رحلة آلاء بحثًا عن حياة طبيعية

الخميس 13 تموز 2023
تصميم محمد شحادة

عام 2009، وهي آنذاك في الثامنة عشر من عمرها، انهال عليها والدها بالضرب ثم طردها من المنزل. لم يكن هذا أمرًا جديدًا على آلاء،* فقد اعتادت وإخوتها منذ الصغر أن يشاهدوا أباهم يضرب أمّهم بشكل روتيني، ولمّا كبروا صاروا هم أيضًا يتلقون الضرب منه، حتى إن أصواتهم كانت تبلغ مسامع سكان الحي الذين صاروا يتجنبون زيارتهم، لأن للأب سيطًا بأنه عصبي وعنيف، ما جعل الناس «تختصرنا وما تحكي معنا»، تقول آلاء.

في العادة، كان من يُضرب ويطرد من أفراد العائلة يخرجون إلى جانب المنزل بانتظار أن يهدأ الأب ويسمح لهم بالعودة، أو يذهبون إلى أعمامهم الذين يسكنون بالقرب منهم ثم يُرجعهم هؤلاء إلى البيت. لكن، بعد ضربها وطردها هذه المرة لم تقف آلاء منتظرة على باب المنزل، بل أخذت حقيبتها وخمسين دينارًا كانت هي «تحويشتها»، ثم غادرت الحي كله.

لسنواتٍ كانت آلاء تفكر بالطريقة المناسبة التي ستهرب فيها مع أمها وإخوتها الصغار، ولم تكن والدتها تستمع إليها مطلقًا كلما حدثتها بالأمر. خرجت وحدها وفكّرت بالذهاب إلى إحدى أخواتها المتزوجات، لكنها اختارت أن تجنّبهن المشاكل، فاتجهت إلى مجمع الحافلات ثم إلى عمّان التي لا تعرف عنها شيئًا إلا ما سمعته من زميلات المدرسة عندما تحدثن عن العاصمة باعتبارها مكانًا مذهلًا مقارنة بمكان عيشهنّ.

في عمّان وجدت عملًا في أحد المطاعم، لكن في اليوم الأول لها في العمل دخل إلى المطعم أفراد من وزارة العمل، طلبوا تصاريح العمل لجميع العاملين، ومترددةً أخبرتهم باسمها، فتبيّن لهم بأنه معمّم عليها (مطلوبة).

بإمكان الأقرباء إبلاغ الشرطة عن المفقودين من الأقارب من الدرجة الأولى بعد فقدان الاتصال بهم لفترة، وللعثور عليه تنشر الشرطة بدورها «تعميمًا» عن الشخص المفقود وتبحث عنه. أحيانًا تترك بعض النساء منازلهن بإرادتهن، فيقدم الأقرباء الرجال بحقهن بلاغاتٍ أو شكاوى بالتغيّب، أو يقدمون بلاغات عنهنّ باعتبارهنّ مفقودات، وهو ما كان قد فعله والد آلاء فور اكتشافه تركها للمنزل. 

بعد القبض عليها، أخذت سيارة الشرطة آلاء إلى أحد مخافر عمّان، وكانت هذه أول مرةٍ تدخل فيها مركزًا أمنيًا، فأصابها الخوف وبدأت بالبكاء. لاحقًا «ركبوني بوكس فيه بنات كثير، وأنا كنت خايفة، كانت الدنيا ليل»، ونُقلت لتقضي ليلتها في زنزانة مركز أمني بمحافظة أخرى، «الغرفة فيش فيها فراش، كلها صراصير، فيها بنات نايمات على الأرض». وفي اليوم التالي نُقلت إلى المحافظ، حيث تفاجأت بوجود أبيها وعمها وأمها، وهناك حصل المحافظ على تعهد من الأب بعدم التعرض لابنته.

عادت آلاء إلى المنزل ودفعت ضريبة هروبها، إذ فُرضت عليها إجراءات شديدة لمنعها من الهرب ثانية، فخضعت لمراقبة مستمرة، ومُنعت من الاتصال مع العالم الخارجي، وأغلقت عليها النوافذ والأبواب، واستمر الأب في تعنيفها رغم التعهد.

عند التعميم على النساء من قبل الأهل، يفترض رجال الأمن احتمالية وجود نزاع بين الطرفين، وتتعامل إدارة حماية الأسرة أو المحافظ مع الحالة. في البداية، غالبًا ما تدفع إدارة حماية الأسرة باتجاه المصالحة وإعادة المرأة إلى أهلها، وفي حال رفضها العودة، مع إصرار الأب أو الأخ على رفض تركها المنزل، تُرسل أول مرة إلى إحدى دور إيواء النساء، أو تحوّل إلى المحافظ في حال تكرار الهرب، والذي قد يقرر إرسالها إلى السجن.

لتسع سنوات تالية ظلّت آلاء تتعرض للعنف والإهانة بشكل مستمر، ولم تفارقها فكرة الهروب مجددًا. وفي يومٍ من عام 2018، هربت من المنزل إلى عمّان مجددًا، وفي أحد الأيام أوقفت دورية شرطة التاكسي الذي استقلّته إلى عملها، وتبيّن أنها معممّ عليها مجددًا.

رُحّلت إلى محافظتها في اليوم نفسه، وفي المركز الأمني سمعت رئيس قسم يقول «هاي خلص لازم أسلمها لحماية الأسرة، هاي تغيّب عن البيت». في إدارة حماية الأسرة طلب والدها أن تجري فحص الطب الشرعي، فاستجوبتها الشرطة عن احتمال إقامتها علاقة جنسية أثناء تغّيبها، وأخبروها أنها تمتلك الخيار بإجراء الفحص من عدمه لأنها فوق الثامنة عشر من عمرها، فوافقت على إجراء الفحص مع أنها أخبرتهم أن شيئًا لم يحصل. أجرت الفحص ثلاث مرات وتبين لهم صدقها، ثم أُرسلت إلى المحافظ الذي قال لها «أنتي بدك تجننيني؟ هسة رح تروحي مع أبوكي»، لكنها رفضت، فأُوقفت في السجن.

رغم أن قانون الحماية من العنف الأسري لا يشير إلى دورٍ للمحافظ (الحاكم الإداري) في مسائل العنف الأسري، إلا أن المعمول به هو توجه إدارة حماية الأسرة في كثير من الحالات إلى المحافظ، الذي يستند على قانون منع الجرائم لاتخاذ الإجراءات التي يعتقدها مناسبة، سواء كانت التعهد أو التوقيف الإداري، لمن يعتقد أن بقاءه طليقًا أو دون كفيل سيؤدي إلى ارتكاب جريمة أو يسبب خطرًا على الناس. لكن حالة النساء المعنَّفات -وفقًا لتفسيرات قانونية- تختلف عمّا نصّ عليه قانون منع الجرائم، إذ أن المحافظ في هذه الحالة يوقف الضحايا لا مصدر التهديد بحقهنّ.

تمّ توقيفها في مهجع بالسجن: «غرفة التحفظ كانت ملانة بنات، فوق الـ45 بنت، وفيها 13 تخت»، تقول آلاء. قضت هناك أشهرًا قبل أن تُرسل مع صدور عفوٍ عام إلى المحافظ، حيث رفض أبوها استلامها، فأعيدت إلى السجن مرة أخرى.

«مديرة السجن كانت تيجي تقولي اللي جابك عندي ظلمك»، مضيفةً أنه كان يتوجب أخذها إلى إحدى دور إيواء النساء المعنفات التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية. بالفعل، نُقلت بعد فترة إلى إحدى هذه الدور، رغم أنها عرفت في السجن نساء قضين سنوات من حياتهن هناك، ومع ذلك نُقلت هي إلى دار الإيواء قبلهن: «رحت سيرة وحسن سلوك، يعني كان سلوكي كويس لهيك ودوني». في الدار تغيرّت الحالة عمّا كانت عليه في السجن: «المعاملة بتختلف (..) هو سجن بس نظيف».

ظلّت في الدار لعامٍ تقريبًا، وقد حاولت إدارة الدار توفير تدريب على مهنة التجميل لآلاء لتتمكن من العمل بها بعد خروجها من الدار. لكن خروجها لم يكن سهلًا، فالنساء المعنفات الموقوفات إداريًا أو متحفظ عليهن في دور الإيواء، لا يطلق سراحهن إلا في حال الزواج أو العودة إلى منازل أهاليهن، أو الحصول على إقرار خطي من الأهل بالموافقة على منحهنّ حريتهنّ مع عدم التعرض لهنّ. تواصلت الدار مع والد آلاء لكنه رفض استلامها أو السماح لها بالخروج من الدار، ثم وافق على ذلك بعدما أخبرته إحدى المشرفات في الدار بأنه يحق لآلاء أن ترفع بحقه قضية نفقة.

هكذا، اجتمعت مرة أخرى بأهلها عند المحافظ، وأكّدت آلاء رفضها العودة إليهم، ليتكرر تهديدها بالإعادة إلى السجن، فقالت للمحافظ: «ليه إنت مُصرّ بكل الحالات تطلعني مجرمة؟»، ثم سألها المحافظ عمّا تريده، فأخبرته بأنها تريد السماح لها بالعمل واقتناء هاتف. تمّت المصالحة وخرجت مع والديها.

سمح لها والدها على مضض بامتلاك هاتف، وعملت في مصنعٍ لأشهر قبل أن يكتشف والدها بأنها تعرّفت على شاب، فصبّ عليها الكاز ورفع عمها عليها سكينًا، لكنها استطاعت الفرار منهما والتحدث إلى الشرطة التي أخذتها من المنزل وأرسلتها إلى إحدى دور إيواء النساء المعنفات، حيث قضت هناك بضعة أشهر، ثم بدأت الدار بإجراءات رفع قضية نفقة ضد الأب، فلمّا علم الأب بأمر القضية أعادها إلى المنزل، وقد وافقت على العودة بعدما نصّت المصالحة على زيارة أسبوعية لمنزلها من حماية الأسرة وتلقت وعدًا من والدها بتحسين وضعها، ولم يحصل الأمران.

في العام الماضي تأخر أخوها عن المنزل بعد المدرسة فضربه أبوه، ثم ضرب آلاء متهمًا إياها بتحريض إخوتها، وفي اليوم التالي تعرّضت لضربٍ من بعض أفراد عائلتها، قبل أن تصل الشرطة وتأخذها مجددًا إلى المركز الأمني ثم حماية الأسرة.

حاولت آلاء تقديم شكوى على والدها في المركز الأمني فأخبروها أن هذا دور إدارة حماية الأسرة، وعندما طلبت من حماية الأسرة تقديم الشكوى قالوا لها إن هذا دور المركز. ورغم أن والدها أخبرهم بأنه لا يريدها و«اتركوها خلوها تروح لحالها» لم يتم الإفراج عنها، إنما أُرسلت مجددًا إلى إحدى دور إيواء النساء.

لاحقاً، سمعت من الفتيات عن دار إيواءٍ تابعة لاتحاد المرأة الأردنية، يمكن فيها أن تتواصل مع العالم الخارجي وأن تعمل بحماية الاتحاد، وبعد محاولات عدة وافقت إدارة الدار التي تقيم فيها على نقلها إلى دار إيواء الاتحاد، «كنت كثير مبسوطة». أقامت في الدار أشهرًا تلقت فيها معاملة إيجابية من المشرفات هناك، واستطاعوا إقناع والدها بتوقيع تعهد رسمي لدى حماية الأسرة يسمح بخروجها من الدار دون التعرض لها مرة أخرى، كما أمنوا لها عملًا بتنظيف المنازل.

يفترض بالتوقيف الإداري أن يكون مؤقتًا، لكن الإفراج عن المرأة المعنفة الموقوفة يمتد حتى تتزوج أو يوافق أهلها على ذلك، وقد تواجه بعد خروجها صعوبة في التأقلم مع الحياة في الخارج: «الحرية حلوة بس صعبة، والناس ممكن يستغلوكِ إذا عرفوا إنك عايشة لحالك»، تقول آلاء التي ما تزال على تواصل مع مشرفتها من الاتحاد، فيما لا يتواصل معها أحدٌ من أهلها.

تعتقد آلاء أن ضياع سنوات من حياتها في السجون ودور الإيواء حرمها من التأسيس لحياة طبيعية. ورغم أنها تحب عملها الحالي وتجده مجديًا لها من الناحية المادية، إلا أنها تتمنى أن تستطيع يومًا ما إكمال تعليمها لتصير ممرضة.


* اسم مستعار حفاظًا على الخصوصية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية