة بحق العمال الصينيين في في إقليم وايومنغ. المصدر: ويكيميديا.

بعد قانون استبعاد الصينيين لعام 1882 توقفت الهجرة الجديدة فعليًا. على مدى العقود التي تلت ذلك، تمكن بعض الرجال من الموجة الأولى من جلب زوجاتهم، واستمر «أبناء الورق» في المرور عبر محطة الهجرة في جزيرة الملاك. لكن إجمالي عدد السكان الصينيين في أمريكا انخفض خلال ستين عامًا من الاستبعاد الصيني. وبدأت الموجة الثانية بعد إلغاء هذا القانون في عام 1943، وهي خطوة تهدف إلى الوحدة بين الصينيين والأمريكيين في مواجهة العدوان الياباني. إلا أن الإلغاء حدد حصة ضئيلة تقتصر على 105 مهاجرين صينيين فقط كل عام، ولكن الاستثناءات لضحايا الحرب واللاجئين السياسيين بعد استيلاء الحزب الشيوعي الصيني على السلطة في عام 1949، والمهنيين المدربين، أدت إلى هجرة أعداد أكبر بكثير من الوافدين الجدد. وخلال الخمسينيات، تزايد عدد السكان الأمريكيين الصينيين إلى أكثر من مئتي ألف.

وتميز هؤلاء الوافدون الجدد عن الموجة الأولى من حيث إنهم كانوا في كثير من الأحيان أفضل تعليمًا، ومن مناطق أكثر تنوعًا في الصين (غالبًا عن طريق تايوان)، وكانوا يتحدثون الماندرين في المقام الأول بدل الكانتونية. استقر البعض في الأحياء الصينية الحضرية، لكن البعض الآخر بدأ يتفرع إلى الضواحي. عندما تولوا مناصب كعلماء وأطباء ومهندسين، ساعدوا في وضع الأساس لفكرة أن الأمريكيين الصينيين شكلوا «أقلية نموذجية»: المواطنون غير البيض الذين يمكن استخدام نجاحهم الاقتصادي كمثال على الجدارة الأمريكية في العمل وكطريقة لتبرير محنة الأمريكيين من أصل أفريقي.

تروي الشاعرة والكاتبة الأميركية من أصل كوري، كاثي بارك هونغ، في كتابها الصادر في عام 2020 تحت عنوان «مشاعر طفيفة»، إحساس ومعاناة المواطنين الأمريكيين من أصل آسيوي في المجتمع الأمريكي. فتقول إنّ المواطن الآسيوي يقبع في طبقة رمادية من سلم المجتمع، بحسب توصيفها الدقيق: «في الخيال الشعبي الأميركي، يعيش الأمريكيون الآسيويون في وضع غامض: فهم ليسوا بيضًا بما فيه الكفاية، ولا سودًا بما فيه الكفاية؛ ولا يثق بهم الأمريكيون الأفارقة الذين يتجاهلهم البيض، ويستخدمهم البيض لإبقاء الرجل الأسود في الأسفل».

تجلّت مشاعر هونغ الطفيفة، في 20 تشرين الثاني 2014، حين كان ضابط شرطة نيويورك الصاعد، بيتر ليانغ، يقوم بدورية على درج مظلم في مشروع سكني في بروكلين. وكعادة المستجدين سحبَ مسدسه بتوتر حين سمع ضجيجًا، وضغط الزناد عن طريق الخطأ. ارتدت الرصاصة من الحائط لتضرب الشاب «أكاي غورلي» البالغ من العمر 28 عامًا، حين كان يصعد الدرج. وبعد وقت توفى غورلي متاثرًا بتلك الجروح. كانت تلك الواقعة هي الأحدث في سلسلة الاعتداءات المستمرة من قبل رجال الشرطة ضد الرجال السود العزل، في جميع أنحاء البلاد. لكن المختلف هنا كان شيئًا واحدًا: بيتر ليانغ اتهم بالفعل بارتكاب جريمة. كان اتهام ليانغ بالقتل غير العمد من الدرجة الثانية، مع عقوبة أقصاها 15 عامًا في السجن، بالتزامن مع قضية أخرى، فبعد أربعة أيام فقط من إطلاق ليانغ النار على غورلي، قررت هيئة محلفين كبرى في مدينة فيرغسون، عدم توجيه الاتهام إلى الضابط الذي قتل، مايكل براون، صاحب الـ18 عامًا. وبعد تسعة أيام، اختارت هيئة محلفين كبرى في نيويورك عدم توجيه الاتهام إلى ضابط شرطة نيويورك الذي قبض عليه وهو يخنق بركبته، إريك غارنر، الذي ظلّ يستجديه ليلتقط أنفاسه.

بدأ واضحًا للأمريكيين من أصل صيني أنّ أمرًا جللًا يحدث. بالتأكيد القتل الخطأ يبقى خطأ، لكنهم أدركوا أنّ ازدواجية معايير المواطنة وتوزيع الحقوق تُقسم بحسب العرق. وفي الثامن من آذار 2015، خرج أكثر من ثلاثة آلاف أمريكي صيني إلى شوارع نيويورك للاحتجاج على لائحة اتهام ليانغ. الذي حين أدين بالقتل، كان يعد أول ضابط في شرطة في نيويورك يدان بإطلاق النار منذ أكثر من عقد من الزمن. استمرت التظاهرات فخرج أكثر من عشرة آلاف متظاهر إلى الشوارع في بروكلين. وكذلك شهدت سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، وفيلادلفيا، وغراند رابيدز مسيرات مماثلة مؤيدة لليانغ، رفع فيها المتظاهرون لافتات باللغتين الإنجليزية والصينية، كتب عليها «مأساة واحدة، ضحيتان» ونقل المتظاهرون عن مارتن لوثر كينغ جونيور: الظلم في أيّ مكان تهديد للعدالة في كل مكان.

متظاهرون يدعمون بيتر ليانغ، في 20 شباط 2016، في منتزه بوسطن كومون. المصدر: ويكيميديا.

استمرت المعاناة، وتصاعدت وشملت كافة الاقليات الآسيوية، مع انتشار الوباء من ووهان في الصين، إلى أوروبا وأمريكا في نهاية المطاف، حين شنّ ترامب مرارًا وتكرارًا حربًا ضد الصينيين، وأضفى عليها تلك الألقاب المشحونة باسم «فيروس ووهان» و«طاعون الصين» و«إنفلونزا الكونغ». رصد مركز دراسة الكراهية والتطرف في جامعة ولاية كاليفورنيا، أن جرائم الكراهية التي أبلغت الشرطة عنها في 16 مدينة أمريكية رئيسية انخفضت بنسبة 7% العام الماضي. ومع ذلك، ارتفعت ضد الأمريكيين الآسيويين بنسبة 149%. كما لاحظ جيونج، وهو أحد مؤسسي مشروع «أوقفوا الكراهية»، في آذار من العام الماضي، ارتفاع جرائم الكراهية التي يعاني منها الأمريكيون الآسيويون وسكان جزر المحيط الهادئ، فمن بين أكثر من 3800 حادثة، كانت النساء وكبار السن أكثر عرضة لأن يكونوا ضحايا بأكثر من الضعف مقارنةً بالرجال.

كان الخطاب العدائي الآتي من رأس النظام الأميركي والمدعوم من المجتمع أساسه المنافسة القائمة بين واشنطن وبكين على زعامة العالم. حين وصل الاحتقان السياسي إلى وضع حرج، كان ذلك الاحتقان ينعكس على المجتمع الاميركي، خصوصًا بعد توصيف ترامب للطلاب الصينيين بالـ«جواسيس» عقب إلقاء القبض على بعض الطلاب الصينيين بتهمة التجسس في القضية المعروفة إعلاميًّا باسم «كي ويست». حينها، وصل اضطهاد الدولة مواطنيها ذروته، وتحول المواطن الأميركي من أصل صيني في نظر الدولة إلى «جاسوس محتمل». وأَطلقت الإدارة الأميركية ما أسمته بـ«المبادرة الصينية»، في تشرين الثاني 2018. استهدفت وزارة العدل الأمريكية من وصفتهم بالجواسيس الصينيين مُتسلحةً بالمبادرة حديثة العهد، رافعةً شعار «من أجل مكافحة التجسس الاقتصادي». أشعل ترامب وإدارته الحرب، واتهم الصين باستخدام الباحثين والطلاب لسرقة الابتكارات التكنولوجية الأمريكية. ورغم انتقادات التحيز العنصري وانعدام صلاحية الحجة، لم تكترث إدارة ترامب وذهبت بعيدًا في ملاحقة الأكاديميين.

كان فرانكلين تاو، أستاذ الهندسة الكيميائية في جامعة كانساس، وأحد العشرات الذين طالتهم الاتهامات، هاجر إلى الولايات المتحدة منذ أكثر من 20 سنة، واستقر في كانساس لتحقيق حلمه الأمريكي. لكن في أغسطس 2019، كان فرانكلين في منزله في لورانس، كانساس، عندما جاء عملاء فيدراليون مسلحون إلى بابه، ودون سابق إنذار، اعتقلوه. كانت الاتهامات تضمن لتاو البقاء لـ20 سنة أخرى في الولايات المتحدة، لكن في السجن هذه المرة. خضع تاو لتحقيق استمر قرابة السنة من قبل وزارة العدل، قبل أن تسقط التهم عنه لنقص الأدلة. النقص ذاته الذي شمل باقي القضايا في إطار مبادرة الصين، بسبب الأدلة الكاذبة التي قدمها مكتب التحقيقات الفيدرالي. لتوقف وزارة العدل المبادرة هذه في 23 شباط 2022، وسط انتقادات للمعاملة غير العادلة للأمريكيين الصينيين والمقيمين من أصل صيني.

لم يتبق من العلاقة الطويلة والممتدة بين الولايات المتحدة والصين عبر عقود سوى الاحتقان بين القوتين، ولم يبق من التنسيق سوى حدّ أدنى من الاتصالات خوفًا من الانجرار إلى صدامات لا مفر منها، ولا يقدر أحد على دفع أثمانها.

تلك الحالة المعادية للأمريكيين من أصل آسيوي، وصفها كريستوفر لو، سكرتير مجلس الوزراء السابق لباراك أوباما، في حديث سابق على شبكة «سي إن إن»، في آذار 2021، «بأنّ هناك موضوعًا ثابتًا، وهو عندما تكون هناك توترات بين الولايات المتحدة الأميركية مع دولة آسيوية، فإن الأمريكيين الآسيويين أو الذين يبدون أمريكيين آسيويين غالبًا ما يصبحون كبش فداء». أما قطعية نظرة كريستوفر عن استهداف الأميركيين الآسيويين، ورغم أنها تبدو حصرية في تصريحاته على عرقية محددة، إلا أنّ توجه النظام الأميركي لاستهداف شريحة من مواطنيه بناءً على الاضطرابات السياسية الخارجية هي سمة تاريخية لديه، يشارك فيها المجتمع نفسه بشكل فاعل وداعم، بل في بعض اللحظات هو من يشعل فتيل الأزمة، كما حدث بعد أول لقاء حدث بين المجتمع الأميركي والمهاجرين الصينيين، وغيرهم.

كان القانون «الاستثنائي» الذي أقرته الولايات المتحدة باستبعاد الصينيين ينافي الدستور، فهو كما وصفه الفيلسوف الإيطالي جورجو أغامبين، في كتابه «حالة الاستثناء»:[3] «نقطه اختلال التوازن بين القانون العام والشأن السياسي، شأنها شان الحرب الأهلية والانتفاضة والمقاومة، تقع على حافة غامضة وغير محدودة في منطقة التقاطع بين الشأنين القانوني والسياسي». فمثلًا، أصدر هتلر في 28 شباط 1933 مرسوم حماية الشعب والدولة، وعلق من خلاله العمل بمواد الحريات الشخصية، ووضع بين يدي الدولة إمكانية التصفية الجسدية، ليس للخصوم السياسيين فحسب، بل لشرائح كاملة من المواطنين تعتبرهم السلطة غير قابلين للاندماج في النظام السياسي.

لكن قانون «الاستبعاد الصيني» كان قد سبق أفكار الفيلسوف الألماني الموسوم بالنازية، كارل شميت، بأكثر من أربعين عامًا، وهو الذي يعود له الفضل في تنظير ما يُسمى بحالة «الاستثناء». أسس شميت، عام 1922، في كتابه «اللاهوت السياسي: أربعة فصول في مفهوم السياسة»[4] للدولة القوية الموحدة، وإناطة الحكم بديكتاتور مفروض يحكم بمنطق السيادة المطلقة، ويحفظ النظام الدستوري، ثم ربط بين السيادة التي ترتبط بالسلطة، والتي تستطيع تعليق العمل بالقانون لا تشريعه فحسب.

ورغم أنّ تعريفه الشهير عن أن صاحب السيادة «هو من بيده إقرار حالة الاستثناء» افترسه المنظرون الليبراليون، إلا أنّ الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، أصدر في الأول من نيسان 1942، قرارًا باعتقال أَيّ مواطن أمريكي من أصل ياباني وترحيله فوريًا من الساحل الغربي إلى عشرة معسكرات اعتقال في أكثر الأماكن المقفرة في أمريكا. على إثر ضرب الإمبراطورية اليابانية للأسطول الأمريكي في «بيرل هاربر» أثناء الحرب العالمية الثانية.

وضعت الإدارة الأميركية، مواطنيها في معسكرات اعتقال في صحراء أريزونا شديدة السخونة، ومستنقعات أركنساس الخانقة، وفي وايومنغ، وفي أيدوها، وفي يوتاه، وفي صحراء كولورادو، وفي أكثر الأماكن المهجورة في كاليفورنيا، فقط لأنّهم يشبهون هؤلاء الذين يتقاتلون معهم، فيما يشبه ما فعله هتلر باليهود، لكن الفرق الوحيد بينهما أن الولايات المتحدة فازت في الحرب.

  • الهوامش

    [1] Matt Sheehan. 2019. The Transpacific Experiment: How China And California Collaborate And Compete For Our Future. Berkeley, California: Counterpoint.

    [2] Beth Lew Williams. 2021. The Chinese Must Go: Violence, Exclusion, and the Making of the Alien in America. Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press.

    [3] جورجيو أغامبين. 2015. حالة الاستثناء: الإنسان الحرام. ترجمة ناصر إسماعيل. القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر.

    [4] كارل شميت. 2018. اللاهوت السياسي. ترجمة رانية الساحلي وياسر الساروط. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية